بقلم/ جواد محمد مصباحي
فجماليات المكان أو القطعة/التحفة ضمن هذا المكان ما هي إلا نتيجة لاحتدام قوى داخلية في نفس المبدع:
ظاهرها دنيوي/ وظيفي: فالمسجد للصلاة، القبة حل هندسي لإيجاد الفضاء الواسع، الأرابيسك عنصر تكسية تزييني…الخ. كل هذه أسباب ظاهرية سهل على المتلقي معرفتها دون إمعان فكر أو تأمّل.
وباطنها أخروي/ تعبّدي: فجمالية عمارة المسجد تحيل إلى الإحساس بالسكينة الروحية، والتأمل في القبة يدفعك للتفكير في الملكوت الأعلى، وما عناصر الأرابيسك إلا إسقاطات لأفعال تعبدية:
فالزخارف النباتية بلطفها وبلينها وانسيابها: رحمة؛ والزخارف الهندسية بيبسها وقوّتها: حق ورهبة؛ والخط بالجمع بين الانسيابية والقوة: حكمة.
وكأني بهذا الفنان المبدع يعرج على درجات العرفان التعبدي بدءً برحمة ربه به أنْ جعله مسلما ينطق الشهادة بحكم فطرته، ثم ينضبط مخافة ورهبة من وجوب حق العبادة عليه، ليصل مرابط الصفاء والحكمة متأسيا بالصفات الإلهية بحكم المعرفة المطلقة بعد إذلال نفسه بالعبادات ودوام الدعاء. كل هذه أسباب باطنية لا ينجلي استقراءها إلا بعمق التفكير والتأمل الداخلي وأنت أمام التحفة.
عود على بدء فتمثيلية الجمال بشقَّيه الظاهري والباطني هي الدافع للارتكاز في عملية التصميم الزخرفيّ في الفنون الإسلامية على مبدإ الرؤية الجمالية الشاملة والمتمثلة في الانطلاق من الجزء/ البعض للوصول إلى الكل.
ويمكن حصر مبدأ الرؤية الجمالية الشاملة في عدة بنود دائمة التحقيق خلال عملية التصميم تتجلى في:
1-احترام النسب والتناسب
عند تحليل كثير من عناصر الزخرفة الإسلامية لن تجد نفسك إلا وأنت محصور بأشكالك داخل عنصر الدائرة، وما الدائرة إلا محيط متناسب بقدر معلوم يبعد عن المركز/”النقطة” أداته الفرجار.
النقطة: : وفي البدء كانت النقطة هي وحدة التعبير عن المطلق، عن الكلية، فهي المنشأ وهي المنتهى، هي الكل الذي لا أجزاء إلا به ولا انطلاق إلا منه ولا رجوع إلا إليه. وكأن الفنان بذلك يمثل عقيدته المبنية بالأساس على التوحيد المنطوق بقول “لا إله إلا الله”؛ فـ”لا” النافية لما قبلها إجمالا والناصة على ما بعدها مطلقا تحيل إلى سببية الوجود إلاّ لله تبارك وتعالى؛ فلا وجود إلا به جل جلاله هو الكل وهو المطلق. فكل مخاض للإبداع الزخرفي في الفنون الإسلامية يبدأ بهذا الجسم الذي حتْما لا يعبر عن العدم ولكن عن الخلق الفني والوجود الزخرفي، وكذلك عن نهايته. ومع التكرار المنتظم لهذا العنصر في اتجاه واحد كان “خط”.
الخط: فما الخط؟ هو المقدار المعلوم للابتعاد عن نقطة المركز لينتهي كذلك بنقطة، وبحركة انسيابية ليّنة رحمانية على نفس القدر المعلوم ننطلق لنعود للبداية وكانت “دائرة”.
الدائرة: فما الدائرة؟ إذا كانت النقطة من وجهة النظر التشكيلية/الرسومية يمكن التعبير عنها أداتيا بطبعة قلم أو فرشاة في حركة خفيفية منتظمة هي جسم معتم ذو كثافة في منتهى الصغر حجميا، فالدائرة ما هي إلا تكبير لهذا الجسم مع تلاش في الإعتام والكثافة الداخلية لتكون جسما شفافا محصورا بردة الفعل الحاصلة من الحركة الانسيابية الرحمانية للخط بالمقدار المعلوم على الواقع المحسوس.
وهي بيئة الإبداع للأشكال الأساسية في فنون الزخرفة الإسلامية؛ فمن خلال حركات هندسية مدروسة داخل هذه الدائرة بين مركزها ومحيطها محكومة بقواعد جبرية هندسية، نحصل على المثلث، المربع والخماسي، وهي النماذج الأولية لبنيات التشكيل والتصميم الزخرفي، سواء بشكل انفرادي وما يترتب عنها من علاقات هندسية زحرفية، أو من خلال تكرار الشكل الواحد وتداخله وما يترتب عن ذلك من تركيبات بنيوية. وكذلك يمكن الجمع بين هذه الأشكال الأولية في بيئة واحدة لتصبح زخرفا قائم الذات أو تخطيطا ناظما مركّبا يمكن من استنباط زخارف متنوعة.
فالاحتكام إلى شكل الدائرة في بنية التصاميم الزخرفية سمح للفنان المسلم بخلق أشكاله خاضعة لنسب معلومة وذات تناسق بنيوي، وكأنه يدلل من خلال إبداعاته على قول الرحمن تبارك وتعالى ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾(القمر:49).
2- توزيع العناصر
إذا كان الاشتغال في إنجاز الزخارف على الدائرة كشكل أساسي أدّى إلى احترام النسب والتناسب في الإخراج الفني -مما يدفع بالمتأمل إلى الانغماس في لحظات تذوق جمالي كله انبساط وسكينة وراحة نفسية كردة فعل على التوازن المظهري للتحفة- فإن توزيع العناصر ضمن الكتلة الكلية بشقَّيه: التوزيع الكمّي، والتوزيع الكيفي ما يزيد القطعة الفنية إلا رسوخا في البعدَين الجماليين الظاهري بالتوازن المرئي، والباطني بالاستقراء التأملي الانكماشي المعكوس، أي الدخول من الوحدة الفنية الكلية، إلى جوهر الفرد الجزئي بين التفاصيل وتحصيل كنهه.
وينقسم هذا التوزيع إلى شقين:
أ- التوزيع الكمي
ويتجلى من خلال تحكم الفنان المبدع في الكتلة والفراغ، على أية مادة من مواد الاشتغال وبتقنيات مختلفة.
فإذا تطرقنا بالقراءة لنماذج الزخرفة النباتية (فن التوريق)، -وهنا أفتح قوسا لأحدد عناصره المكونة بشكل إجمالي دون الدخول في متاهات اختلاف التسميات حسب البلدان والتقنيات-، لنكوّن فهما قاعديا لقراءتنا هذه.
فنجد أن هذه العناصر هي:
المسار: -وهو بمثابة الهيكل البنائي للوحدة الزخرفية- يأخذ في أغلب الأحيان أشكالا لولبية يمكن أن تكون مفردة أو مزدوجة، متعانقة أو متنافرة، تسرح بالمتأمل في تيه سرمدية الوجود اللانهائي. فلا وضوح لمركز البداية ولا استجلاء لنقطة النهاية، وكأن الفنان بمساراته هذه يعبّر عن معاناته وهو يعْبر هذا التيه لينتشي بنشوة الإبداع والخلق.
الورقات: -هي أجسام الوحدات المتفرعة من خلال هيكل المسار- تأخذ عدة أشكال حسب مادة وتقنيات الاشتغال، وكأنها انفتاح لهذا المسار في حركات توالدية، أخذت أصولها أولا من الطبيعة كتأويل لرياحين الجنة في العالم الأخروي، ثم هذّبت وتحورت لتصبح رشيقة المظهر تندمج مع المسار في كتلة واحدة فتزيد المتأمل تيها ونشوة وهو يحاول فكّ طلاسم تشابكاتها وترابطها.
فالاحتكام في البناء الزخرفي لهذا الفرع (الزخرفة النباتية) يكون مبدئيا لهياكل المسارّ داخل فضاء اللوحة، يحتم على الفنان توزيعا كمّيا محدودا لوحداته تحكمه خلفية التشكيل حسب المادة والتقنية، وهي الفراغ الموازن لكتلة البناء الزخرفي (مسار زائد ورقات).
وفي الزخارف الهندسية (فن التسطير) نجد أن التوازن الكمّي فيها يتضح جليا من خلال قراءة أَسميتها “القراءة الترابطية”؛ فالمتأمل لا يمكن أن يستوعب شكلا معيّنا دون أن يقرأ مجاله المحيط، فمثلا لا يمكننا أن نقول هذه نجمة ثُمانيّة إلا إذا حددنا محيطها وهو ثمانية رؤوس متساوية متقايسة، وكذلك العكس. فالأشكال شفافة إذا كان محيطها معتمًا، ومعتمة إذا كان محيطها شفافا، وكأنك في رحلة دائمة بين الظاهر والباطن، بين القبض والبسط.
أما وحدات الخط العربي فتختلف مقاييس التوزيع الكمي في تصميماتها حسب أنواع الخطوط المتعددة، لكن عند تنفيذ هذه الوحدات بالتقنيات المعمارية يتجلى التوازن الكمي بها كما في الزخارف النباتية من خلال لعبة التبادل بين الأرضية/الخلفية والتشكيل.
بـ- التوزيع الكيفي
بالإضافة لما ذكر بخصوص التوزيع الكمي في شتى فروع الزخرفة، نجد التوازن الجمالي في التحف الإسلامية من خلال بند توزيع العناصر يرتكز كذلك على مبدإ التوزيع الكيفي من خلال لعبة التوازن اللَّوني وتوزيعاته في العناصر، وكذا موازنة متلازمة “النور والظل”.
فقد حرص الفنان المسلم -ولا زالت التقاليد الفنية جلية راسخة في هذا الباب- على توزيع الألوان بشكل متوازن مع انعكاسات الظلال. وهذه تركيبة تناغمية توافقية بين الإحساس بثقل الكتلة الزخرفية، سواء كانت ألوانها حارة أو باردة، وكذا الشعور بشفافية الظلال وإعطائها وزنا في التعبير عن الفراغ حسب التقنيات.
ويمكن استجلاء ما ذكر بشكل قوي، والإحساس بتوازن الكتلة والفراغ في الأعمال الزخرفية الإسلامية من خلال إمعان التأمل في أيّة لوحة من لوحات آيات الجمال المعماري في العالم الإسلامي. وهنا يحضرني تعبير بلاغي في هذا الباب لعلَم من أعلام استقراء مفردات الفن الإسلامي: “تيتس بوركهارت” في مقالة له بعنوان “أسس الفن الإسلامي” حيث يقول: “فالمادة الخام -إن جاز التعبير- تم تخفيفها في العمارة الإسلامية وتحولت إلى شفافة بسبب الزخارف النباتية وأشكال المقرنصات التي حفرت فيها والتي تقدم آلافا من الإمكانات للضوء، مضيفة على الحجر والجص صفة الجواهر الثمينة. فالأرْوقة في فناء ما في “قصر الحمراء” على سبيل المثال، أو في مساجد معينة في المغرب العربي، قائمات في صمت تام، وتبدو في الوقت نفسه وكأنها منسوجة من تموّجات من النور، أو أنها نور يتبلْور وكأن صميم جوهرها ليس حجرا بل هو النور الإلهي، العقل الإلهي المبدع الذي يكمن إبداعه الخفي في كل شيء”.
3- الربط بين المساحات الزخرفية والأسطح
لقد مكنت شساعة رقعة التشكيل الزخرفي وكثرة استنباط العناصر، وكذا التركيبات البنيوية للزخارف الإسلامية حسب الرقعة الجغرافية للعالم الإسلامي، هذه الكثرة التي يمكن إفراد مكوّناتها على عمر الحضارة الإسلامية وهيكلتها حسب معطيات التاريخ، ولا زال نبضها لم ولن يخفت مادام هذا العالم الإسلامي محافظا على نظام الصنعة بنظمه، كمكوّن أساسي في الشخصية الإسلامية… أقول مكنت من إعطاء الفنان المسلم إمكانات كثيرة في تكسية الأسطح والمساحات بما يتلاءم معها من عناصر زخرفية دون نشاز في البلورة الجمالية للقطعة/التحفة، بل الأجمل من ذلك أنه كلما كان هنالك تعقيد معين في السطح المراد زخرفته يكون مدعاة وسببا في خلق فني جديد وابتكار زخرفي حديث يضاف لفهرس مكتبة الزخارف والتصاميم الإسلامية حتى يكون مرجعا لما بعد، تتناقله أيدي الصناع المهرة دون حكر على أحد.
وكذلك يمكن تطويع تصاميم صنعة ما لتلائم أخرى في تلاقح بين التقنيات يظهر جليا في مكونات الزخرفة المعمارية خاصة، من أعمال الرخام والخشب، والجص والزليج..الخ. وما يتمازج بين تقنياتها من مكونات زخرفية.
4-الوحدة في الكل والكل في الوحدة
بالارتباط مع بند التناسب المذكور أعلاه تأتي العلاقة الرياضية بين الجزء والجزء، وكذلك الجزء والكل في كيانات الزخارف الإسلامية كمبدإ أساسي للتقييم والإحساس الجمالي لدى المتأمل.
هذه العلاقة أمكن التعبير عنها من خلال خاصية التكرار والتماثل في الابتكارات الزخرفية؛ فالفنان المسلم لا يوجد الجملة التعبيرية زخرفيا ككيان واحد متكامل، بل هي أولا جوهر فرد غير قابل للتقسيم أو التجزيء، وبفعل عمليات التكرار والتماثل المحكومة بالعلاقات الرياضية المنطقية، تصبح هذه الوحدة البسيطة كيانا أكبر ذا قيمة جمالية أشمل.
هذا التواتر في الوحدات البسيطة والتناسق يدخل المتأمل بإيقاع موسيقي متراكب يتجاوز البساطة إلى التعقيد في رحلة من الجمال الظاهري (الجمال لأجل الجمال) إلى الإحساس بسمو المشاعر وصعودها في معارج الإجلال الجمالي، فيحس مقدار وجوده النسبي ضمن دائرة الكون كوحدة ترتبط مع الوجود المطلق للخالق تعالى القائل وقوله الحق ﴿هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ﴾(الحديد:3-5).
وكانت “نقطة” فـ”خط” ثم “دائرة”، وكأنك تلف بعبارات التسبيح “سبحان الله” و”الحمد لله” داخل دواخل النفس والروح في استظهار للصفات الإلهية يمكن استجلاؤه من خلال التأمّل العميق المسلّح باليقين والفهم الصحيح لعناصر مبادئ التصميم الزخرفي في الفنون الإسلامية كركيزة من ركائز الإحساس بجلال ديننا الحنيف وعظمته وجماله.