إسطنبول-تركيا (زمان عربي) – في الوقت الذي تعيش فيه تركيا أياماً صعبة من الناحية الاقتصادية بدأت عملية بناء قصر جديد في أكثر الأماكن امتلاء بالأشجار في غابات أتاتورك في العاصمة أنقرة. وقيل في البداية إن هذا القصر سيكون مقرًا لرئاسة الوزراء إلا أنه تحوّل بين عشية وضحاها ليكون مقرًا لرئيس الجمهورية.
ومع أن هذه الأرض كانت محمية طبيعية من الدرجة الأولى فإن السلطات أنزلت درجتها لتكون من الدرجة الثالثة حتى يمكن تنفيذ المشروع عليها قانونياً. إلا أن المحكمة الإدارية الخامسة في أنقرة ألغت هذا القرار. وسرعان ما تمّ نفي أعضاء المحكمة بعد صدورالقرار. واستمرت أعمال بناء القصر الجديد من خلال تغيير الخطط التطويرية في كل مرة، على الرغم من رفع ما يقرب من 150 دعوى قضائية ضده.
وفي نهاية المطاف وضع أردوغان الكلمة الأخيرة؛ إذ قال: “إذا كانت لديكم الجرأة تعالوا واهدموا القصر!”. لم يُهدَم القصر لكن استمرت المناقشات والجدل حول تكلفة بنائه وعدد الغرف الموجودة به. وزعم أردوغان أن تكلفة بناء القصر لم تبلغ 700 – 800 مليون ليرة (310 – 355 مليون دولار)، بل إنها عبارة عن 500 مليون دولار (225 مليون دولار).
أما وزير المالية محمد شيمشك فقد أعلن خلال مناقشة الميزانية أن تكاليف بناء القصر بلغت ملياراً و370 مليون ليرة (610 ملايين دولار). كما اعترف أردوغان بأن عدد غرف القصر أكثر من 1150 غرفة. فيما أوضحت غرفة المعماريين في تركيا أن الكلفة الحقيقية للقصر بلغت 5 مليارات ليرة (2.22 مليار دولار).
تركيا تخسر عام 2014 من أجل التستر على الفساد
على الرغم من أن حكومة حزب العدالة والتنمية استهلت مشوارها في الحكم قبل أكثر من 12 عاما بشعاراتِ وأهدافِ رفْع تركيا لتصبح ضمن أكبر عشر قوى اقتصادية في العالم والحصول على العضوية الكاملة في الاتحاد الأوروبي والقضاء على الفجوة بين الأغنياء والفقراء وعقد صداقات مع كل الدول المجاورة إلا أنها باتت اليوم تفعل عكس هذه الأهداف تماماً.
فالاقتصاد التركي بدأ يتدهور بسرعة كبيرة وصارت تركيا وحيدة معزولة بحيث كاد لايبقى في المنطقة والعالم أية دولة صديقة لها. كما زاد بإيقاع سريع عدد الفئات التي أصبحت غنية بفضل حزب العدالة والتنمية. بينما نرى أن الفقراء ما زادوا شيئاً سوى ازدياد فقرهم.
حسنًا، ماذا حدث حتى بدأت تركيا تشهد هذا التراجع في كل المجالات؟ ولماذ بدأت تُذكر بأخبار الفساد والرشوة وقمع الإعلام وانعدام القانون بعد أن كانت تبدو نجمًا متلألئاً ونموذجًا لدول الشرق الأوسط حتى الأمس القريب؟
هناك سبب واحد لكل ما حدث: هو محاولة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إنقاذ نفسه وأفراد عائلته بعد ضبطهم وهم متلبسون بجريمة الفساد. وبينما يحاول أن ينقذ نفسه من هذه الورطة يلجأ إلى توظيف “آلية الكذب والافتراء” الأكثر استخداماً في منطقة الشرق الأوسط.
إن الكذب هو إحدى أدوات الإدارة والحكم. فهو أداة تُستخدم كثيراً عند الرغبة في التخلّص من المساءلة والرقابة. فاللجوء إلى الأكاذيب ونشرها في المجتمع يزداد بالتناسب مع كونها شرطاً أساسياً لا غنى عنه لمواصلة الحكم. ولذك فإن لجوء السلطات السياسية إلى الأكاذيب هو النتيجة الطبيعية لسياساتها المعادية للديمقراطية والقانون.
واللافت أنه كما لعبت الأكاذيب والافتراءات دوراً حاسماً في منع احتجاجات حديقة “جيزي” بميدان تقسيم في إسطنبول 2013 كذلك كانت العنصر الأساسي لإفشال تحقيقات أعمال الفساد التي بدأت في 17 ديسمبر/ كانون الأول الماضي.
ويرسم كتاب “كتلة أكاذيب” لمؤلفه ديفيد إجناتيوس أحد أشهر الصحفيين في جريدة” واشنطن بوست”، والذي تحول لاحقا إلى فيلم سينمائي مشهور، كيف تتحوّل الأكاذيب إلى أداة من أدوات الإدارة والحكم للمخابرات في أنظمة الشرق الأوسط التي يحكمها رجل واحد.
ومع أن هذا الكتاب يسلط الأضواء على الأكاذيب الغربية إلا أن مفهوم “كتلة أكاذيب” أعاد إلى أذهاننا كيفية استخدام الكذب كشكل من أشكال إدارات الأنظمة القمعية. ذلك أن لنا كذلك تاريخا سياسيا مبنيا على كتلة أكاذيب. وإذا ألقينا نظرة سريعة على تاريخنا السياسي نرى أن ترويج الأكاذيب الرسمية المصنعة في مراكز الدولة يشهد زخماً كبيراً بالتناسب مع حدوث الانقلابات العسكرية وفترات الحزب الواحد.
وبمجرّد الاطلاع على الأكاذيب التي تنشرها السلطة السياسية الحاكمة في تركيا منذ عام 2013، يمكن لنا تحديد ورسم صورة توجهها أو رؤيتها التي تعتمدها في إدارة البلاد استناداً إلى تلك الأكاذيب.
أما تكميم الأفواه وإسكات الإعلام المستقل والحرّ أو استخدام الإعلام الموالي كأداة لتنفيذ حملات دعائية يعتبر شيئاً لا يمكن الاستغناء عنه لآلية الكذب هذه.