جوست لاجيندجيك
كنت قد طرحت في مقالي السابق سؤالًا حول ضرورة إيضاح كيفية تحول حزب العدالة والتنمية منذ عام 2011 إلى الآن إلى نظام حُكم أكثر استبدادًا وسيره في طريق تحقيق أجندة إسلامية.
وبينما أبحث عن إجابة لهذا السؤال تطرقت للحديث عن الأفكار التي طرحها المحلل السياسي شادي حامد، زميل معهد بروكينجز الفكري الأمريكي، في كتابه الذي يحمل اسم “إغراءات السلطة” والذي حظي بمدح كبير.
ويرى حامد- الذي يتخذ من تاريخ جماعة الإخوان المسلمين أساسًا لدراسته- أن الأحزاب الإسلامية التي تكون تحت ضغط النظام الحاكم (أو تهديد الضغط) ترضى بالاتجاه نحو جعل أفكارها أكثر اعتدالًا وتبنّي مبادئ أقل تصادمًا. ولكن إذا نجحت هذه الأحزاب في الوصول إلى السلطة كما شهدنا في مصر عام 2012 فإن هذا الاعتدال يتبدل ويحل مكانه توجهاتهم القديمة التقليدية المعادية للحريات.
لاشك في أن أنصار حزب العدالة والتنمية ومعارضيه متفقون في هذه النقطة: كان ظهور حزب العدالة والتنمية على مسرح السياسة في تركيا عام 2001 رد فعل مباشر للانقلاب العسكري الذي قام به الجيش عام 1997 ضد الحكومة التي كان يتزعمها الراحل نجم الدين أربكان رئيس الحزب الإسلامي التقليدي (الرفاه) الذي كان ينتمي إليه العديد من الكوادر المؤسسة لحزب العدالة والتنمية. وقد أجبر الانقلاب رجب طيب أردوغان وغيره من السياسيين الإسلاميين على أن يكونوا أكثر ديمقراطية واعتدالًا.
واعتبارًا من وصول الحزب إلى سدة الحكم عام 2002 مثّل أنجح نموذج لما يطلق عليه في الأوساط الأكاديمية منذ وقت طويل “إسلاموية ما بعد الحداثة”. وكان برنامج الحزب يعتمد بشكل أساسي على ممارسة العمل السياسي وفق مبدأي “التنقية من الإسلاموية” و”الدولة العلمانية”. وكان البروفيسور إحسان داغي عضو هيئة التدريس بجامعة الشرق الأوسط التقنية التركية قد وصف حزب العدالة والتنمية قبل عدة سنوات بأنه “أفضل نموذج لاضطرار الإسلاميين القدامى إلى إعادة التفكير في معاجم ألفاظهم وخيالاتهم وإنتاج “إسلاموية ما بعد الحداثة” على “الطراز التركي”. ويقول داغي: “لقد دفع البحث عن فرص البقاء والنجاح في ظل التطرف العلماني والاستبداد السياسي الإسلاميين الأتراك الذين يشكّلون التيار الأساسي في البلاد إلى القبول بالديمقراطية والعولمة وعضوية الاتحاد الأوروبي وطراز العلمانية الأنجلوسكسوني”. وبهذه الطريقة تحول الضغط لبصبّ في مصلحة الإسلاميين الذين أسسوا حزبًا وتجربة جديدة أو بتعبير داغي “اتحاد ماضٍ إسلامي مع أجندة سياسية ديمقراطية – ليبرالية”.
والسؤال الأهم الذي نطرحه هنا آخذين بعين الاعتبار كيف رجع الإخوان المسلمون في مصر إلى مواقفهم القديمة عقب وصولهم إلى السلطة هو كالتالي: “هل يمكن أن يكون حزب العدالة والتنمية قد تراجع عن هذه الأجندة الجديدة من “إسلاموية ما بعد الحداثة” إلى موقف إسلامي أكثر قدمًا جرّاء تلاشي خطر الضغوط التي كانت مفروضة عليه وتضاؤل الضغوط الخارجية التي كانت تمارَس عليه في سبيل تحقيق إصلاحات بنسبة كبيرة؟
ويحذر المحلل السياسي حامد، بشكل واضح وصريح، من أن انتماء حزب ما إلى توجُّه “إسلاموية ما بعد الحداثة” لايعني بالضرورة التخلي عن قوالبه الأصلية واتخاذه طريقًا أحادي الاتجاه. ويصل حامد – بحذر – إلى هذه النتيجة عقب الضعف الذي أصاب مفاوضات انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي إذ يقول: “إن حزب العدالة والتنمية يبدو وكأنه فقد اهتمامه بعملية التحوّل الديمقراطي وتبنّى إجراءات أكثر تزمتًا وسلطوية”.
وكان حامد قد وصف في حوار صحفي أجري معه قبل وقت قريب الإيحاءات الأخلاقية الممنهجة التي يطلقها الرئيس أردوغان والإصلاحات التي يواصلها في المجال التعليمي بأنها نموذج كلاسيكي لنشر قيم الإسلاميين واستغلال السلطة الحكومية في سبيل “أسلمة المجتمع تدريجيًا على مراحل”.
أخشى أن يكون حامد محقًّا في وصوله إلى نتيجة مفادها أن حزب العدالة والتنمية بدأ يعود منذ عام 2011 إلى أجندة إسلامية بشكل واضح وصريح. وهذا لا يعني أن تركيا ستطبق القانون الإسلامي أو ستتحول في يوم من الأيام إلى دولة إسلامية. فما نشهده حاليًا ليس عودة إلى نوع من الإسلاموية الجامدة التي شهدناها في العديد من البلدان العربية والتي كانت غريبة على تركيا دائمًا وحتى قبل عام 1997. بل إن ما نراه الآن هو عودة لمنتصف المسافة أي إلى أساسيات الإسلاموية التركية التي كانت موجودة قبل عام 2001 لاسيما تلك التي كانت موجودة في المجالين الثقافي والتعليمي. وفي حالة أردوغان تتحد هذه “الأسلمة الناعمة” مع تقليد تكتيكات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الرادعة المستخدمة بغرض قمع المعارضة في المجتمع والإعلام والخطاب المعادي للغرب الذي يعجب به كثيرٌ ممن يسيرون على درب بوتين والإسلاميين الذين لايعرفون للإصلاح طريقًا.
إن أصحاب التوجُّه المحافظ في “تركيا 2015” مضطرون للإجابة على سؤال حول ما إذا كانوا لايزالون ممتنّين بابتعاد حزب العدالة والتنمية عن السياسات المعتدلة والمبادرة الحاضنة التي حققت شهرته وشعبيته لدى ظهوره على الساحة السياسية.