بقلم/ محمد سعيد رمضان البوطي
يعبر الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي رحمه الله عن شبابية القرآن وفتوّته فيقول “إن القرآن الكريم قد حافظ على شبابيته وفتوّته حتى كأنه ينـزل في كل عصر نضِراً فتياً. نعم، إن القرآن الكريم، لأنه خطاب أزلي، يخاطب جميع طبقات البشر، في جميع العصور خطاباً مباشراً، يلزم أن تكون له شبابية دائمة كهذه. فلقد ظهر شاباً، وهو كذلك كما كان. حتى إنه ينظر إلى كل عصر من العصور المختلفة في الأفكار والمتباينة في الطبائع، نظراً كأنه خاص بذلك العصر، ووفق مقتضياته، ملقناً دروسه ملفتاً إليها الأنظار”(1).
“إن آثار البشر وقوانينه تشيب وتهرم، وتتغير وتتبدّل، إلا أن أحكام القرآن وقوانينه لها من الثبات والرسوخ بحيث تظهر متانتها أكثر، كلما مرت العصور”(2).
عصر أصمّ أذنيه عن سماع القرآن
“نعم، إن هذا العصر الذي اغترّ بنفسه، وأصمّ أذنيه عن سماع القرآن أكثر من أي عصر مضى، وأهل الكتاب منهم خاصة، أحوج ما يكونون إلى إرشاد القرآن الذي يخاطبهم بــ(يَا أَهْلَ الْكِتَابِ) حتى كأن ذلك الخطاب موجه إلى هذا العصر بالذات، إذ إن لفظ “أهل الكتاب” يتضمن معنى أهل الثقافة الحديثة أيضاً. فالقرآن يطلق نداءه يدوي في أجواء الآفاق ويملأ الأرض والسبع الطباق بكل شدة وقوة، وبكل نضارة وشباب، فيقول (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ) (آل عمران: 64)”.(3)
ثم إن الأستاذ رحمه الله تعالى أخذ يعرض من الأمثلة التطبيقية ما يؤكد فتوّة وشبابية القرآن الباقيتين في كل عصر، على حدّ تعبيره.
وأقول: إن هذه المزية واحدة من أخطر وأروع المزايا التي لا تنطبق إلا على كتاب الله عز وجل: القرآن. غير أن هذه المزية لا تولد وتستبين إلا في رحم الأجيال والعصور المتعاقبة. فالمسلمون في صدر الإسلام وعصوره الأولى لا يستطيعون أن يلاحظوا فيه هذه المزية لجهلهم بما ستأتي به العصور اللاحقة من أعراف وتطورات ومعارف وعلوم جديدة، حتى يستبين لهم موقف القرآن منها وحديثه عنها. أما اليوم وقد تراكمت على ساحة التاريخ ألوان من التقلبات والأفكار والاكتشافات والأحداث، متجمعة من سلسلة العصور المتلاحقة، فإنّه بوسعنا، إن عدنا نتأمل في خطاب القرآن لأصحاب هذه العصور كلها، أن نتبين جدّة القرآن، أو شبابيته على حد تعبير بديع الزمان، من خلال تآلفه مع سائر ما قد مرّ أو يمرّ اليوم على دنيا الناس من تطورات في أعرافهم وأفكارهم وظروفهم وعلومهم.
يركز بديع الزمان حديثه عن جدّة القرآن، رغم تقادم ذلك العصر الذي نزل فيه، على ما يحمله القرآن للناس من مبادئ ودساتير وقيم حضارية وسلوكية، ويبين لنا مدى جدّتها ومدى احتياج الناس في كل عصر إليها، في مقابل تهافت الجديد الذي يخالفه والذي تبتدعه اجتهادات الناس مع تقلبات الأزمنة والعصور، ويضرب لذلك أمثلة كثيرة.
القرآن يخاطب جميع المستويات الثقافية
إلاّ أني أتصور أن هذه الجدّة المستمرة أبعث على الدهشة وأكثر إثارة للعجب، عندما نقف عليها من خلال التعابير القرآنية عن حقائق وظواهر كونية، تتفاوت مدارك الناس في رصدها واستيعابها، إذ يكون فيهم الجاهل الذي لا يدرك منها إلا ظاهر ما يرى، ويكون فيهم المثقف الذي يضيف إدراكه إلى ذلك الظاهر المرئي بعض خفاياه العلمية، ثم قد يأتي في أعقاب هذا وذاك من قد خولته معارفه أن يضيف إليهما معلومات معمقة لا يتبينها إلا أصحاب الاختصاص أو الذين ساعدتهم عصورهم العلمية على معرفة هذا المزيد.
وتنظر إلى حديث القرآن عن هذه الظواهر الكونية، فتجده يعبر عنها بألفاظ دقيقة وبأسلوب متميز، بحيث يدرك الجاهل من حديث القرآن عنها ما يتطابق مع الظاهر المرئي الذي وقفت عنده مداركه؛ ويدرك المثقف من الحديث ذاته بالإضافة إلى ما فهمه الأول، ما يتطابق مع بعض تلك الخفايا العلمية التي علمها؛ ويرى العالم المتخصص الذي جاء في العصور التالية في الحديث ذاته، بالإضافة إلى دلالته على المعنى السطحي الأول، والمعنى الخفي الثاني، دلالة واضحة على عمق علمي لا يدركه إلا أصحاب الغوص والاختصاص.
هذا مع العلم بأن دلالة الصيغة القرآنية على هذه الطبقات أو الدرجات الثلاث تأتي واضحة متساوقة، دون أي تمحل أو تكلف مما قد يطيب لبعض الناس فعله، عندما يتمحلون في تحميل بعض الجمل أو الألفاظ ما لا تحمله من المعاني.
انظروا إلى قول الله عز وجل: (وَاْلأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ)(الذاريات:48). إن الأعرابي عندما سمع هذا الكلام الربّاني في صدر الإسلام، لم يشكّ أنه وصف لواقع مرئي مشاهد من صفة الأرض ذات الامتداد المرئي لكل ذي عينين، وهو امتداد ييسر للناس الذين يتحركون على ظهرها أن يمارسوا بسهولة ويسر أسباب معايشهم. أما العلماء المدققون والمتخصصون الذين جاؤوا فيما بعد، فلم يشكّوا عندما سمعوا هذا الكلام الدقيق، أن الحديث إنما هو عن الأرض كلها، أي بمعناها الكلي، أي فالامتداد وصف لسائر أجزائها السطحية. فإن سرت مع امتداد الأرض إلى أقصى الشرق، لن تجد لهذا الامتداد أي حافّة أو نهاية، وإن سرت مع امتدادها إلى أقصى الغرب، رأيت الأمر كذلك، وكذلك إن سرت متجهاً إلى الشمال أو الجنوب. وهذا يعني أن الأرض ممتدة في انحناء مستمر إلى أن يتكون لسطحها محيط دائري مكور.
وهذا المعنى ذاته هو الذي ينبثق، بهذا التدرج، من قول الله تعالى (وَإِلَى اْلأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) (الغاشية:20) وهذا هو قرار القرآن قبل أن ينطق به أو يدركه أحد من الناس.
فانظروا إلى المعنى السطحي الأول، كيف يتممه المعنى الدقيق الثاني، في تناسق وائتلاف، أي دون أن ينسخ الثاني منهما الأول، ليتكون من العبارة التي تحمل المعنيين الخطاب الشبابي المتجدد، كما يقول بديع الزمان، لسائر طبقات الناس في سائر العصور المتوالية.
كلمة »دحا« تأتي في اللغة العربية بمعنى عظّم، وبمعنى وسّع، وبمعنى كوّر؛ وقد تكررت بمعناها الثاني والثالث في هذه الأبيات لابن الرومي:
إن أَنسَ، لا أنْسَ خبّازاً مررتُ به
يدحو الرقاقةَ وَشْكَ اللمْحِ بِالبصرِ
ما بين رؤيتها في كفّه كُرَةً
وبين رؤيتها قَوْراءَ كالقمر
إلا بمقدار ما تنداحُ دائرةٌ
في صفحة الماء يُلْقَى فيه بالحجر
ويقول الله عز وجل (وَاْلأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا) (النازعات:30) يقرأ هذا الكلامَ العربيُّ الذي لا يعلم عن الأرض وهيئتها إلا الشكل الذي يراها عليه وهو الاتساع والبسط، فيفهم من قوله “دحاها” هذا المعنى الذي يراه. وهو فهم صحيح يطابق المعنى اللغوي للكلمة. ثم يقرؤها العالم الفلكي أو المثقف العادي في هذا العصر، فيفهم بالإضافة إلى ما تحمله الكلمة من المعنى الأول، ما تدل عليه أيضاً من معنى الاستدارة والتكوير.
وإننا لنلاحظ كيف أن الكلمة تحتضن كِلا المعنيين، على درجتين من السطحية والعمق؛ وكيف أن المعنيين مندرجان في تساوق وتآلف، أي دون أن يقع بينهما أيّ تشاكس أو تعارض. وهكذا فالكلمة ذات جدّة إذ سمعها الأعرابي قبل خمسة عشر قرناً، وهي ذات جدّة أيضا إذ يصغي إليها العالم المتخصص أو المثقف من الناس اليوم.
ولنعرض مزيداً من الأمثلة فنقول: يصف القرآن القمر دائماً بالإنارة، في حين يصف الشمس بالإضاءة أو السراج. فهو يقول مثلاً: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً) (يونس:5) ويقول: (تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ في السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً) (الفرقان:61) ويقول: (أَلم تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقاً وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمسَ سِرَاجاً) (نوح: 15-16).
معاني المنير والمضيء والسراج في القرآن
والجامع المشترك في اللغة بين معنى المنير والمضيء والسراج، هو نقيض الظلمة. ثم إن كلمة المنير تنفصل عن المضيء أو السراج في أن المنير هو ما ينعكس إليه النور من جرم آخر، أما المضيء والسراج فهو كل ما ينبثق منه النورُ حرارةً، أما المنير فلا يطلق إلا على ما ينعكس إليه النور دون أن يبث أي حرارة.
إذن، فحديث القرآن عن كل من الشمس والقمر يحمل معنى ذا ثلاث درجات: سطح قريب يفهمه الناس كلهم، ألا وهو الجامع المشترك الذي هو نقيض الظلمة؛ وعمق يصل إليه المتأملون، ألا وهو التنبيه إلى أن ضياء الشمس مصحوب بحرارة أما نور القمر فخال ومجرد عنها؛ وجذر بعيد يدركه الباحثون المتخصصون أو المثقفون من أهل هذا العصر، ألا وهو أن القمر ينعكس إليه الضياء من جرم آخر هو الشمس، في حين أن ضياء الشمس ينبعث من داخلها.
وهكذا فإن هذه الآيات تفيد كل فئات الناس على اختلاف ثقافاتهم واختلاف عصورهم حسب قدراتهم الفكرية، دون أن يقوم أي تعارض علمي بين حظوظ هذه الفئات فيما يفهمونه من معانيها. إذ هي معان لغوية صحيحة متساوقة ومتدرجة من السطح إلى العمق فالجذور.
حقا إنها شبابية علمية دائمة مستمرة يتّسم بها كتاب الله عز وجل، الذي يمخر أطوار المعارف والعلوم في جدّة تستعصي على التقادم، وهيمنة علمية سامية لا تقهر.
ولكن إياكم أن تتصوروا أننا بهذا الذي أوضحناه نجنح إلى موقف أولئك الذين يحمّلون نصوص القرآن كل ما يروق لهم من النظريات أو التصورات العلمية الرائجة، في تكلف لا موجب له، وبطريقة هي أشبه بالعبث بالقرآن والتلاعب بقانون دلالاته..!
إننا لسنا من هؤلاء العابثين في شيء، ولسنا ممن يدعون إلى إخضاع القرآن لقراءة معاصرة تجعله مـرآة دقيقة ينطبع عليها سائر التيارات الفكرية الجانحة والعقائد والتصورات الزائفة والتنبؤات العلمية المتداولة.
إننا نتحدث عن دلالات لغوية ثابتة يحضنها كتاب الله تعالى منذ فجر نزوله، طبقاً لقواعد تفسير النصوص، وقبل أن تتطور المعارف ويســير النـاس في طريـق اكتشاف الحقائق العلمية المتنوعة.
إن القرآن يقول منذ فجر نزوله (أَلَمْ نَجْعَلِ اْلأَرْضَ كِفَاتاً * أَحيَاءً وَأَمْوَاتاً) (المرسلات: 25-26). والكِفْت معناه في اللغة الجذب، فمعنى الآية إذن: ألم نجعل الأرض جاذبة لكم إذ تتنقلون على وجهها وأنتم في طور الحياة، وتُدفنون في باطنها إذا حاق بكم الموت. ولقد فسر العلماء الآية بهذا المعنى بسائق من ضرورة الدلالة اللغوية، قبل أن يكتشف الغربيون ما يسـمى بجاذبية الأرض، بل إن يونس بن قره هُدِي إلى هذه الجاذبية ووجودها قبل اكتشاف الغربيين لها بآماد طويلة اتباعاً لهذا الذي نطقت به دلالة القرآن.
إننا هنا نتحدث عن المواقف التي يهدي القرآن فيها الناس إلى الحقائق الكونية والعلمية، ولسنا نتحدث عن المواقف التي يستجرُّ فيها القرآن من قبل بعض الناس إلى النظريات والافتراضات العلمية، وشتان بين الموقفين.
كل ما في الأمر أننا نقف مع بديع الزمان رحمه الله أمام هذه الجدّة المستمرة في كتاب الله؛ إذ يخاطب فئات الناس على اختلاف مستوياتهم وعصورهم؛ فلا يحمّل القرآنُ الجاهلَ من الناس من معانيه المتراكمة أكثر مما يطيق، ولا ينجلي على العالم منهم بتلقينه من معانيه تلك كل ما يطيق. وكل ذلك يتم ضمن دلالة لغوية مستقرة ثابتة منذ صدر الإسلام وأول نزول القرآن.
أما من حيث جدة المبادئ والقيم التي يخاطب بها القرآن الناس في كل عصر، دون أن تشيخ أو تتقادم، والتي يركز عليها بديع الزمان ويضرب لها أمثلة عديدة، فهو رحمه الله إنما ينبه من ذلك إلى أمر بالغ الأهمية، وهو أن الإنسان قد يتقدم صُعُداً في مجال المعارف والعلوم، كلما امتدّ به الزمن؛ ذلك لأن أداة المعرفة والعلم هي الفكر والعقل، وحركةُ كل منهما في اجتياز معلوم إلى معلوم آخر أشبه ما تكون بالحركة الآلية التي تقوم على الاندفاع الذاتي؛ أما فيما يتعلق بمجال الأخلاق والمبادئ والقيم، فالشأن في الإنسان كلما امتدّ به الزمن وتعرض لتطورات المعايش واختلاف أسبابها، أن يتراجع في ذلك كله إلى الوراء. ذلك لأن التقدم المادي والازدهار المعاشي من شأنهما أن يزجّا بالإنسان في حالة من الترف والاستكبار والاعتداد بالقوة والتنكر لموازين الحق.
وهذا هو مصداق قول الله عز وجل: (إنَّ اْلإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) (العلق:6-7).
تجديد النفس والاحتكام إلى المبادئ
ومن هنا تظل دعوة القرآن الإنسان إلى تحكيم المبادئ والقيم، متمثلة في استخدام القوة لرعاية الحق، وإحلال التعاون محل الاستبداد، تتّسم بالجدّة والشبابية على حدّ تعبير الأستاذ رحمه الله، مهما تطور أو تقادم الزمن.
وهذا هو السبب في حاجة الإنسان الدائمة إلى الانضباط بالدين الحق.
ذلك لأن المجتمع الإنساني مدعوّ بل مضطر إلى أن يجدد نفسه دائماً كي لا يقع في آفة التراجع إلى الاستبداد والطغيان من جراء تألق الحياة المادية وازدهار أسباب المعيشة أمام الإنسان. والسبيل الوحيد إلى تجديد نفسه أن يشدّ نفسه دائماً إلى وصايا القرآن وأوامره وعظاته. وعندئذ يظل المجتمع الإنساني صاعداً في طريقين من التقدم: طريق التقدم في المعارف والعلوم وأسباب المنعة والقوة، وطريق التقدم على سلّم الأخلاق أو القيم الإنسانية الرفيعة التي لا تعرف التفاتاً إلى الوراء ولا تتجه إلاّ صـعداً نحو الجـدّة وفتوّة المجتمع الإنساني.