بقلم/ عرفان يلماز
الوظائف النباتية والحيوانية للأعضاء
إن العمليات والوظائف الضرورية الأربع لبقاء الحياة واستمرارها -وهي عمليات الهضم والتنفّس والدوران وطرح الفضلات- عمليات ووظائف تقوم بها النباتات كذلك، ولكن بأعضاء مختلفة. وإذا غابت هذه الوظائف أو توقفت، ظهَر الموت؛ أي غاب ما نسميه بـ”جوهر الحياة”. وبسبب هذه الوظائف المشتركة مع النباتات سميت هذه الوظائف التي تقوم بها هذه الأعضاء الموجودة في جسدك بـ”الوظائف النباتية”. فإذا كانت هذه الوظائف الأربع تعمل، فمعنى هذا أن ذلك المخلوق الحي مستمر في الحياة، ولكن هذه الحياة في مستوى النبات. ولكي يمكن الارتقاء إلى مستوى الحياة الحيوانية يجب -علاوة على هذه الوظائف- وجود وظائف إضافية أخرى مثل الوظائف العصَبية والحركية والحسية.
فإذا لم تكن هذه الوظائف الحيوانية موجودة فإن ذلك الحي يكون في مرتبة النباتات. وأنت كثيرًا ما تقرأ في الصحف “أن الشخص الفلاني دخل في حياة نباتية”، والمقصود بالدخول في حياة نباتية أن ذلك الشخص فقَدَ الوظائف الحيوانية؛ أي فقَدَ أعضاء الحس والمنظومة العصبية وقابلية الحركة، وأصبح مثل النباتات عاجزًا عن الحركة، ولكن استمرت عمليات التنفّس والدوران والهضم وطرح الفضلات عنده في العمل دون شعور منه.
وهناك العديد من اللطائف الخاصة بالإنسان وَحده مثل العقل والإدراك والإرادة والشعور التي وهبت للإنسان علاوة على الوظائف الحيوانية. ولا يمكن إرجاع هذه اللطائف إلى عضو معيّن إرجاعًا تامًّا. فهي لطائف خاصة، وهي تظهر مرتبطة بالوظائف الحيوانية من جهة، وبروح الإنسان من جهة أخرى.
منطقة الرأس وخطورتها
ولا توجد مراكز الأعضاء التي تقوم بالوظائف الحيوانية في جذع الإنسان، بل وُزّعت بشكل مذهل ودقيق في أماكن خاصة في الرأس الذي هو آية من آيات الفن. فمراكز الحواس كالرؤْيَة والسمع واللمس والتذوّق والشمّ، وكذلك مراكز السيطرة على الحركة موجودة في رأسك. وقد تم ربط هذه المراكز الموجودة في رأسك داخل الدماغ الذي يعد أعقد جهاز نعرفه في الكون، بجميع أعضاء الجسم الأخرى من خلال منظومة عصبية. لذلك فإن منطقة الرأس منطقة في غاية الأهمية. ولكونها تحمل تحفًا نفيسة وغالية فهي مثل دكان مملوء بالتحف والمجَوهَرات وهي منطقة حساسة ومعرضة للأذى وللخطر. فإن دخل مسمار في رجلك فستتألم، ولكنك تستطيع معالجة هذا الجرح دون أن تصاب بضرر كبير؛ أما إن دخل مسمار في أي عضو من أعضاء الرأس فسيولد نتائج خطيرة تتراوح بين فقد ذلك العضو لوظيفته والموت.
نعمة البصر
وكما فهمتَ من هذه المقدمة فإن منطقة الرأس هي مركز الوظائف الحيوانية ومركز اللطائف الإنسانية المقامة على هذه الوظائف. وعند ذكر منطقة الرأس أتبادر أنا (العين) إلى الذهن في الوهلة الأولى. لماذا؟ لأنك لا تستطيع قراءة هذه السطور أمامك إلا بواسطتي، ولا تستطيع رؤية ومشاهدة جميع أنواع الجمال التي يحفل بها الكون إلا بفضلي.
فلو لم يخلقني الله تعالى ويضعني في تجويفَين في الرأس لما عرفت شيئًا لا عن الضياء ولا عن الألوان ولا عن الأزهار والورود ولا عن جمال البلابل. ولولاي لخفت من المشي خطوة واحدة، لأنك لا تستطيع رؤية الأرض التي تطؤها. فعملية الرؤية لا تصل إلى دماغك ولا تتم إلا بواسطتي. ولو لم يخلقني الله تعالى ويخلق أعضاء الحس الأخرى لما وصلت الإنسانية إلى المستوى الحاليّ للعلم، بل لبقي دون هذا المستوى بكثير، لأن أهم طريق للحصول على العلم يمر من خلال الأعضاء السليمة للحواس، ولا يمكن الوصول إلى معرفة خصائص الأشياء وتسميتها إلا بواسطتها، حيث يمكن آنذاك تسجيلها وتثبيتها ووضعها في صيغ معادلات وقوانين.
ولكي تعرف أن الماء شفاف والتّفّاح أحمر والكمثرَى صفراء والورقة خضراء وزهرة البنفسج بنفسجية اللون فأنت محتاج إليّ أولاً. ولكي لا تصطدم بالجدران عند مشيك، ولكي تميز وجه أمّك وأبيك وأصدقائك فأنت في حاجة إليّ. أنت في حاجة إليّ عندما تأكل، وعندما تشرب وعندما تكتب وعندما تقرأ. وجرِّب محاولة المشي في الطريق لمدة عشر ثوانٍ وأنت مغمض العينين فماذا سيحدث آنذاك؟ سيكون الأمر صعباً عليك، أليس كذلك؟! سيلفّك الخوف من الاصطدام بشيء أو من السقوط.
يا عبد الله! تنفَّسْ عميقًا واشكر الله تعالى ربنا من أعماق قلبك وأنت مغمض العينين. فأنت لا تصبر على الظلام عشر ثوانٍ، فما بالك لو لم تعرف الضياء والنور طوال حياتك؟ وفكّر من حين لآخر في إخوانك الذين فقدوا نعمة البصر (بناءً على حِكمٍ عديدة وامتحانا لهم) واشكر ربك لأنه ما ابتلاك بمثل هذا، وتضرع إليه وادعه لكي يهب الصبر لهم لكونهم محرومين منّي.
بعض التفاصيل عني
والآن سأشرح بعض خواص بُنيتي ودقائقها… واعلم أن “جارلس دارون” عندما شاهد بدائع صنع الله فيّ أدرك أن من المستحيل ظهوري تلقائيا أو عن طريق المصادفات العشوائية في الطبيعة التي لا عقل لها ولا شعور، فما تمالك أن قال: “أكاد أُجَنُّ لأنني لا أستطيع تفسير ظهور مثل هذه الأعضاء المعقدة التركيب عن طريق المصادفات”.
إن الجمال والدقة الموجودة في تركيـبي لا نظير لها في أي آلة تصوير.. إن نظام عملي مرتبط بالخصائص التي وهبها الله ربنا للضوء وبقوانينه. لذا فقد درستم ودققتم كيفية عملي والمقاييس الموجودة عندي وقمتم بصنع أجهزة تصوير (كاميرات) بسيطة في البداية ثم نجحتم في صنع كاميرات جيدة وممتازة. ولكن إياكم ومقارنتي بهذه الكاميرات لأن النتيجة ستكون مخجلة لكم، فإن أفضل كاميراتكم تُعدُّ لعبة أطفال بسيطة بالنسبة إلي. وكانت الكاميرا الأولى البسيطة التي صنعتموها عبارة عن صندوق خشبي مغطاة بقماش أسود، وانقضت 175 سنة على هذه الكاميرا البسيطة، وعمل مئات وآلاف الفنيين والمهندسين في تطوير الكاميرات طوال هذه السنوات. وأخيرًا نجحتم في صنع كاميرات جيدة ومعقدة مثل الكاميرات التلفزيونية والكاميرات الرقمية.
فهل يستطيع أحد أن يدّعي بأن تلك الكاميرا البسيطة التي كانت عبارة عن صندوق بسيط وعدسة تطورت تلقائيًا وانقلبت إلى كاميرا حديثة متقدمة؟ وهل يمكن عزو جهود المئات من العلماء الذين استعملوا تراكمهم العلمي والفني لهذا الغرض إلى المصادفات العشوائية؟ وهل يمكن أن تتطور عيون حيوان رخوي أو عين حشرة إلى عين إنسان؟ طبعًا يستحيل هذا. ولكي تدرك هذا جيداً وتفهمه، عليك أن تملك بعض المعلومات عن تركيـبي وطبيعة بُنيتي على المستوى المجهري.
تركيبتي العجيبة
أنا على شكل كرة وأملك بنية قوية ومتينة ومرنة في الوقت نفسه ومركبة من طبقات عدة وأُشْبِه كبسولة مسدودة. يبلغ قطري 2.5 سم. وفي قسمي الخارجي يوجد غشاء صلب أبيض (sclera). ويتم حفظي ووقايتي بطبقة متينة مركبة من ألياف رابطة كثيفة. ويوجد تحت هذه الطبقة غلاف العين المشيمي (choroid) وهو عبارة عن طبقة تنتشر فيها كشبكة الأوعية الدموية التي تقوم بتغذيتي. وفي نهاية القسم الداخلي توجد شبكية العين (retina) وهي من أهم مكوناتي. وتحتوي على المستقبلات الضوئية. وتحتوي كل طبقة من هذه الطبقات على طبقات فرعية ولكل منها وظيفة خاصة، ولكني لا أريد هنا الدخول إلى التفاصيل.
والطرف الأمامي من بُنيتي الكروية محدَّبة بعض الشيء نحو الأمام والقسم الوسَطي من الطبقة الصلبة الموجودة في الأمام جُعل شفافًا لكي يسمح بمرور الضوء من خلاله ويدعى القرنية (cornea). وتغلف طبقة من غشاء مخاطي (mucosa) الجزء الخارجي من هذا القسم الشفاف لكي تمنع جفافي وهو غشاء مخاطي موجود في باطن الجفن.
ولكي يتيسر جمع أشعّة الضوء في بؤرة واحدة فقد زِيد في تحدب القرنية في القسم الأمامي منها أكثر من المناطق الأخرى. ويوجد خلف هذا القسم المحدب غرفة صغيرة وعدسة تقوم بفصل هذا القسم عن الغرفة الأصلية الكبيرة. وهناك سائل شفاف في الغرفة الصغيرة الموجودة بين العدسة والقرنية، يضفي عليّ اللون. وهو القزحية أو حدقة العين التي تبدو كثقب أسود. وتتركب قزحية العين (الحدقة) من عضلة خاصة تستطيع التمدد والانكماش لتضبط بذلك مقدار الضوء الداخل من خلال الثقب الموجود في وسطها. فعند اشتداد الضوء تنكمش لمنع دخول ضوء أكثر من المطلوب للحيلولة دون تضرر الشبكية وخدشها، وعندما يقلُّ الضوء تنفتح وتتوسع للسماح بمقدار أكثر من الضوء الساقط على الشبكية لكي تتم عملية الرؤية بشكل أفضل.
تقع الأربطة التي تمسك بالعدسة في مكانها وكذلك العضلة -التي تقوم بتغيير شكل العدسة لتعيير مساحة البؤرة وضبطها- أمام الطبقة التي توجد فيها الشعيرات الدموية. وعندما تنظر إلى القريب أو إلى البعيد فإن أحد العوامل التي تضبط مسافة البؤرة بشكل صحيح هو تغيير سمك العدسة، وتقوم بهذا العمل الأربطة الماسكة بالعدسة حيث تنكمش وتنبسط حسبما يتطلب الأمر.
وتوجد خلف العدسة الغرفة الكبيرة (الغرفة المظلمة) المملوءة بسائل حليـبي نصف شفاف. وبفضل كثافة السائل الزجاجي نصف الشفاف الذي يملأ هذه الغرفة وبفضل الضغط الذي يولده هذا السائل يأخذ شكلي الكرويُّ متانة وقوة أكثر. وتوجد في الطبقة الشبكية خلف هذه الغرفة المظلمة خلايا العُصيّات الحساسة للضوء وهي بشكل أنابيب ومخاريط.وتسقط الصور التي يشكلها الضوء الداخل من خلال القرنية والعدسة -الموجودة في الأمام- بشكل معكوس على الشبكية. وتوجد المستقبلات الضوئية (الخلايا الضوئية) بشكل كثيف في النُّقرة أو الحفيرة المركزية حيث تتشكل أوضح الصور هنا. وتَشَكُّل صور الأشياء هنا لا يعني رؤية تلك الأشياء بعد، لأن إدراك الصور ومشاهدتها فعليًّا لا تتم إلا بعد وصول هذه إلى المركز البصري في الدماغ، وإثارتها لمجموعة الخلايا الخاصة. ونحن نطلق اسم “الرؤية” على هذا الإحساس أو الإثارة المتولدة هناك.
إنّ سرعة التفاعلات الكيماوية والكهربائية التي تجري في هذه الخلايا نتيجة لتأثير الضوء سرعةٌ كبيرة جدًّا بحيث يندهش العقل منها. إنّ الإشارات الكهربائية المتولدة في خلايا المستقبلات الضوئية (نتيجة لتأثير الضوء) تنتقل بواسطة العصب البصري إلى الدماغ حيث تتم عملية الرؤية هناك. لذا فإنني أُعَدّ واسطةً فقط في عملية الرؤية.
التدابير المتخذة لحمايتي
ونظرًا لأنني عضو حساس لا أتحمل أي ضرر فقد حفظني الخالق ووضعني في تجويفين موجودين في جمجمتك؛ أي وضعني ضمن علبة صلبة وأمينة جدًّا، تتألف من الفك الأعلى، والعظم الوجني، والقسم الأسفل من العظم الجبهي، والعظم الدمعي، والعظم المصفوي (عظم تجويف الأنف)، والعظم الكُرواني. ولا تقتصر الإجراءات المتخذة لوقايتي على هذا فقط، فقد جهزني الخالق بجفنين؛ الجفن الأعلى والجفن الأسفل. وهما ينغلقان بشكل آلي عند ظهور أي خطر من جهتي الأمامية. وبفضل انفتاح جَفنيَّ وانغلاقهما في فترات معينة تتم عملية تنظيف طبقتي الشفافة الأمامية (القرنية). ويشبه هذا قيام منظفات الزجاجة الأمامية لسيارتكم بعملية التنظيف لها. وأجفاني ليست عبارة عن جلد اعتيادي ذي طيات، فهناك منظومة كبيرة من الغدد تقوم بترطيب القسم الداخلي للأشفار على الدوام وتدهينه ولصق ذرات التراب ببعضها وتنظيفها. وعندما تحزن وتتأثر كثيرًا تقوم الغدد الدمعية الموجودة بيني وبين الأنف بإفراز الدموع التي تملأ في بادئ الأمر كِيس الدموع، ثم تندفع بواسطة قناتين وتقوم بغسلي جيدًا. وعندما تبكي كثيرًا يقوم كيس الدموع بإرسال الدموع الفائضة عن طريق قناة ثالثة إلى الأنف، وهكذا يتم تنظيف هذه المنطقة كذلك.
وكلما زاد عدد أجزاء أي آلة أو جهاز كلما زاد احتمال عطبه. فإذا علمت أنني أتكوّن من عشرات الأجزاء، وكل جزء منها مكوّن من ملايين الخلايا، وهذه الأجزاء تكوّن منظومة تعمل بتلاؤم تام وبديع، علمت أنه من الممكن وقوع عطب في أي جزء من هذه الأجزاء احتمال وارد. ولكن خالقنا تعالى صاحبَ القدرة اللانهائية وضعنا في رؤوس الملايين من بني الإنسان لتنوير عالمهم دون أن يظهر أي عطب عندنا في أغلب الأحيان.
أحيانا تظهر بعض الأعطاب والأمراض عندنا لكي يرينا الله تعالى مقدار عجزنا وضعفنا. ولي نصيب أيضاً من هذه الأعطاب، ومن ذلك العطَب الذي يصيبني في موضوع انكسار الضوء وفي مجال رؤية البعيد أو القريب. وتستطيعون أنتم الآن تعديل هذه الأعطاب ببعض العدسات، ولكن من الصعب في معظم الأحيان شفاءُ أو علاج معظم الأعطاب التي تصاب بها خلايا مستقبلات الضوء.
ويجب أن يكون ضغط السائل الموجود في الغرفة الكبيرة متوازنًا أيضًا. فإن زاد هذا الضغط حصل صداع شديد ويطلق أطباؤكم على هذا اسم “كلوكوم”. فإن فقدت العدسة شفافيتها فهذا يعني حصول “عتمة عدسة العين (cataract)”. ثم هناك أمراض عديدة تصيبني من جراء الالتهابات التي تسببها بعض البكتريات والفيروسات، ولكن خلايا منظومة الدفاع الموجودة عندك تستطيع -بإذن الله تعالى- التغلب على هذه الجراثيم. وهناك أمراض أخرى مثل مرض السكري ونقص فيتامين A، تؤثر فيّ تأثيرًا سلبيًّا وتصلب الشرايين، وتؤدي إلى الإخلال في وظائفي، ويؤدي هذا إلى مشاكل كبيرة لك في حياتك.
يا عبد الله! أستطيع أن أحدثك عن نفسي بصفحات وصفحات، ولكني لا أود أن أشغل ذهنك بمعلومات عميقة في التشريح والفيزيولوجيا؛ لأن غايتي الرئيسية هي إظهار الصنعة الإلهية البديعة الموجودة في كل عضو من أعضائك، وإظهار حكمته الدقيقة، ومساعدتك في الوصول إلى مستوى من الفكر بحيث تقوم بشكره وحمده. وما أسعدني إن نجحت في هذا!..
______________
(*) الترجمة عن التركية: أورخان محمد علي.