ممتاز ار تُركونه
نشرت صحيفة صباح المقرَّبة من الحزب الحاكم في تركيا عنوانًا على صدر صفحتها الأولى تكشف فيه عن الأزمة التي تشهدها صفوف الكتلة البرلمانية لحزب العدالة والتنمية.
هذه العناوين الرئيسة بمثابة نداء “لنكثف صفوفنا” لجبهة الإعلام الموالي للحكومة – كقاعدة عامة – تظهر المشاكل الداخلية التي لم يستطيعوا أن يجدوا لها حلا خلف الأبواب المغلقة.
إن هذا يعني أن الكتلة البرلمانية للحزب الحاكم ستبدأ العملية اعتبارًا من لجنة تقصي الحقائق البرلمانية عن وقائع الفساد والرشوة التي تكشفت في 17 و25 ديسمبر/ كانون الأول 2013. وتنوي إحالة الوزراء الأربعة الذين ارتبطت أسماؤهم بملف الفساد أو على الأقل اثنين منهم إلى المحكمة العليا. ويبدو أن تأخير اجتماع اتخاذ القرار إلى اليوم (5 يناير / كانون الثاني) كان مصدره هذا الجدل. وفي هذه الحالة يكون “الكيان الموازي وأعوانه” الذي أشارت إليهم جريدة” صباح” في خبرها هم من يؤيدون قرار الإحالة إلى “المحكمة العليا” بين صفوف الكتلة البرلمانية لحزب العدالة والتنمية. حسنًا، مَن هم الآخرون؟
لابد أن يكون الآخرون هم الذين يقدمون تعليمات الرئيس رجب طيب أردوغان على أصوات ضمائرهم دون شرط أو قيد. ويعرف أعضاء اللجنة والكتلة البرلمانية للحزب أنهم لايستطيعون أن يصدروا تصريحًا مناسبًا للتعليق على الزيادة المفرطة التي شهدتها ثروات الوزراء الأربعة. فالمشكلة هي: هل ستنَفَّذ تعليمات أردوغان رغم الحقيقة الساطعة؟ فالحقيقة الساطعة هي المنارة المسروقة التي لم يجدوا لها غلافا مناسبا منذ عام.
إذا كان هناك فخ فهو ذلك الفخ الذي نُصب للص الذي يظن أنه أصبح في مأمن. هذا فضلًا عن أنه ليس فخًا واحدًا. بل هو عدة فخاخ نصبها اللص لنفسه. فإذا فُتح الباب أمام إحالة ملف الوزراء إلى المحكمة العليا فإن الحرب التي أشعل أردوغان فتيلها قبل عام عن طريق قلب النظام القانوني والقضائي رأسًا على عقب ستضع أوزارها. وإذا لم يفتح الباب أمام إحالة الملف إلى المحكمة العليا فسيفوّت رئيس الوزراء أحمد داود أوغلو آخر فرصة يمتلكها لتبرئة حزبه. وبالتالي سيخرج خارج السباق.
سيخوض حزب العدالة والتنمية الانتخابات البرلمانية المقبلة وهو عالق في المصيدة في الحالتين. فإذا لم يستطع أردوغان أن يغلق الطريق المؤدي إلى المحكمة العليا سيُكشف الغطاء الغليظ الذي كان مسدلًا على جميع من أنقذهم من خلال آلاف الخطوات التي خطاها على مدار عام كامل. أما داود أوغلو فإذا لم يستغل هذه الفرصة لتبرئة حزبه فإن زعامته وحزبه سيتلقيان ضربة موجعة. والأنكى من ذلك أنه ستتأكد صورته في نظر الرأي العام بأنه يتلقى التعليمات من أردوغان.
علينا أن نبحث عن سبب تعقيد هذه القضية إلى هذا الحد في النظام الذي أسسه أردوغان. فبعد أن قاوم لمدة أسبوع في بادئ الأمر عزل الوزراء الأربعة ليكون بذلك قد اعترف – ضمنيًا – بأن أيديهم تلطخت بالفساد.
فإذا أغلق الباب أمام إحالة الملف إلى المحكمة العليا سيواصل طريقه بعد العثور على حُمُر ألغام جديدةكالحمير التي يسوقها المهربون في الحدود أمامهم لاستكشاف حقول الألغام ويضحون بها ثم يقتفون آثارها حتى يتجنبوا هم فتك الألغام بهم. وذلك بعدما يزيد ثقل الحمل الذي يحمله على ظهره.
إن ادعاءات الفساد التي تحوم حول الوزراء الأربعة ليست نتيجة للنفوذ الشخصي وسوء استغلال السلطة. بل إننا شهدنا تأسيس نظام أقلية في أعلى قمة الدولة التركية يستند إلى تقاسم المصالح الناجمة بسبب نفوذ الدولة. هذا فضلًا عن الإيرادات غير القانونية المكتسبة عن طريق بيع النفط الإيراني المهرَّب. وعندما يكون المال مال فساد لايهتم أحد بالأموال القليلة التي تضيع أثناء النقل والتحويل بسبب النهب الذي تتعرض له من اليمين أو اليسار في الطريق بل يحسبونها كأجرة لعملية النقل ولا يضايقون منها. وكانت ادعاءات الفساد التي تتعلق بالوزراء محدودة وكانت بمثابة ما يتقطر يمنة أو يسرة أثناء دوران عجلات ذلك النظام. حتى وإن كانت هذه الرشاوى بملايين الدولارات فهذه بمثابة قطرة في بحر.
كان النظام الذي بدأ يعمل اعتبارًا من عام 2012 يعد نظامًا اقتصاديًا – سياسيًا عملاقًا تشكَّل بفضل الأموال المكتسبَة من المصالح الحكومة. وإن “الأموال السوداء” التي اكتسبَت عن طريق خرق العقوبات المفروضة على إيران من خلال استغلال سلطات السيادة في الدولة وفي مقدمتها البنوك والتراخيص المرتبطة جميعها بمنصب واحد ومصالح الريع العمراني في المدن وأجور العمولات المتكسبة من المناقصات الحكومية استخدم كل ذلك لتمويل نظام حكم تحت سلطة شخص واحد.
ويمكن أن نعتبر جامع منطقة تشاملجا الذي يبنى في إسطنبول بأموال التبرعات الإجبارية المأخوذة من المقاولين المقربين من الحكومة ومجموعة” صباح – ايه تي في” الإعلامية الممولة بالقرض المأخوذ من مصرف حكومي لم يدفع قرش واحد من المبلغ الأساسي المقترض إلى اليوم نموذجين ملموسين للنظام الذي نتحدث عنه في هذا المقام.
إن الزعيم يستخدم الأموال المكتسَبة بالاستفادة من امتيازات الدولة في أعمال الخير فيشبع بها الفقراء ويقدم بها منحا دراسية للطلاب ويمول بها حملاته الانتخابية ويحدد توجهات الرأي العام كما يشتري بها أصوات الناخبين. فمن يستطيع أن يهزم أو يوقف حكومة حزب كهذا؟
لاشك في أن هذا النظام الذي ينقل جميع المصادر الشرعية وغير الشرعية لقوة استثمار مصالح الدولة إلى تمويل نظام ديكتاتوري عن طريق ربط خط موازي غير شرعي بخزينة الدولة، كما في روسيا، بدأ يسير بشكل متعثر منذ تاريخ الكشف عن فضيحة الفساد والرشوة يومي 17 و 25 ديسمبر / كانون الأول 2013. أليس من الواضح للعيان أن المستشارية التي تم تأسيسها في القصر الرئاسي الجديد (القصر الأبيض) قد تشكَّلت في سبيل إعادة تأسيس النظام الذي يتغذى على إيرادات الدولة؟ فهؤلاء المستشارون يقومون بتنسيق العمل بين القصر الأبيض ومصادر الإيرادات.
عندما يذكر أحد اسم المحكمة العليا يتبادر إلى ذهني الجسد المهيب والمسكين، في الوقت نفسه، للنعامة التي تدفن رأسها في الرمال. فليس بوسع أحد التستر على ملف أعمال الفساد. فما نشهده هو أن البعض يدفن رأسه في أراضي أنقرة الخصبة ويغلق عينيه عن العالم بأسره. نعم إن المحكمة العليا ما هي إلا فخ وجميع الفخاخ التي ينصبها اللص لنفسه تكون خطيرة دائما.