محمد عبد القادر خليل *
على الرغم من أن كثيرا ممن التقيتهم من نخب تركيا تحدثوا بوضوح عن أنه لا “نموذج تركيا” تسعى أنقرة لتصديره إلى بلدان المنطقة العربية غير أن متابعة بسيطة لسلسلة من تصريحاتهم وكتاباتهم توضح أنهم شكلوا قوة دافعة للترويج إلى “النموذج التركي” عبر الإقليم.
وقد كان هذا النموذج قابل للمحاكاة بالنسبة للعديد من دول الشرق الأوسط وبالأخص من قبل قطاعات واسعة من التيارات الشبابية التي روجت له عفويا ونظرت إلى تركيا باعتبارها دولة إسلامية ديمقراطية تحظي بتعددية حزبية وانتخابات نزيهة وحريات إعلامية وتؤمن باحترام سلطة القانون ونصوص الدستور هذا فضلا عن تحقيق معدلات تنمية اقتصادية لافتة فغدت نموذجا للدولة التي استطاعت تعزيز المكانة وتفعيل القوة وانتشار السياسات خلال سنوات معدودة.
الجاذبية للنموذج التركي كانت واضحة في مرحلة ما بعد “الثورات العربية” وفي إطار سعي العديد من الدول العربية إلى إعادة بناء الدولة State Rebuilding والتي يقصد بها إدخال تحولات جذرية في بنية مؤسسات الدولة وتغيير أنماط الثقافة السائدة في المجتمع وإعادة هيكلة نظمها الاقتصادية والسياسية.
وقد ساهمت العوامل السابقة في إنجاح فكرة “صناعة الدولة النموذج” بالنسبة لدول الربيع العربي خصوصا أنها ترافقت مع التركيز على الأبعاد غير الملموسة وخاصة “القوة الناعمة” Soft Power بما ساهم في تعزيز نفوذ تركيا الإقليمي بالاعتماد على فكرة جاذبية الدولة من حيث ثقافة قابلة للانتشار عبر الإقليم ومبادئ وقيم ديمقراطية تستند إليها في إطار سياساتها الداخلية وتحكم محركات سياساتها الخارجية.
وكان المتوقع أن يفضي ذلك إلى تكوين قوة دافعة محلية في البلدان العربية لمحاكاة “النموذج التركي” وهو ما يعني أن يكون بمقدور أنقرة أن تؤثر على خيارات العديد من الدول دون أن تتدخل فعليا في تحديد سياستها بما يشمل صيغة طواعية لممارسة القوة بدلا من الضغوط والمساومة والتدخل السياسي لفرض خيارات معينة.
إن ممارسة بعض التأثير لبعض الوقت في مسار الأحداث دون تدخل مباشر ساهم في تحقيق تركيا المكانة الإقليمية والدولية وذلك بعد أن ساهمت سياساتها ونخبتها الإعلامية والفنية والحزبية والعديد من القوى والتيارات الشبابية ووسائل الإعلام العربية في الترويج والتسويق لفكرة “الدولة النموذج” من خلال المساهمة في “صناعة الصورة”، والسعي لانتشار السياسات بما يعنيه ذلك من
نقل الخبرات السياسية والاقتصادية والإعلامية إلى دول الإقليم استغلالا للسمعة الإقليمية والعالمية التي باتت تحظي بها خصوصا من قبل قطاعات واسعة من الرأي العام الإقليمي والدولي.
وبينما كان استمرار ذلك يعني تشكيل ما أسماه سادات لاتشينار “النموذج الثالث” (توداي زمان 12 نوفمبر/ تشرين الثاني 2014) فإن التحول الدراماتيكي والابتعاد عن القيم الأساسية لهذا النموذج كان من قبل الحزب الحاكم في تركيا وليس من قبل قوى سياسية إقليمية حاولت هى ذاتها الاستفادة من تجربة تركيا إما بالمحاكاة أو التكيف أو التهجين أو الاستلهام بما يعنيه ذلك من أن يكون النموذج الذي تمثله تركيا مصدرا لتحفيز وإلهام للتفكير في برامج مختلفة وحلول غير تقليدية للمشكلات التي يعاني منها العديد من دول الإقليم.
ذلك أن سياسات حزب العدالة والتنمية على الصعيد الخارجي كان من نتائجها التدخل بشكل حاد في شؤون دول الإقليم وبدلا من أن تستمر تركيا في أن تؤدي دور الوسيط النزيه في الصراعات العربية تحولت إلى لاعب يسعى إلى التأثير في مجريات التفاعلات السياسية والأمنية داخل هذه الدول وفي أحيان كثيرة بالسلب فتحولت “القوة الذكية” إلى “قوة قلقة” بنظر بعض الاتجاهات الإعلامية والأكاديمية.
وبينما اعتقد البعض أن ثمة مراجعة ضرورية من مؤسسات حزبية لسياسات “الزعيم المفترض” بما يجنب تركيا العودة إلى مآل الخصومات والتوترات والصراعات والعزلة الإقليمية تماهت العديد من القوى السياسية والإعلامية مع السياسات السائدة.
هذا فيما تحولت وسائل الإعلام الناصحة بضرورة ترشيد صناعة القرار وإعادة تدوير الاتجاهات وضبط التفاعلات إلى خصم وعمل على إقصائها من خلال أدوات قهرية تمثلت في إسكات كل صوت معارض سواء كان سياسيا أو إعلاميا دون تقييم معتبر للسياسات من حيث سيادة مبدأ التكلفة والعائد.
فبدا أن ثمة ازدواجية تكتنف الخطاب السياسي فبينما تسعى تركيا وفق اتجاهات إعلامية وسياسية محسوبة على الحزب الحاكم إلى نشر ثقافة احترام الحقوق الإنسانية والحريات الإعلامية ونشر قيم حقوق الإنسان والثقافة الديمقراطية، إقليميا، كانت الممارسة بعيدة تماما عن ذلك فتحولت الدولة إلى سجن كبير للصحفيين وأصبح معيار الترقي داخل الحزب الحاكم وفي مؤسسات الدولة لمن أكثر ولاء وتبعية وليس وفق معايير النزاهة والكفاءة.
إن اعتناق هذا الفكر بمقتضى هذه السياسات ووفق ذات الرؤى والاتجاهات قد يساهم في نجاح “النموذج التركي” ليس في دفع القوى السياسية والإعلامية الإقليمية والدولية إلى الترويج لسماته الايجابية وإنما إلى التنبية لنمط مآلاته وطبيعة خبراته السلبية ولن يكون ثمة منطق أن يدعم قادة الرأي والإعلام نموذج قائم على سجن قادة الرأي والتفكير.
إن الردة عن فكرة “الدولة النموذج” بدأ الترويج لها بفعل سياسات الحزب الحاكم ونخبته الجديدة لذلك فإن سقوط النموذج يسأل عنه المتسبب فيه ولعل المشكلات الاقتصادية والسياسية وارتفاع حدة الاستقطاب السياسي والاجتماعي والتراجع الاقتصادي النسبي وخفوت الدور الإقليمي ليست إلا مجرد مؤشرات عما قد يكون أعمق وأشد تأثيرا.
ــــــ
* مدبر برنامج تركيا والمشرق العربي- رئيس تحرير فصلية شئون تركيا
مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية- القاهرة.