بقلم/ أديب إبراهيم الدباغ
والغربة في روح المسلم وعقله، إنما هي نتاج مصارعته للتمزق والانشطار بين الوجود والنفي، بين وجوده الإيماني وعدمية هذا الوجود، بين سلبيات الدنيا ولاشيئيتها وإيجابيات الآخرة ويقين حقيقتها. وهي ثمرة ذلك القلق الممض بين أن يكون أو ألاّ يكون، وهو -بعد ذلك- قلق يخصب الفكر، ويغني الوجود، ويفتح منافذ الخيال والوجدان على حقيقة الإنسان، وهو قمين بنفوس المتميزين من رجال العقيدة والإيمان.
هاجس مقيم
وتظل هذه الغربة هاجس المسلم الدائم، وقدره وقضاؤه، يلازمه ولا ينفك عنه ما دام يدرج فوق أديم هذه الأرض… صحيح أنه يسكن الأرض ويدرج فوقها، إلاّ أنها ليست المحطّ الذي يمكن أن يحط رحاله عليها إلى الأبد، ولا المكان الذي تنتهي إليه آماله، ولا الوطن الذي يملأ عليه خياله، أو يحتوي عظمة روحه.
إنه يمكن أن يملك الأرض، وأن يعمرها، ويحكمها بالعدل، ويقيم فوقها شرع الله… غير أنها تبقى مُلك يمينه؛ يأخذها إلى الأقوم والأحسن والأفضل بينما يظلّ قلبه مغلقًا دونها، فلا يخلد إليها، ولا يطمئن لها، بل يحسُّ بالوحشة والخوف منها، لأنها موطن الفناء والموت والعدم. ففي كيانه، وفي كلّ ذرّة من دمه نزوع إلى عالم هو الوجود كله، ووطن هو الخلود كله، وأرض هي الحياة كلها، لا يتهددها موت ولا يكتنفها زوال أو عدم… إنه ذلك العالم القدسي الذي أُبعِدَ عنه أبوه آدم عليه السلام. ومحال أن تُستَنْبَتَ بذرة الموت والعدم فوق أرض الحياة والوجود، فنـزل الأرض أُمَّ الموت والعدم، لأنّ شبيهَ الشيء منجذبٌ إليه، فصارت الأرض دار غربته، ووطن وحشته، لا يسكن إليها ولا يطمئن بها.
وقد أورث أبناءه من خاصية ذاته مرارة الغربة، ولوعة الحنين إلى الوطن الأول. فذاكرة الإنسان الباطنة وحافظة وجدانه، تخفي في تلافيفها جذور ذلك الاغتراب الآدمي، وأصول ذلك النـزوع إلى عالم الأب الأول. ومما يثير الدهشة أن يغدو تَوق “آدم” عليه السلام وزوجه إلى البقاء الدائم والخلود الأبدي -وهما في دار الخلود والبقاء- المنفذ الذي نفذ منه الشيطان إليهما بوسوسته: ﴿مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ﴾(الأعراف:20)، مما يدل على أنّ الآدمية مفطورة على هذا التَّوق، وأنّ في أصل خلقة كلّ آدمي نزوعًا عارمًا إلى البقاء والخلود، ففعلت وسوسته معهما فعلها، ففقدا بذلك سر الخلود، وسُلبا إكسير الحياة.
التوق إلى الخلود
إن ما يعتلج في نفوسنا من توق إلى الخلود والبقاء، ونفور من الموت والعدم، دليل على وجود البقاء والخلود خارج عالمنا -أكبر من كل دليل وأعظمه- لأن الانسان -كما هو معلوم ومشهود- لا يشتاق إلى عدم لا وجود له، ولا يرتبط معه بسبب من الأسباب. وسيظلّ القلق الحادّ يعتور “النفس الإنسانية” ويؤرّق وجودها، بسبب ذلك الإحساس المبهم بالوحشة، والشعور الغامض بالاغتراب في هذا العالم. وهو حسٌّ عميق الغور في النفوس لا يسهُل الخلاص منه أو الانفكاك عنه، لأنه يشكل جانبًا مهمًّا من جوانب الوجدان البشري. غير أن الشعور بالاغتراب الفكري والروحي وعلى الرغم مِما يخلفه من آلام وأحزان، يشكل عامل تحريك لقوى النفس، وتنشيط لخلايا الفكر والروح. فالإبداعات الفكرية الإيمانية مدينة إلى هذا الشعور بالاغتراب عند المبدعين، وإحساسهم بأنهم غرباء في أوطانهم وأزمانهم بغربة ما يملكون من فكر لم تتهيأ الأوطان والأزمان بعدُ لقبوله والتواصل معه، إلاّ أنهم يمضون في أداء رسالتهم على أمل أنْ يأتي ذلك الزمان الذي يُحسِنُ الفهم عنهم والتلقي منهم.
الشتاء الحضاري
غير أنه ومنذ دخول العالم الإسلامي شتاءَه الحضاري القاسي، وعقل المسلم لم يعُد عقلاً فاعلاً؛ إنه في حالة استرخاء دائم، ولم يعد العقل المستوفز المشدود اليقظ، والمستعد دومًا لالتقاط إيماءات الكون، واستلام إشارات الطبيعة.. لم يعد عقلاً مغامرًا يستهويه المجهول، ويفتنه المستور، حتى لكأنه يخاف الحقائق ويستهولها. فيتحاشاها ويهرب منها، وبذا لم تعد حياتنا الإيمانية وحدها مهدَّدة باليبس والنضوب، بل غدا إدراكنا نفسه مهددًا بالشلل والجمود.
إن دم إسلامنا الطيب الطهور يسري في عروقنا، ولكنه دم خامل هامد، به حاجة إلى “عملية فصد” لكي يتجدد ويستعيد حيويته ونشاطه. ولن يقدم على عملية الفصد هذه إلا واحد من مفكرينا، يمتشق قلمه، ويجعل منه مشرطًا حادًّا يغوص عميقًا في عقل المسلم وروحه ليحرك سكونهما، ويستنفر همودهما، وهذه السبيل التي لا مناص منها لكي تنشط عقولنا، وتتجدد قلوبنا وأرواحنا. وهذا المفكر آتٍ لا أشك بمجيئه، لأن زلزالاً فكريًّا رهيبًا يعصف اليوم بعقول مفكري هذه الأمة، ويوشك أن ينجلي عن منجم فكري عظيم يمدُّ المسلمين بكل نفيس وجديد من الأفكار.
الدين والحضارات
فمن المعلوم أنّ “الدين” هو الذي يقود مسيرة الحضارات في فجرها الصادق، ويهيمن عليها، ويعمر ضميرها، ويرسي قواعد سلوكياتها وأخلاقياتها، حتى إذا قويت واشتدّ ساعدها وعلا ضحاها ودلفت إلى ظهيرة عمرها، جاء دور العقل لينشر سلطانه فوقها، ويستحكم فيها، ويتحكم بها، وربما صار وثنًا يتعبّدُ له الناس من دون الله تعالى.
وقد فجّر الغرب اليوم حسّيّات الإنسان إلى آخر مداها وطاقاتها، وفجّر مع ذلك حسّ الأرض والسماء، وأثار خفايا الأرض بترابها ومائها وهوائها، فإذا بها تتزلزل وتلقي بأثقالها وأسرارها بين يديه ليبتني من عناصرها مدنية الحسّ المفتقرة في بعض جوانبها إلى دفءِ الروح، وشفافية الدين والإيمان.
حضارة الإسلام
أما حضارة الإسلام فهي وحدة واحدة، تبدأ بالعقيدة وتنتهي إليها. فالروح والعقل والحسُّ يتداخل بعضها في بعض، وتمشي جميعها جنبًا إلى جنب في جميع مراحل تطورها. فالسمع والبصر والفؤاد والعقل، كلُّ هؤلاء موضع الخطاب القرآني، وهي مناط التكليف في الدنيا، والمسؤولية في الآخرة. فحضارة هذا شأنها وإن غابت اليوم عن حسّ المسلم، ولم يعد يتلمس وجودها في واقع حياته، إلاّ أنها حاضرة قائمة في عقله وروحه، شاخصة في خياله وذاكرته، لم تقفر سماء ذاته من خفقات نجومها، وومضات كواكبها. وعلى الرغم من أنه يعاني اليتم، وكوالح الاغتراب، إلا أنه سيبقى متشبثًا بها، متعلقًا بأمراسها. ولن يغريه أحد بالتنكر لها، والانسلاخ عنها، لأنها تمتزج بأجزاء نفسه، وتجري في مجاري روحه.
قوة الفكر
إن قوة الفكر الذي تحتاجه هذه الحضارة لتنهض من جديد، قمين بعقول عظماء الرجال ممن عانوا الاغتراب الفكري، ووقفوا على مشارف الخطر المحدق بها من خلال البنى الفكرية التقليدية المكرورة، والتي فقدت وهجها وحرارة تأثيرها. فظهور هذا الفكر بين ظهرانَينا هو منعطف تاريخي مهم في حياة الإسلام والمسلمين، والسعي إليه فرضُ عين على كل صاحب قلم يحرص على وجودها كما يحرص على ماء عينيه. وإذا كنّا نصرُّ على أن يكون للفكر الإسلامي مكان مرموق في عالم اليوم، فلا بُدّ أن ينجم من بين فحول مفكرينا فكر قوي جديد يتسم بالأصالة والعنفوان، ليغزوَ كيان المسلم المعاصر وهو على أبواب العقود المتبقية من القرن الخامس عشر الهجري.
إنّ التجديد الذي تحدث عنه الأثر النبوي الشريف والقائل بأنّ الله تعالى يبعث على رأس كل مئة سنة مَن يجدد هذا الدين، هو أحد مفاخر ديننا، بل أعظم مفاخره. ففيه إشارة إلى ذلك الالتحام الأبدي بين ديننا وصيرورتَي الزمان والمكان، وهو سرُّ خلود هذا الدين وبقائه ما بقي الزمان والمكان.
الغربة في روح المسلم وعقله، إنما هي نتاج مصارعته للتمزق والانشطار بين الوجود والنفي، بين وجوده الإيماني وعدمية هذا الوجود، بين سلبيات الدنيا ولاشيئيتها وإيجابيات الآخرة ويقين حقيقتها. وهي ثمرة ذلك القلق الممض بين أن يكون أو ألاّ يكون، وهو -بعد ذلك- قلق يخصب الفكر، ويغني الوجود، ويفتح منافذ الخيال والوجدان على حقيقة الإنسان، وهو قمين بنفوس المتميزين من رجال العقيدة والإيمان.
خصائص هذا الفكر
وليس من همي هنا أن أستطرد في وصف هذا الفكر وما ينبغي أن يكون عليه، إلاّ أنني لا أرى ما يمنع من الإشارة إلى بعض ما نريده منه، لاسيما وإنه قد وَمَضَت منه ومضاتٌ عند البعض من مفكري الإسلام وعلمائه المحدثين؛ فنريده كالعاصفة المنطلقة من سجنها يوقظ هاجع الأفكار في جميع الأذهان، ويعصف بقبور العقول ومدافن النفوس لتقذف بأموات أفكارها وظلمات أرواحها بعيدًا عنها… ونرجوه فكرًا كونيًّا شموليًّا يربط ربطا محكمًا بين حقائق الدنيا وحقائق الآخرة، ويصل ما بين قلب الكون وقلب الإنسان… ونتمناه حارًّا دافقا يهدر بالأفكار كما تهدر شلاّلات الطبيعة، ليس فيه برودة “الأكاديمية” وجفافها، ولا ضبابية الإنشائية وتهويماتها، وإنما هو مزيج من فيض الروح ودفقه، ووقدة القلب وضرامه، وحرارة العقل وجلاله. إنه باختصار فكر قرآني يمنح الإنسان القدرة على فضِّ أختام العالم، وحلّ لُغز الوجود، وتمزيق ما تحجبتْ به الحياة من قُمُط النواميس والسنن وقوانين الأسباب والمسببات؛ فيأخذ بيده مخترقًا مفازات هذه الحجب ليوقفه بين يدي خالقه وبارئه، تاركًا العوالم كلها وراء ظهره في عبودية خالصة مخلصة لرب العالمين.
محمد صلى الله عليه وسلم الهادي والدليل
والله سبحانه وتعالى قد دلّ على وجوده بجموع هائلة من الآيات الآفاقية والأنفسية. إلاّ أنّ أعظم آياته، وأكثرها ظهورًا، وأبهرها إعجازًا بعد القرآن الكريم، إنما هو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، بصفاء جوهره، وكريم عنصره، وعظم خلقه. فهو المعنى الجليل الذي انتُدِبَت البشرية إلى فهمه، وهو القلم الذي علّمَ الإنسانَ مالم يعلم من معاني الإيمان والتوحيد، ووضع النقاط المضيئة فوق حروف الوجود لكي يمكن قراءته والتعرّف على معناه ومغزاه. فما من قلم في يد مسلم إلاّ وهو يستمدّ فكره من هذا النبي الأمي عليه أفضل الصلاة والسلام، ويتعلم منه، ويسترشد به، لأنه مرآة القرآن الكبرى، يعكس على العالم أفكاره وآياته ومعانيه عبرَ حركة الزمن المتجدد. وهو صلى الله عليه وسلم بين الأنبياء والرسل أعظم مجدديهم، وأكثرهم نجاحًا فيما انتدبوا له من مهام؛ فقد جَدّد ما رثَّ من تعاليمهم، وخَلِق من أفكارهم، وحُرِّف من رسالاتهم، وهو الذي أحيا عقيدة التوحيد الخالص وبعثها من رمسها، وأناط بها خلاص الجنس البشري من الشقاء الأبدي.
فالاسلام -قرآنًا وسنّة- وإن كان قد نسخ شرائع ما قبله، إلاّ أنه -بحد ذاته- تجديد لأصول هذه الشرائع وأساسياتها التي هي محور كل دين إلهي. فالتجديد إذن قد بدأ في تاريخنا بنبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم ولا ينبغي أن يتوقف في أمته إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها.
الجامدون الخائفون
وكل ما هو غير مطروق، ولا مألوف من الأشياء والأفكار الجديدة يتوجس منه الجامدون خيفة، وكلُّ مجدّدٍ غريبٌ في قومه ووطنه، منكر بينهم لا يكادون يفقهون عنه أو يسمعون منه. وقد عاش رسولنا الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم غريبًا في قومه بمكة ثلاث عشرة سنة، لأنه جاءهم بما لم يألفوا أو يعرفوا من الدين والإيمان. ومن هنا بات المسلم رهين غربتين، غربة مكانية حسّية ورثها عن جَده آدم عليه السلام، وغربة فكرية إيمانية ينـزع فيه إليها عِرْقٌ روحي تمتدُّ جذوره عميقًا إلى غربة رسوله المكية الأولى، وبين طوايا هاتين الغربتين في وجدان المسلم، تتشكل بصمت قواه الروحية، وتستكمل شخصيته عناصر تفردها وتميزها، ليصبح من بعدُ نوعًا إنسانيًّا متفردًا قبالة الكم البشري العادي. وهو وإن كان غريبًا في نظر هذا الكم ولغزًا مبهمًا لا يعرف كيف يفسره ويفهمه، غير أنه مع ذلك يحسُّ بأنه يضرب بعِرقٍ في كل نفسٍ، ويَمُتُّ بصلة إلى كل قلب، وربما رأى فيه تكفيرًا واعتذارًا عن تخلفه وعجزه عن التفرد والتميز.
فهو غريب لكنه مستطاب الغربة، بعيد لكنه أقرب ما يكون من الأرواح الحبيسة المعذّبة في سجون أجسامها، وأسمع ما يكون إلى أنين الإنسان وصراخه المفجع في دياجير الضلال، وأندى ما يكون على النفوس العطشى في بَلاَقِع الهوى الرهيب، وهو حاسّة الأمة السادسة التي تتلمس من خلالها دربها إلى الصراط المستقيم، وهو بُعدُها الرابع الذي تنفذ من خلاله إلى أغوار روحها الموار بخوالج الإيمان الدفينة، وهو عقلها الذي يفكر لها إذا ما اعتلّ عقلها، وداءت نفسها. كلُّ ذلك في إطار من جمال الروح، وجلال الفكر، وهيبة النبل والطهر، حتى لكأنه بصفاته هذه أثقل من أن تتحمله طينة الأرض، وأوسع من أن تحتويه دنيا الناس، وأشدّ تماسكا وقوة من أن يجرفه زَبدُ سيل العالم.