عظمة المنطلق والهدف
فالرحلة “لا بد منها في طلب العلم، لاكتساب الفوائد والملكات، بلقاء المشايخ ومباشرة الرجال”، علما بأن “حصول الملكات عن المباشرة والتلقين، أشد استحكاما وأقوى رسوخا. فعلى قدر كثرة الشيوخ يكون حصول الملكات ورسوخها”. لهذا فإن طالب العلم يجني من رحلته فائدة عظيمة، “فلقاء أهل العلوم وتعدُّد المشايخ يفيده في تمييز الاصطلاحات بما يراه من اختلاف طرقهم فيها، فيجرد العلم عنها، ويعلم أنها أَنحاء تُعلم، وطرق تُوصل، وتنهض قواه إلى الرسوخ والاستحكام في المكان، وتصحح معارفه وتميزها عن سواها، مع تقوية ملكته بالمباشرة وكثرتها من المشيخة عند تعددهم وتنوعهم”.
إن الرحلة فرصة تتاح للرحّالة لكي يتفاعل تفاعلا مثمرا مع العلماء والطلبة الموجودين في البلد الذي يزوره؛ حيث تتكون المجالس العلمية، وينظر في مواضيع متنوعة، تتوحد فيها أو تتشعب حولها وجهاتُ النظر. وعلى هذا النحو، نرى أن القرآن الكريم يُستأثر باهتمام خاصٍّ في الرحلة الحجازية مثلا؛ فقد ترد الآيات القرآنية الكريمة على سبيل الاستشهاد أو التدليل والاحتجاج والاستنباط، وتثار أسئلة من أجل التفقه والمدارسة والتذوق، فضلا عن أن الرحّالة يتجاوب تجاوبا روحيا وفكريا مع فقهاء الركب وعلماء الزوايا والمساجد أثناء الطريق في رحلته، وكذلك عند توقف ركبه في مصر والحرمين.
ومما يقوّي الاعتقاد بأن الرحلة عند المسلمين تتخذ طابعا روحيا ودينيا، هو حرص الرحالة المسلم على أن يكون قصده من رحلته وجهَ الله حتى لا يكون حظه من السفر هو النصَب. ومن الأمارات الدالة على عمق الأواصر بين الرحلة والدين في الثقافة الإسلامية، انكباب كثير من الأئمة والعلماء المسلمين على السفر وانشغالُهم بتنفيذ رحلاتهم. وجدير بنا في هذا السياق، أن نشير إلى أن أهل المغرب الأقصى كانوا أكثر الناس رحلة وتقييدا لها، وفي مقدمتهم ثلّة من الأئمة المفسرين والحفاظ المحدثين والفقهاء.
ولا عجب في أن يستعمل الرحالة المغربي الرحلة إلى بيت الله الحرام دون أن يكترث بما يلاقيه من المشاق، طالما أنه يسعى إلى الظفر بما يرغب فيه من مثوبة من الله، فيحجّ لينخلع عن أوزار الدنيا ومآثمها. ولا شك في أن سلوك الرحالة في هذه الحالة هو جزء من الكل، لأن نشاط الرحالة يمثل فيه حسا دينيا مشتركا بين مختلف فئات المجتمع المسلم التي تهفو إلى أداء فريضة الحج، استجابةً لتعاليم الدين الإسلامي.
رحلة الحج.. أشواق عارمة وعواطف ملتهبة
ومهما بدت رحلة الحجاج المغاربة في ذهابهم وإيابهم محاطة بالمخاطر ومحفوفة بالمكاره، فإن جسورهم الروحية والثقافية إلى البقاع المقدسة، بقيت موشوجة وقوية. فلقد عظَّم المغاربة هذه البقاعَ وعبّروا عن شوقهم لزيارتها، و”إن هذا الشوق والحنين للأماكن المقدسة، ليس تعظيما للمكان وإنما للرسول نزيل ذلك المكان، وفي حبه حب للرسول صلى الله عليه وسلم”. ولعل الرحلة الحجية من هذا المنطلق تمثل امتدادا للشوق العارم والعاطفة الدينية الملتهبة، فلا يشفي غليل المسلم إلا أن يظل مستحضرا جلال المكان وقداسته، ولا يستطيع هذا المسلم أن يفارق البيت الحرام إلا بأسى وشجن. والأحب في ذلك -كما نقرأ في رحلة أنس الساري- ألاَّ يصرف بصره عن البيت حتى ينصرف. فليس عجبا بعد هذا أن يعدّد الرحالون مزايا زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم يسترسلوا في الحكي الذي يهدف إلى استثارة الهمم من أجل تحريك النفوس في اتجاه التعلق بحبّ هذا النبي الكريم والاستمساك بحبل الدين الذي بعث به.
ونستطيع الجزم هنا بأن توظيف الرؤيا في هذا المقام يصبح أداة تربوية بالغة التأثير، حتى إن بعضهم يقول بأنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، فسأله يا رسول الله هؤلاء الذين يأتونك أتفقه قولهم؟ قال: “نعم، وأردّ عليهم”. فمن وحي هذه الرؤيا تولد بذرة أدبية مخصوصة حيث تتحول وتيرة الخطاب من حكي ووصف إلى مباشرة وتوجيه عن طريق استثمار مرنٍ لبلاغة الالتفات، على نحو ما نجد في هذا الكلام الجامع بين النثر والشعر:
“فيا أيها الكئيب، انظر ما أجمل صفات هذا الحبيب، وما أكرمه على الرقيب المجيب. تالله إنك ما رأيت مثله ولا ترى، فكيف تُطيق عنه مُصطبرا؟! كيف لا تظهر عليه تلهفا وتحسرا؟! هذا وقد بصرك بالكتاب والسنة، فأصبحت متبصرا. ووعدك بالجنة، وكان لك مبشرا. فيا من يدّعي حبه وقد كذب في دعواه وافترى، أين موافقتك لأفعاله، أين اتّباعك لأعماله وأقواله؟ إنك والله لا تقفو من أثره أثرا. أما بلغك أنه كان يبيت من الجوع طاويا، ويصبح من التهجّد ذاويا، ومن القيام خاويا، وقد عُرضتْ عليه الكنوز، فلم يرض لها نظرا، كان يقطع الليل سهرا، ويبسط لمولاه كفا مفتقرا، وينكسر رأسه معتذرا، ويسأل في خلوته لأمته أن تدخل الجنة زمرا…” وأنشدوا:
يا سائقا يَطوي السَّباسِبَ والفَلا
مَهْلاً، فإنَّ الخيرَ في أمِّ القُرَى
لا تنـزِلَن بغيرِ يثربَ إنّها
سطعتْ بأنوارِ الرّسول كمَا تَرى
عجبًا لِتُربتـِها تُداسُ ولَوْ درَى
الماشي بها ما دَاسَ مِسْكا أذفَرا
شوقِي لتلكَ الأرضِ شوقُ مولَّه
ولع البكاءُ بطرفِه فاسْتَعْبَرا
فنحن نرى من خلال هذه الأبيات أن حديث الشوق يلتحم التحاما طبيعيا بتداعيات الحديث عن سلوك الارتحال إلى بيت الله لأداء فريضة الحج، سواء في ذلك أكان هذا السلوك متحققا بصورة فعلية أم كان مثالا ذهنيا وصورة نموذجية متخيلة تتوثب إليها نفس المسلم على نحو فطري.
رحلة النور.. والسير نحو المطلق
ومن هذا المنطلق، نستطيع أن نقول إن الرحلة بمعناها الديني، تُختزل اختزالا مكثفا في رحلة الحج التي نعتقد أنها خير ارتحال، لأنها نشدان للمطلق. وإذا لم يستطع المسلم إليها سبيلا، فما جعل الله لأحد سلطانا على مشاعره، حتى يحرمه من التشوّف إليها عن طريق ابتغاء معادل روحيٍّ وعمل شرعيٍّ يسمو به إلى مراتب الطمأنينة التي ما خصّ ببلوغها غيرُ من شرح الحق نفسَه وأشرق فيه نور الدين الصحيح. إذن تُختزل الرحلة الدينية في “رحلة النور والضياء” على الشاكلة التي حاولنا إثباتها آنفا في سياق قراءتنا للدلالات اللغوية والثقافية لكلمة الرحلة ذاتها. وإن النور الذي نتحدث عنه هو نور محمد صلى الله عليه وسلم، وهو نور من نور الله.
لعل الرحلة على هذه الصفة محبة غير محدودة، فهي سعي مسؤول لبلوغ غاية جليلة. ولعل هذه الغاية هي اللّذة الروحية الصحيحة التي تتوق إليها نفس الإنسان، ولا تسعد إلا بها؛ لأن هذا الإنسان جُبِل على محبة غير متناهية لخالق الكون، خصوصا أن الفطرة البشرية تكنُّ حبا للجمال وودّا للكمال وافتتانا بالإحسان. ثم إن ما في قلب الإنسان المؤمن من أنواع المحبة ودرجاتها للذين يرتبط بهم بعلاقات معينة، إنما هي ترشّحات من تلك الاستعدادات للمحبة الإلهية.
ولا يخفى أن تفكير الرحالة المسلم في زمن سفره تفكير بالمثال باعتبار أنه يستند إلى معيار دينيّ ويحتكم إلى سلطة هذا المعيار، حيث لا يقرّ بمبدإ أو يرجح رأيا على آخر إلا بموجب الإذعان إلى هاته السلطة. ثم إنه يحتفظ لنفسه بهامش من الحرية في مساق مفاعلته للعوالم الحضارية التي يكتشفها. وهكذا فلِمسافرٍ من قبيل إبراهيم الإلغيِّ مثلا أن يزور في مدينة الجزائر مسجدَ “الباي” الذي كان في الماضي كنيسة، وله أن يُعجب بجمال هندسته وبهاء شكله، لكن الشيء الذي يثير هذا المسافر المسلم هو السلوك الذي يرمز إلى وحدة الكيان الروحي عند المسلمين باختلاف أقطارهم وجنسياتهم. بل إن هذا السلوك هو مما همَّ الإلغيُّ بتدوينه بصيغة مباشرة وصريحة لمّا تحدّث عن نظام الصلاة في مسجد “الباي”، حيث لم يخف إعجابه بهذا النظام، وكذا بانتظام المصلين ورعايتهم لآداب الصلاة في الجماعة هناك.
ولقد جمع هذا الكاتب في رحلته بين روح نقدية حضارية واضحة، واحتكام إلى المثال الدينيّ، فكانت صورة هذا الجمع تفريعا مناسبا لنواة الموقف الدينيِّ الذي يعتدُّ بالعقل المؤمن المقر بالتوحيد، والمرجِّحِ للأخذ بالمصلحة الدينية، والبعيدِ عن غلواء التعصب الذي لا طائل من ورائه.
القدس الشريف.. محط قلوب الرحالين
ولا بد لنا في هذا السياق المتعلق بالتلاحم القوي بين الرحلة والدين أن نشير إلى الآثار التي رآها الرحالة المسلمون في القدس، والتي تحدثوا عنها بلغة تغمرها العاطفة الدينية. ولا ننكر في هذا الصدد أن أسباب الرحلة إلى القدس كثيرة، لكن النبرة الدينية القوية في وصف الرحالين المسلمين لبيت المقدس، تبيّن أن أعظم تلك الأسباب هو الدين، بل هو سبب نكاد ندرج كل الأسباب الأخرى في أطوائه.
إن الحديث عن القدس وعن المسجد الأقصى يتخذ عند الرحالين المسلمين بعدا دينيا واضحا، لهذا يحسّ المطالع للنصوص الرحلية المغربية، قديمها وحديثها، بأن المواضع المقدسة تحظى بأهمية دينية خاصة. وتلك مزية نراها في رحلة ابن عثمان المكناسي إلى القدس التي اختلفت عن رحلته إلى القسطنطينية. فمن المحقق أن ابن عثمان قد اعتمد في روايته للقدس وصفا خاصا “يعكس البعد الروحيَّ لهذه المدينة، كما يعكس لنا ميول المؤلف الروحية وتقواه ومعرفته الواسعة بالعلوم الدينية”. ويمكن القول بأن اهتمام ابن عثمان بجغرافية المكان لم يستنقصْ من قدر اهتمامه بالجانب الديني.
وربما كانت كل المسالك الصعبة، وكل المتاعب المترتبة عن السفر والمخاطر التي قد يتعرض إليها المسافر في اتجاه التحامه بالمواضع المقدسة في القدس الشريف، أشياء هيّنة بالقياس إلى حجم السعادة الروحية التي يسعى هذا المسافر إلى طلابها. ففي مثل هذه الأحوال تكون قوة الجذب الروحي أشدَّ عتوا من كل العوامل البيئية، من جدب وقيظ واختناق، ومن كل نزع نفسيّ، من فزع وارتكاس. هذه القوة هي الدافع الرئيس الذي يؤدي بالمرء إلى الاستخفاف بكل عارض من العوارض التي تحجب شوقه إلى معانقة ما هو مطلق.
الرحلة الإسلامية علم ومعرفة
ولا نمتري في أن مفهوم السفر يحتفظ في ظل الرحلة بمعناه الإسلامي بكثير من الخصوصية. فللمسافر المسلم في سفره استفادة نفسية لاعتبارٍ يكمن في أن السفر في أساسه حركة انفعالية غريزية تتمثل في طرح الهموم ونزع الغم، إلا أن هذه الحركة تستتبعها هنا مجاهدة دينية روحية تتحصَّل عنها فوائد علمية وتثقيفية. ومن أجل ذلك، فإن نعمة السفر تستحق أن يُحمد الله عليها.
ولا يتخلى الرحالة المسلم عن منطلقاته الدينية وهو يسعى إلى بيان وظيفة السفر عنده. وهذه المنطلقات كثيرا ما يتم الإفصاح عنها صراحة في استهلال الرحلة المزمع تدوينها، كأنْ يحمد الرحالة ربَّه الذي سيَّر سيرةَ العالم وقيَّضَ له أعوانا يعضدونه، وأنصارا يحمدونه، ثم يذكر الرسول صلى الله عليه وسلم الذي جفاه أهل بلده ووده الغرباء، فهاجر هجرة طيبة إلى المدينة الغراء.
إن السفر -كما يفهمه جل الرحّالين المسلمين- لا يراد لذاته، وإنما يراد لما يتحقق بواسطته من ثمار علمية نافعة، حيث “يزداد بالسفار وجَوْب البراري والبحار معاشرة أجناس العالم الشاسعة البلاد والنظر فيما أبدعوه من البدائع التي ليس لها نفاد. وأما مَن لازم وطنه، ولم يفك من أصر الدار رسنه، فقد عاش كالصغير الذي يبكي لفراق الحج، وكان ضيق العطن، قليل الحجة”.
من الواضح إذن أن هذا المفهوم الوظيفي للسفر الذي يتمثله كل رحالة مسلم يمتلك رغبة في تحصيل المعرفة وطلب الحقائق العلمية، هو مفهوم يكاد يكون مألوفا في المقولات التراثية المأثورة عند المسلمين. فليس مصادفة بعد هذا أن نجد فيها تكرارا لما يدل على ارتباط العلم بالسفر، إذ بفضل الفكر والعادات التي رسخها علماء الإسلام بات جليا أن السياحة تفكر وتدبر، وأن الرحلة سعي ومجاهدة وتأمل في ملكوت الخالق، وأن الانتقال بين الأصقاع، إن هو إلا وسيلة للتبحّر في العلوم على سائر أنواعها.