مراد يتكين
لم يخترع حزب العدالة والتنمية – في الواقع – طريقة تبرئة الذمم عن طريق رفع أيدي السياسيين لكنه اتبعها هو الآخر. وهذا يعني أن صناديق الأحذية المليئة بالأموال والساعات باهظة الثمن والتضحية من أجل إنقاذ رجل الأعمال التركي من أصل إيراني رضا ضرّاب كانت افتراءات اختلقها أتباع جماعة الخدمة أليس كذلك؟
لقد عاش مراسلو البرلمان أمس الاثنين حماسة مزيفة. وبالرغم من أن اجتماع لجنة التحقيق في فضيحة الفساد كان مغلقًا أمام وسائل الإعلام لكن أخبارًا غريبة كانت تتسرّب إلى خارج القاعة.
وكأن رئيس لجنة التحقيق في قضية الفساد حقّي كويلو لم يكن يريد التصويت بحق الوزراء الأربعة المستقيلين المنتسبين إلى الحزب الحاكم. وكان من المفترض أن يحدّد كل عضو من أعضاء اللجنة وجهة نظره ومن ثم تحيل اللجنة التقرير إلى الجمعية العمومية يوم 9 يناير/ كانون الثاني الجاري دون أن يكون هناك نتيجة للتصويت.
فهل كان كويلو يريد تجنّب ظهور صورة تفيد بتبرئة الوزراء المستقيلين بأصوات نواب حزب العدالة والتنمية؟ أم أنه لاتزال هناك مجموعة من المترددين داخل كتلة الحزب البرلمانية تعارض حملة “لا للمحكمة الدستورية” التي وصلت إلى ذروتها من خلال الإعلانات الصحفية أمس بعدما استمرت لأيام عدة؟
غير أن خبرًا صدر عقب ذلك بقليل أحبط كل هذه التسريبات. كان كويلو وسائر نواب حزب العدالة والتنمية الآخرين قد وقفوا خلف الوزراء السابقين لدعمهم وأنقذوهم من أن يقفوا أمام هيئة المحكمة للإجابة على الاستجوابات الخاصة بادعاءات الفساد.
الوزراء الأربعة السابقون الذين جرى إنقاذهم هم: معمر جولر (الداخلية)، ظفر تشاغلايان (الاقتصاد)، أردوغان بيراقدار (البئية والتخطيط العمراني)، إيجمان باغيش (شؤون الاتحاد الأوروبي).
أما مَن أنقذهم فهم 9 من أعضاء لجنة التحقيق في قضية الفساد ينتسبون إلى حزب العدالة والتنمية: حقّي كويلو، مصطفى أكيش، يوسف باشير، مصطفى كمال شربتشي أوغلو، بلال أوتشار، إيلكنور إينجه أوز، عائشة تركمان أوغلو، عصمت صو، يلماظ تونتش.
فيما هناك 5 أعضاء طالبوا بمحاسبة الوزراء السابقين أمام المحكمة لكن طلبهم رُفض. هم: رضا تورمان، أردال أكسونجور، خلوق أيدوغان، نامق هافوتشا (حزب الشعب الجمهوري)، مسعود ديديه أوغلو (حزب الحركة القومية).
لكن إذا أردنا أن نتحدث بشكل منطقي وموضوعي سنقول إن حزب العدالة والتنمية ليس هو الذي استحدث طريقة “تبرئة” المتهمين بتهم فساد من خلال أصوات أعضاء الحزب الحاكم وليس أمام المحاكم المستقلة.
إذا تذكرتم حقبة الحكومات الائتلافية في تسعينيات القرن الماضي عندما كان حزبا الطريق القويم (DYP) والوطن الأم (ANAP) يبرئان نفسيهما من التهم والادعاءات التي كانت توجَّه إليهما من خلال لجان كهذه. فنحن لم نصل إلى ما وصلنا إليه اليوم بسهولة.
وبطبيعة الحال كانت الادعاءات التي أفضت إلى حلّ الحكومات في عهد حزبي الطريق القويم والوطن الأم بمثابة نقطة في بحر الادعاءات التي ظهرت يومي 17 و25 ديسمبر / كانون الأول 2013.
ولايكون النموذج السيئ نموذجًا يحتذى به بحسب عبارة: “لا يمكن لسوء الاستغلال أن يكون مثالًا”. وفي نهاية المطاف تفوقت وجهة نظر الرئيس رجب طيب أردوغان بشأن أن إحالة الملف إلى المحكمة
العليا يثبت أن ما حدث في 17 ديسمبر كان تحقيقا في أعمال الفساد وليس محاولة انقلاب ضد الحكومة وقد تحقق ما قال أردوغان.
وتحجُّج اللجنة بقولها: “لا داعي لمحاكمة الوزراء السابقين” ناجم عن إسقاط النواب العموم والقضاة المعيّنين في هذه المحاكم في وقت لاحق لملف التحقيق في قضية الفساد والرشوة.
حسنًا، لماذا تم تغيير النواب العموم والقضاة هؤلاء عقب تغيير قانون المجلس الأعلى للقضاء؟
ألم يقل أردوغان بعد عام تقريبًا أنه خُدع وتعرّض للخيانة من قِبل حليفه القديم الداعية فتح الله كولن وفريقه بقوله: “أقوم بنقد ذاتي”؟
وربما لو كان التحقيق في قضية الفساد محدودًا بتاريخ 17 ديسمبر 2013 لما كان أردوغان قد ألصق تهمة الانقلاب على حكومته بجماعة الخدمة. ولكن عقب إعطائه الضوء الأخضر لفتح لجنة البرلمان تحقيقًا بشأن تورط 4 من وزرائه بفضيحة الفساد تغير الوضع عندما أطلقت السلطات عملية أخرى يوم 25 ديسمبر من العام نفسه أي بعد أسبوع من العملية الأولى التي شملت هذه المرة عددًا من أفراد أسرته كذلك وذلك في اليوم نفسه الذي عزل فيه الوزراء الأربعة من الوزارة.
وتطورت الأحداث حتى اعتبر مجلس الأمن القومي الذي عُقد يوم 30 أكتوبر جماعة الخدمة التي وصفها أردوغان وداود أوغلو بـ”الكيان الموازي” داخل كيان الدولة التهديدَ الأول الذي يحدق بالدولة التركية تحت مسمى “تنظيم بنسلفانيا” نسبة إلى ولاية بنسلفانيا الأمريكية التي يقيم بها الأستاذ فتح الله كولن مصدر الإلهام لجماعة الخدمة.
ولاريب في أن الجزء المخفي من جبل الجليد هو السبب الكامن وراء ممارسة الضغط على لجنة التحقيق في قضية الفساد حتى لا ترسل الملف إلى المحكمة العليا (المحكمة الدستورية).
إذن كان الوزراء الأربعة المتهمون والمستبعدون من حكومة حزب العدالة والتنمية، سعداء بالأمس إذ أنه تمت تبرئتهم بأصوات زملائهم في الحزب.
ويبدو أن كل ما شهدناه يوم 17 ديسمبر من العام قبل الماضي من صناديق أحذية وعلب شيكولاتة ممتلئة بالملايين من الليرات والدولارات واليوروهات والساعات باهظة الثمن وآلات عدّ النقود والعلاقات المشبوهة برجل الأعمال رضا ضراب وما إلى ذلك ما كانت إلا عبارة عن افتراءات رمى بها منسوبو جماعة الخدمة التي خدعت حزب العدالة والتنمية على مدار 12 عامًا من فترة حكمه لتركيا هؤلاء الأبرياء.
حسنًا، من الذي قصده إذن داود أوغلو عندما قال “لو كان من يرتكب جريمة السرقة هو أخونا لقطعنا ساعده”؟ وما كان قصد وزير الصحة مؤذن أوغلو عندما قال “سنعاقبهم نحن بأنفسنا”؟
فإذا كانت كل هذه التهم افتراءات لا أساس لها من الصحة فعن أية عقوبة كانوا يتحدثون ومن الذي كانوا سيعاقبونه؟
وبكل تأكيد، بادر أعضاء حزب العدالة والتنمية، في تلك الأثناء، إلى التفكير في أنهم نجوا من محاولة انقلاب ضد حكومتهم وهم أكثر براءة وسرعان ما عمدوا إلى تنفيذ حملة أخطر. وتلخصت هذه الحملة في القضاء على المحكمة الدستورية.
ولأن الحزب الحاكم لايستطيع أن يتهم مؤسسة التوازن والرقابة الوحيدة الباقية في النظام (المحكمة الدستورية) بالانتساب إلى الجماعة أو الكيان الموازي أو باختصار بـ”جماعة كولن”، فإنه يتهمها بالوصاية من خلال انقلاب عام 1960 وهذا هو السلاح القديم. يفعلون ذلك وهم على علم بأن 10 قضاة من أعضاء المحكمة البالغ، عددهم 17 قاضيًا جرى تعيينهم في عهد الرئيس السابق عبد الله جول.
وما فعله وزير شؤون الاتحاد الأوروبي السابق إيجمان باغيش عندما عقد مقارنة بين “المحكمة العليا في مواجهة الشعب الأعلى” ليس من قبيل الشعبوية الرامية للدفاع عن نفسه بل يمكن قراءة هذا التصريح على أنه كواليس جادة جرت في “القصر الأبيض” من خلال حزمة يمكن وصفها بـ”القنبلة” أطلق الكاتب عبد القادر سلوي الصحفي بجريدة يني شفق المقرَّبة من الحكومة إشارتها الأولى في وقت سابق.
ولهذا السبب فإن حزب العدالة والتنمية لم يستحدث طريقة تبرئة المتورطين بادعاءات الفساد من خلال التصويت ورفع السياسيين أيديهم وليس أمام المحاكم المستقلة كما هو الحال في الدول الديمقراطية المعاصرة. غير أن القضية وصلت إلى أن تخطت أبعاد التضامن السياسي فقط بين رفقاء الدرب ووصل إلى مرحلة تقويض عملية رقابة السلطتين القضائية والتشريعية لصالح السلطة التنفيذية.
إن هذه الخطوة خطوة خاطئة؛ إذ إن القضاء المستقل قد يحتاج إليه أي واحد من المواطنين في يوم من الأيام بما في ذلك أولئك الذين يشعرون بالضيق إزاءه اليوم بالضبط كما أن الجميع بحاجة أيضا إلى وجود الصحافة الحرة في هذا البلد.
صحيفة” راديكال” التركية