بقلم / نور الدين طوبجو
ومع أنني فارقت بدني إلا أنني حملت معي بعض أحواله. أما أنتم فقد فعلتم بجسدي ما لم يفعل به عندما كنت حيا؛ انحنيتم عليه وبكَيتم، ثم حملتموه على أكتافكم. لم تكونوا ترونني ولكنني كنتُ أراكم. وعندما دفنتموه في التراب الذي جاء منه، أحسست أنه يلقى حياة جديدة لا مثيل لها، كنت أحس بأن جسدي الذي اختلط بالتراب لا يزال يحمل مني أشياء وأشياء، كان يحس من هذا اللقاء لذة لم يتذوقها أبدا في الحياة. أما أنتم فقد كنتم تبكون عليّ لأنكم لم تكونوا تعلمون إلى أين ذهبت، أما أنا فقد عشت في الحياة لمثل هذا الموت، وقد وصلت إلى أملي. عندما كنت بينكم كنت مثلكم أخشى الموت لأنني كنت أحبكم وكنت أكره أن أفارقكم جميعا. وعندما انحنى عليّ ملك الموت لم تلاحظوا الابتسامة التي ارتسمت على وجهي، وبدوري لم أستطع أن أقول لكم شيئا عن حالي.
لقاء الأحبة
ولم يستغرق انتقالي من دنياكم إلا لحظة قصيرة، وبعد أن دفن جسدي قلت للرسول: “إلى أين نحن ذاهبون؟” لم يقل لي: “إلى حيث تريد” وإنما أجابني قائلا: “إلى حيث كنتَ قد أردتَ” ثم أضاف: “إن الحياة التي عشتها لم تكن إلا تهيئة لك لحياتك الحقيقية هنا، وما ستلقى هنا إلا الأشياء التي طلَبتها في تلك الحياة”. سألته: “وهل أجد كل ما كنت أطلبه؟” قال: “ستلقى كل ما كنت تطلبه بإيمان وحبّ ووجد، كل ما كنت تطلبه بحق”. فرغبت أن أكون مع والديّ ومع روحين عزيزين توفيا قبلي. كيف بلّغتُ وأفهمتُ هذه الرغبة؟ لستُ أدري. غير أنه أجابني في التو: “ولكنك معهم الآن”. ملكتني الحيرة، لم أكن أصدق عيني، لقد كنت معهم. نعم كانوا هم أنفسهم. إن الوسائل التي تأكدت وعرفتهم بواسطتها كانت أقوى من الوسائل الدنيوية ألف مرة؛ كانوا في أجمل وأحب أحوالهم، في الصورة التي لا يمكن رؤيتها إلا في الأحلام. ولكن أكنت أرى بالعين وأسمع بالأذن وألمس باليد؟ كلا. إن وسائل معرفتي أصبحت مَلَكَةً وقابلية عندي؛ بهذه الملكة كنت أرى أقوى من رؤية العين، أسمع أقوى من سماع الأذن، ألمس أقوى من لمس اليد.
المحكمة الكبرى
سألت رفيقي: “ومتى سنقف أمام المحكمة الكبرى؟” قال: “نحن الآن هناك. انظر حواليك!”. كنا في ميدان كبير ليست له نهاية، وكانت القوافل الإنسانية بمختلف هوياتها وأحوالها تملأ جوانبه، وفي الوسط كانت فسحة كبيرة حيث كانت جميع القوافل الإنسانية وجميع الأفراد يأتون هناك ويحاسبون فردا فردا. كان ينادى على كل فرد عندما يحين دوره للمثول أمام المحكمة حيث كان يعترف بلسانه وبوجهه وبلحمه وبجلده ما اقترفه في الحياة
الدنيا.لم تكن هناك حاجة إلى شهود، إذ إن كل شيء وكل ذرة كانت تنطق عندما يحين وقت الكلام، بل إن الحادثة نفسها والفعل نفسه كانا ينطقان. وعندما جاء دوري دُعيت إلى مكان الحساب الذي كنت أرقبه برهبة وإشفاق. تكلمت ذنوبي نفسها، أما أنا فقد خجلت، وأحاط بي جميع الذين كنت قد أسأت إليهم، وكان أكثر خجلي من الذين ظلمتهم. آه! كم كنت ظالما دون أن أدري. لقد كنت أحسب نفسي رحيما رقيق القلب. كم كنت مقترفا الظلم بلساني إن لم يكن بيدي، وبقلبي إن لم يكن بلساني. ومن حسرتي وقسوة شعور الخجل الذي أحسست به في حضور الذين ظلمتهم. تمنيت لو أنني ظُلمت في الدنيا ولم أظلِم، أو لو أنني قُطعت إربا إربا ولم أظلم. أما صاحب المحكمة الكبرى فقد كان يرى ويشاهد حالي. وضع ذنوبي في كفة الميزان، ووضع وجدي ورحمتي في الكفة الأخرى، فرجحت الأخيرة ونالتني المغفرة الكبرى.
عالَم الأبدية
وعندما بدأت رحلة الحياة الأبدية في جنان الخلود رأيت الجميع هنا يعيشون في أجمل وفي أحب الأحوال إلى قلبي. كان الإنسان يتكلم مع جميع الأشياء، وجميع الأشياء تتكلم مع الإنسان. هناك إنسان متمدد وهو يعانق جبلا، وآخر يسيل مع الماء ويتأمله في الوقت نفسه. بعضهم ملتحفون بألوان الشفق الورديّ، وقافلة أخرى فتحت أجنحتها نحو السحاب جالسة على عين كبيرة نابعة من حضن غابة عبقة الأرجاء، يشاهدون جميع الوجوه الجميلة ويستنشقون عبير الزهور جميعها أمام المياه الباردة النابعة من الأعماق وكأنها أنوار تفور. أمامهم جميع الوجوه التي حلموا برؤيتها، فحققوا آمالهم بالصحبة الكريمة التي تمنوها طوال حياتهم، فوصلوا إلى اللذة الأبدية لجميع الأشياء التي أحبوها وتمنوها والتي ذاقوا منها -ولو قليلا- ورغبوا فيها في الحياة الدنيا. لقد استطاعوا في الدنيا أن يجدوا طريقا لنقل أجسادهم إلى دنيا الروح، وأن ينظروا إلى عالم الحقائق وإن كان من كوة ضيقة. كان هؤلاء أرواح الذين لم تكن عبادتهم عن خوف ولا عن عادة، وإنما كانت عن تأمل وعن حب وعن وجد وعشق. قد هيأوا أنفسهم لهذا اليوم عن علم، فجميع أفعالهم وحركاتهم في الدنيا كانت عبادة. والحقيقة أن الحياة الأبدية نتيجة ضرورية للتهيؤ المستمر الدائم في الحياة الدنيا، وليست منظرا ينكشف في لحظة واحدة خاطفة من وراء الأستار. والإنسان يستمر على الوتيرة نفسها التي انتقل بها من هناك. إن الآثار التي أنجزناها حتى موتنا ما هي إلا جذور للشجرة التي ستستمر بعد الموت، أما أغصان وثمار هذه الشجرة فتابعة لنوع هذه الشجرة التي زرعناها في الحياة. ويستمر الروح في النضوج من النقطة التي كان قد وصل إليها قُبيل الموت؛ والعبرة هي في الوصول الصحيح إلى الموت، أو بتعبير أحد الحكماء: “معرفة كيفية الموت”.
أما الاشياء والأمور التي رأيتها في عالم الأرواح التي وصلتْ إلى شاطئ السلامة فهي تَجلُّ عن الوصف. رأيت الرجال والجبال يتسامرون. رأيت الجداول وهي تتكلم مع الناس وتهب لهم مذاق جميع الأشربة دون أن تكون هناك حاجة إلى الشرب. رأيت الأرواح التي بلغت أمنياتها تسبح في أودية واسعة برذاذ المياه التي كانت كتل الثلوج الناصعة ترشها عليهم. رأيت الغابات التي لم تطأها من الأزل أقدام الآثمين تتماوج في أرجائها وتمتزج ببعضها أنوار الشموس الخضراء والوردية مستغرقة في تأمل آلاف العوالم. رأيت الشموس التي تذكر كل واحدة منها روحا صالحا يعيش في عوالم ثملة من الوجد والعشق، في عوالم لها وضوح العلم وحرارة الحب ووسعة الأمل.
عجائب الجنة
أحيانا كانت رؤية جمال وجه تُغرق هذا العالم بأجمعه في الجمال، وأحيانا كان ميلاد ذكرى جليلة يغمر جميع الأرجاء بضياء الشموس؛ إذ إن أي عبادة في الدنيا تجعل كل شيء أبديا. وعالم الجنة هذا مكان للذين كانوا يجدون الطمأنينة وراحة البال في أقل الأشياء، وليس للذين تكثر مطاليبهم ولا تنتهي. رأيت الصابرين يتبوأون هنا أعلى الدرجات. وكنت قد تذوقت نماذج من هذا الجمال -وإن كان بمقياس أقل- في الحياة الدنيا. والحقيقة أن أسعد لحظات حياتي كانت لحظات التأمل الذي كان مظهرا خارجيا للطمأنينة الروحية عندي. رأيت هنا الرحمة المنهمرة من الأعالي التي لا نهاية لها إلى الأرض التي لا نهاية لها. حضرت مجالس الصحبة بين الأنبياء والأولياء. شاهدت حكمة قوانين الكون التي كانت المعجزة الوحيدة التي تعرفونها في دنياكم، وشاهدت توزيع العدالة الإلهية هنا في ميدان القدَر. ومع أنكم كنتم غافلين عنها فإن هذه العدالة كانت مقسّمة بأكمل وجه في الدنيا. تأملت بكل شوق ولذة وجه “الخير” الذي هو وراء كل عمل حق. علمت أنّ الدنيا -التي كنتم تحسبونها دارا للشقاء والألم- ما هي إلا ممر للبصيرة وللحكمة. استرحت على الجسر الموصل من الروح إلى الله. تخلصت من الوحدة القاتلة. تخلصت من هذه الوحدة التي كانت أكبر عذاب لي في الحياة الدنيا، والتي كانت تمزقني بين كل شيء وبين كل موجود، والتي كانت تفصلني عن نفسي. لم يكن لي هناك من بينكم صديق حقيقي. عشت وحيدا بينكم، أسيرا لهذا العذاب. كنت وحيدا في الليل وفي النهار، في طفولتي وعلى فراش الموت، في غرفتي وبين الناس. عندما خُدعت وعندما مُدحت، في الغربة وبين أحبّائي. كانت الوحدة هي الداء الذي لم أجد له دواء في الدنيا، لكأنني عشت لها وتمنيت الموت دائما للخلاص منها. هذا هو الداء الذي تخلصت منه هنا.
الشوق إلى الله
وأخيرا اشتقت إلى “الرب” الذي مكنني من المثول بين يديه مرات في الدنيا دون عذاب ولا انتظار. سألت رفيقي المَلَك الذي ظهر بجانبي في تلك اللحظة: “أين هو؟” قال: “ولكن ألا تراه؟” قلت: “إن هذه الموجودات التي أراها هي نفسها التي كنت أراها في الدنيا ولكنها الآن في وضع الكمال وفي أشكالها الأبدية المطلقة، ولكن أين صاحبها؟ إنّ لكل مُلك صاحبًا، وأنا الآن أبحث عن صاحب هذا الملك”. ولكن دليلي أسكتني -وكأنه قلب تعرض لإهانة- بلسان تمتزج فيه الرحمة مع الحيرة والتهديد قائلا: “أأنت مجنون!!… أيمكن أن يكون هناك شيء “سواه”؟ وأمام هذا التنبيه رجعت إلى نفسي: أجل! في كل شيء هو هو هو،لم أكن منتبها من قبل. ففي كل موجود كانت تطل
أعين قدرته. لقد كنت في الحضرة العظمى، اهتززت بعنف قائلا: “يا رب!”، قيل: “تكلم!”.. ليس بكلمات، ليس كإنسان، بل كشعور لانهائيّ وكقدرة لانهائية، لا زمان عنده ولا مكان لسواه؛ لا جديد ولا قديم، لا مولود ولا ميت، لا غير ولا شبيه، لا بادئ ولا منتهي، لا سبب ولا نتيجة، لا “لا”، ولا شك. كنت في سعادة وفي فرحة كفرحة من يولد ولادة أبدية، فرحة لا يوجد مثلها أبدا في الدنيا. بلا صوت وبلا اهتزاز وبلا سبب، كأن جميع المخلوقات كانت تُخلق في تلك اللحظة، وكأن كل فرحة هذا الخلق تملأ وتفيض من نفسي. في أي حال كنت؟ أين كنت؟ نسيت كل هذا، لأن جميع الأشياء كانت قد انمحت. كنت قد غبت عن نفسي. في هذا العالم الذي انمحى فيه الزمان والمكان. كان هناك شيء واحد… شيء حقيقي واحد فقط: “هو”.