بقلم: جوفن ساك
أصبح من الصعب على رجال الأعمال الأتراك مزاولة أعمالهم والتجارة في الشرق الأوسط بمرور الوقت إذ أصبحت تركيا طرفا مباشرا في العديد من النزاعات بالمنطقة وصار لم يعد بمقدورها أن تحافظ على مكانتها كـ”وسيط مخلص” بين جيرانها.
مرّ عام 2014 بصعوبة بالغة على الأتراك فيما يتعلق بمزاولة أنشطتهم العملية والتجارية في منطقة الشرق الأوسط. بيد أنكم لو تذكرتم عندما ضربت الأزمة الاقتصادية مختلف أنحاء أوروبا في عامي 2008 و 2009 أصبح من الصعب تصدير البضائع إلى القارة العجوز. وبناء عليه سارعت تركيا التي تصرفت بحنكة إلى تسويق بضائعها في أسواق الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وأظهرت مرونة في التعامل من حيث تلبية احتياجات بعض الأسواق بعد تضاءل الطلب من جانب أسواق أخرى وبادرت الإدارة التركية إلى تنويع بنية صادراتها بشكل سريع.
لقد شهدنا نوعا من أنواع تبدل المحاور في الصادرات. ولا شك في أن هذه المناورة كانت مفيدة. وكان ما حدث متعلقا بمظهر تركيا في المنطقة بقدر تعلقه بآليات الاقتصاد التركي. فأصبح الأتراك قادرين على تأسيس شبكات عمل في كل مكان بالشرق الأوسط بسرعة فائقة وكان بمقدورهم التنقل بين دول المنطقة بسهولة إذ كانت قابليتهم على التحرك في تلك الأيام الجميلة عالية جدا.
ولكن للأسف يبدو أن الأيام الجميلة أصبحت جزءا من الماضي. وأرى أن مهمة تركيا في الشرق الأوسط ستكون أكثر صعوبة في المرحلة المقبلة. ولكن لماذا؟ للإجابة على هذا السؤال راجعوا تفاصيل صادرات تركيا الأخيرة إذ تراجع معدل الصادرات في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي بنسبة 7.5% فيما زاد عجز التجارة الخارجية. لماذا؟ لأن الصادرات بالدولار الأمريكي تقلّصت وارتفعت قيمة الدولار مقابل اليورو وأصبح من الضروري تقديم الكثير من اليوروهات من أجل الحصول على الدولار. فيما تصدر تركيا منتجاتها إلى أوروبا باليورو. أضف إلى ذلك تراجع الصادرات التركية بالدولار. وسيزيد عجز التجارة الخارجية بالدولار هذا العام وسيكون من الضروري على تركيا الحصول على المزيد من الدولارات لتمويل هذه العملية.
وبما أن تجارة تركيا في الشرق الأوسط تتم بالدولار فإن ما تحصل عليه تركيا من المنطقة من دولارات مقابل تجارتها مع دول الشرق الأوسط بدأ يقل بسبب الخلافات بينأنقرة وعواصم المنطقة. وهو الأمر الذي أفضى إلى انخفاض الإقبال على تركيا في المنطقة وهو ما لا يعتبر أمرًا جيدًا بالنسبة للاقتصاد التركي.
كانت الحكومة المصرية قد ألغت نهاية العام الماضي الاتفاقية التي تسمح بنقل البضائع بحريًا بين مصر وتركيا. فماذا حدث بعد ذلك؟ فقدت تركيا إمكانية الوصول السريع إلى أسواق الأردن ودول الخليج العربي عبر خط إسكندرون – بورسعيد البحري. وكانت تركيا قد أصبحت في حاجة إلى هذا الخط عندما صار من الصعب تصدير منتجاتها عبر الأراضي السورية بسبب الأزمة هناك. وكان على تركيا أن تجد طريقًا بديلًا لإرسال بضائعها بعدما أغلقت في وجهها بوابتا سوريا والعراق بسبب الفوضى
الحاصلة هناك. وكانت الحكومة المصرية قد فتحت طريقًا بديلًا أمام تركيا أيام الرئيس الأسبق حسني مبارك وكانت العلاقات بين البلدين وقتها جيدة. وعقب ثورة 25 يناير / كانون الثاني بدأ الخط البحري بين البلدين يعمل وإن كان قد واجه صعوبات جمّة. وما إن عادت الفوضى إلى مصر من جديد حتى أصبح لزامًا مرافقة قوافل عسكرية للشاحنات التركية في أثناء عبورها من شبه جزيرة سيناء باتجاه الشرق الأمر الذي عقّد الأمور أكثر. أما في عهد الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي فقد أفضى توتر العلاقات السياسية إلى تدهور العلاقات التجارية. وقررت مصر أن تولي انتباهها إلى ما تقوله أنقرة وليس ما تفعله ومن ثم ألغت اتفاقية النقل البحري الموقَّعة مع الجانب التركي. فأغلقت السلطات المصرية هذا الطريق في وجه تركيا ولم يعد هناك طريق بحري سوى طريق إسكندرون – حيفا. وكانت الحكومة الإسرائيلية قد سمحت بعبور الشاحنات التركية القادمة من هذا الخط عبر الأراضي المحتلة منذ وقت طويل وذلك بالرغم من عدم التحاور بين أنقرة وتل أبيب. فهذا الطريق مفتوح في الوقت الحالي لكنه كاسد بسبب عدم الحديث بين أنقرة والقاهرة. ومن يتحمل مساوئ هذا الأمر هم رجال الأعمال الأتراك. ففي الوقت الذي كانت لديهم فرصة لربط أوروبا بدول الخليج العربي أصبح من الصعب عليهم حتى عبور ميناء الإسكندرونة إلى الجنوب. لماذا؟ لأن السياسة تؤثر على التجارة إما بالإيجاب أو السلب. فنحن نعيش في منطقة الشرق الأوسط. فالعمل لايشبه الكلام على الإطلاق.
أعرف الصعوبة في هذه المسألة بشكل أفضل من خلال الرحلات الجوية بين إسطنبول وعمّان. لو سمحتم انظروا إلى الصورة الموجودة على الجانب.
لقد أصبحت الرحلات الجوية المنطلقة من إسطنبول إلى عمّان تطير عبر رسم حرف U عبر الأراضي المصرية. منذ متى؟ بطبيعة الحال منذ تسارع وتيرة الحرب الأهلية في سوريا ومنذ انقطعت العلاقات بين أنقرة ودمشق وأصبح الجانبان لا يثقان ببعضهما البعض. ومنذ ذلك الوقت والخطوط الجوية التركية لا تستطيع تسيير رحلاتها من إسطنبول إلى عمّان عبر سوريا. هذا غير مهم فيمكن السفر جوًا من إسطنبول إلى عمّان عبر إسرائيل دون أن يطول الطريق. وكان يتوجب على الحكومة التركية أن تفاوض نظيرتها الإسرائيلية لتنفيذ هذا الأمر وليس الشركة. لكن الإدارة التركية ساءت علاقتها بنظيرتها الإسرائيلية. ماذا سيحدث إذن؟ لم يعد بالإمكان السفر من إسطنبول إلى عمّان من خلال طريق مختصر وهذا بسبب أن السياسة تتحكم في العلاقات التجارية. ولكن انتظروا قليلًا لقد استطاعت أنقرة الاتفاق مع القاهرة في عهد الرئيس المعزول محمد مرسي عندما كانت العلاقات بين الجانبين جيدة على فتح ممر جوي جديد. واستطاعت الطائرات التركية – بفضل هذا الممر – أن تطير جنوبًا إلى مصر أولًا ثم تنحرف يسارًا نحو الأردن عبر شبه جزيرة سيناء. وعندما تصل هذه الطائرات إلى خليج العقبة تنحرف من جديد نحو اليسار ثم تطير مرة ثانية باتجاه الشمال ومن ثم تصل إلى العاصمة الأردنية. وكانت هذه الرحلة في الماضي تستغرق ساعة ونصف الساعة لكن الآن أصبحت تستغرق أكثر من ساعتين ليجلس الركاب أكثر على متن الطائرة التي تستهلك – بالتالي – وقودًا أكثر وترتفع تكاليف السفر من إسطنبول إلى عمّان لكن هذا ليس مهمًا الأهم أن هناك طريقًا للربط بين المدينتين. ولأقول لكم إن الطائرات التركية تستطيع الوصول إلى عمّان عبر الأراضي المصرية إلى هذه اللحظة. بالتأكيد سيستمر هذا لو لم تختلق إدارة السيسي المشاكل لوقف هذا الخط. فكما تعلمون أننا نعيش في منطقة الشرق الأوسط حيث السياسة هي المتحكمة في كل شيئ.
حسنًا، أليس هناك أساس لهذا التغير في السياسة العربية؟ في الواقع هناك أساس ألا وهو أن الشارع العربي الذي لم يعد يدعم تركيا أي أن أنقرة بدأت تفقد “سحرها” تدريجيًا في الدول العربية. وأتذكر آخر دراسة أجرتها المؤسسة التركية للدراسات الاقتصادية والاجتماعية في الشرق الأوسط إذ كانت الشعبية التي تتمتع بها تركيا قد بدأت تتراجع في عامي 2012 – 2013. فيما أجرت شركة “أصداء بيرسون ــ مارستيلر”، الرائدة في مجال استشارات العلاقات العامة على مستوى الشرق الأوسط دراسة بشأن الشباب العربي. فالاتجاه لديهم جميعًا واحد.
تشمل الدراسة سؤالا موجها إلى الشباب العربي مفاده: “أين كنتم تريدون أن تعيشوا؟”، فكان نصيب تركيا من الإجابات 16% عام 2012؛ إذ كانت تتقاسم المركز الثالث مع الولايات المتحدة عقب الإمارات العربية المتحدة بنسبة 33% وفرنسا بنسبة 17%. ثم يوجهون السؤال نفسه إلى الشباب العربي عام 2013 ولم يتغير شيء في الترتيب. ولكن في عام 2014 فشلت تركيا في أن تجد لنفسها مكانًا حتى بين المراكز الخمسة الأولى. وترتفع نسبة الولايات المتحدة من 16% إلى 21%.
وجّه القائمون على الدراسة سؤالًا آخر إلى الشباب مفاده “أية دولة تريدون أن تشبهها بلدكم؟”، فحلّت تركيا في المرتبة الثانية عام 2012 بنسبة بلغت 28% ولكن سرعان ما تراجعت إلى المرتبة الرابعة عام 2014 بنسبة 10% فيما ارتقت الولايات المتحدة إلى المركز الثاني بنسبة 25%.
وباختصار، صار الشباب العربي لا يعجب بتركيا التي كلما اهتزّت صورتها في العالم العربي أصبح من الصعب على رجال أعمالها أن يزاولوا أنشطتهم التجارية بسهولة كما كان في الماضي وهذا ما أراه من خلال متابعتي للوضع على أرض الواقع.
حسنًا، لماذا لم يعُد الشباب العربي يعجب بتركيا كدولة نموذجية؟ السبب أنه عندما أصبحت تركيا طرفًا أساسيًا في النزاعات التي تشهدها المنطقة مؤخرًا تحولت – دون أن ترغب بذلك – إلى دولة شرق أوسطية. وفي الواقع، هذا ما يحدث كلما ابتعدت تركيا عن السياسة العثمانية. فماذا إذن أصل السياسة العثمانية؟ أصل السياسة العثمانية يكمن في الوقوف على مسافة واحدة من جميع الأطراف في النزاعات التي تحدث في الولايات الخاضعة لسيطرتها وجعل نفسها فوق السياسة المحلية في هذه الولايات.
لكن ماذا يحدث في السنوات الأخيرة؟ أصبح من الصعب على الأتراك القيام بأعمال تجارية في المنطقة بعدما أجبر حزب الله اللبناني تركيا على إطلاق سراح رهائن شيعة في سوريا عن طريق اختطاف طيارين أتراك في بيروت. فتركيا أصبحت طرفًا مباشرًا في النزاعات التي تعيشها المنطقة ولم تستطع أن تحافظ على مكانتها كـ”وسيط مخلِص”. وحينها لن يعجب أحد بتركيا وفي النهاية سيكون الخاسر الأكبر في هذه المعركة السياسية هم رجال الأعمال الأتراك.
صحيفة” راديكال” التركية