بقلم: نجم الدين يالجين
القاهرة (زمان التركية) – نحن اليوم في أمسّ الحاجة إلى القدوة الصالحة والمثل الأعلى والمربين الحقيقيين!
أحكي لكم اليوم قصة جميلة مفيدة.
قد شاركت اليوم مستمعًا في محاضرة لأحد طلبة الأستاذ فتح الله كولن يسمى “محمد شنكول”، حيث كانت المحاضرة قيمة ومفيدة تحمل في طياتها هموما عظيمة تركت في أعماقي تأثيرا عظيما تعجز كلماتي التعبير عنها، حيث ذرفت منها العيون، وجلت منها القلوب، إذا جاز التعبير.
كان الأستاذ محمد شنكول رجلا تجاوز عتبة خمس وسبعين عاما من عمره، وهو لا يزال يجول أنحاء العالم مجاهدا في نثر بذور الخير في النفوس، عساه يكون وسيلة لتربية أجيال صالحة مؤمنة.
كان في نفس محمد شنكول توقًا إلى مصر منذ تخرجه في ثانوية الأئمة والخطباء حيث كان يودّ الدراسة في جامعة الأزهر الشريف، لكن الظروف والأوضاع آنذاك لم تسمح له بالسفر إلى مصر.
حاول الأستاذ شنكول إقناع أستاذه يشار عدة مرات بالسماح له بالسفر إلى مصر عدة مرات، لكن الأخير رفض ذلك لسبب ما كتمه في نفسه. ألحّ الأستاذ شنكول ذات يوم إلحاحا شديدا على الأستاذ يشار، حتى أفصح الأخير عما في نفسه مبررا رفضه قائلا: “لا نملك مالا كافيا لسد مصاريف السفر والتعليم والمعيشة هناك”، لكن ذلك لم يقنع الأستاذ شنكول، وبات يتساءل السبب الحقيقي الكامن وراء هذا الرفض.
لكن التوق إلى مصر ازداد شدة في نفس محمد شنكول، حتى ذهب إلى أحد رجال الأعمال يستدينه من أجل السفر إلى مصر، ولم يتردد الأخير بدفع المبلغ إليه، لكن الأستاذ يشار فور ما علم بالأمر استدعاه إليه ليكشف السبب الحقيقي وراء رفضه قائلا: “يا بني! من سيتولى شؤون هذه الخدمات لو سافرت إلى مصر”، علما أن القائمين بشؤون الخدمة كانوا قلة يعدون بالأصابع.
وقال الأستاذ يشار قبيل وفاته: “يا محمد! أعتقد أنه ليس لي عمل مقبول في هذه الدنيا سوى أنني عرّفتك على الأستاذ فتح الله كولن”، ربما كان ذلك هو السبب وراء عدم موافقة السيد يشار على طلب الأستاذ محمد شنكول بخصوص السفر إلى مصر من أجل الدراسة.
مضت الأيام والأستاذ محمد شنكول عُيّن إماما على أحد المساجد، وكان من فضل الله آنذاك أن افتتحوا مسكنا للطلبة، وهذا المسكن كان بحاجة إلى من يتولى شؤون إدارته، فاستدعاه الأستاذ فتح الله كولن وأوكل إليه المهام قائلا: “الإخوة رشحوك لهذه المهمة”.
كان الأستاذ شكنول لم يكن واثقا من نفسه وخبرته في تدبير شؤون السكن، وأفصح بالأمر إلى الأستاذ فتح الله كولن، لكنه أقنعه بأنه سوف يتعلم الأمور بمرور الزمن، وبدأ ينصحه قائلا: “إن الله حمل مسؤولية هذه المهمة على عاتقنا، وعلينا أن نكون أمناء عليها، وعلينا أن نحافظ على هؤلاء الطلبة كما نحفظ عيوننا”.
وسأل الأستاذ فتح الله كولن شنكول كيف يتصرف تجاه الطلبة الذين هو مسؤول عنهم قائلا: “كيف تعاملهم وهم نائمون على سريرهم وهم يشعرون بالبرد وقد انكشف لحافهم”، أجاب قائلا: “أغطيهم وأشفق عليهم وأحنّ عليهم حنان الأب، ورد عليه الأستاذ :”احرص عليهم حرص الأب على أبنائه حتى لا يضيعوا. وهؤلاء هم أولياء الأمور سلموا لنا أولادهم، ولذا يجب علينا أن نرعاهم كما نرعى فلذات أكبادنا”.
وكان الأستاذ محمد شنكول يتردد على السكن كل منتصف الليل يغطي لحاف الطلبة، ويمسح دموعهم إذا اشتاقوا آباءهم وأمهاتهم.
مضت الأيام وذات يوم هرب ثلاث طلبة من السكن، وكان البلد آنذاك تحت حظر التجوال بسبب أعمال العنف التي كانت تعصف بالبلاد آنذاك بين اليمين واليسار. اشتبهت الشرطة بهم وألقت عليهم القبض وباتوا في ضيافة الشرطة ليلتهم، وفي الصبيحة تواصلت الشرطة مع مدير السكن وسلمهم إليه.
لم تمر عدة أيام حتى هرب هؤلاء الثلاثة من جديد من السكن، وهذه المرة اشتروا تذكرة حافلة للسفر عبر المدن، لكن بائع التذكرة ساوره الشك بسبب تصرفهم المتوتر وهم في منتصف الموسم الدراسي يسافرون وليس هناك إجازة، وتشكك فيهم وبذل قصارى جهده حتى حصل على رقم السكن الذي فروا منه، وأتى المدير ورجع بهم إلى السكن.
وأعادوا الكرة للمرة الثالثة واشتروا هذه المرة تذكرة قطار وهم مشتتو الأذهان ولا يتصرفون ببصيرة، حيث شك بائع التذاكر بشأنهم وطلب منهم تسليم أمتعتهم لحين وصول القطار، وأنه سوف يردها لهم لاحقا، مبررا الأمر بوجود حالات سرقة متكررة هذه الأيام، واقتنع الطلاب وسلموا أمتعتهم، وبدوره اتصل بائع التذاكر بمدير السكن وأخبرهم بشأنهم.
عندما تسلمهم الأستاذ شنكول اشتاط في نفسه غضبا، وكان يفكر في أن الطلاب في حاجة إلى التأديب ولا بد من النقاش الجاد معهم وينالوا العقوبة اللازمة حتى لا يعاودوا الأمر نفسه.
خطر ببال الأستاذ شنكول بأن يشاور الأمر مع الأستاذ فتح الله كولن وقص عليه القصة، وطلب الأستاذ كولن أن يأتي إليه بثلاث عصي من حديد، تعجب الأستاذ شنكول ولم يعرف سبب ذلك، لكنه انصاع للطلب وأحضر العصي الثلاث، بينما توجها إلى السكن تساءل الأستاذ شنكول في نفسه: لماذا الأستاذ طلب ثلاث عصي رغم أن الواحد يكفي، واستغرق في فك اللغز عدة دقائق…
دخل الأستاذ فتح الله كولن ومحمد شنكول وهؤلاء الطلبة الثلاثة الغرفة، وأغلق الباب من الداخل، وطرح عليهم سؤالا: “هل المذنب يعاقب؟!”، وأجاب كل واحد من هؤلاء الثلاثة بـ”نعم!”. وطرح السؤال نفسه على مدير السكن الأستاذ شنكول وأجاب هو بدوره بـ”نعم!”. وفجأة خلع الأستاذ فتح الله كولن قميصه وطلب من الأستاذ شنكول أيضا بخلع قميصه، وقال لهؤلاء الثلاثة: “اجلدونا! لو لم تجلدونا لكسرت أرجلكم!”.
بدأ الطلبة بالبكاء ورفعوا أصواتهم قائلين بصوت واحد: “لا لا لا! لا نستطيع أن نضربكم! لا! لا! لا!”.
وواصل الأستاذ فتح الله كولن كلامه قائلا: “نحن مذنبون ولستم أنتم، لأننا لو كنا حبّبنا إليكم هذا السكن لما فررتم من هنا، لذا نحن نستحق العقوبة! أقول لكم: اضربونا! لو لا تضربوننا سأكسر أرجلكم!”.
هم رفضوا ما طلبه الأستاذ منهم قائلين: “لا، لا، لا! اكسر أنت أرجلنا ونحن لن نضربكم!”.
وهكذا انتهت الحادثة التي تعلمنا منها دروسا مفيدة.
إذا أردت أن تصلح المجتمع فعليك بإصلاح نفسك أولا، وعليك أن تعظ نفسك وتؤدبها، ولا تبحث المجرم في الخارج، وإنما المجرم الأول هو أنت!
لم تنته القصة بهذا الشكل بل لها ختام مسك. فبعد سنوات عديدة كان الأستاذ محمد شنكول يلقي محاضرة حول “دور المعلم كقدوة”، وحكى القصة وسمع ضجيج بين المستمعين ويرفع أحدهم يده، فإذا هو أحد هؤلاء الثلاثة الذين فروا من السكن، أصبح مدرسا ويشغل ضمن هيئة التدريس في إحدى مدارس حركة الخدمة.