بقلم: صبغة الله الهدوي
القاهرة (زمان التركية) – هكذا تبادر إلى ذهني مذ أن خاط خيالي خيط الخواطر عن مجلة غراء تمضي في مسارها بقبعة العزة والفخار، بعيدا عن الصخبات السياسية التي تبدأ من الصرخة الصغيرة وتنتهي في الصرخة الكبيرة مشتعلة في هشيم الشعب مخلفة كومة السواد أو حفنة الرماد . تنشر هنا وتصدر مجلة نيرة هادئة في تيارها قوية في منشورها وسطورها..مهتمة بالآلام والمظلومين.. ومصمما مشاريع الأحلام للآخرين..وممثلة أصداء المنكوبين والملهوفين الذين تم تهميشهم من مائدة السياسة الجادة حتى أصبحت أحلامهم أدراج الرياح العاتية..ولم تجدوا مخيمات لللجوء… ولا رأوا حوامات تلقي الأرغفة والمياه لتبقى على قش الأمل أو على رث الحبل.
مشردون في أعين عالم الإعلام..متطرفون في ملامح الأعلام..تاهوا في زوايا الوجود باحثين عن خيط ليكون طافية النجاة..في تلك الفترة القاسية طلع على حين من الدهر..في أفق العالم نجم يقصم ظهر الغسق ويكسر شوكة الدجى…ليكون دليلا خريتا لمن وقع في مهاوي الجهالة لا ليكون ذليلا سكيتا عن منحنيات الضلالة..بل ليغلق أبواب الفتنة ويطير حمائم السلام..بل لترسم صورة الخدمة بوجهها البسام بعدما أن شوهته وأساءته عفاريت الإعلام…
مجلة حراء.. تلك الكلمة التي نبهت الدنيا بأن هناك عالما خلف الأمية والجهالة وهو عالم القراءة والحضارة..عالم التمدن والتهذب..وقد كانت هذه المجلة مصداق اسمها وتحقيق رسمها كما قيل “ولكل شيء نصيب وحظ من اسمه”..فما استكانت لمخالب السياسة ولم تخر ساجدة في البسط الحمراء المفروشة بل تبنت فكرة على فكرة ..وفطرت على فطرة .بل رفعت من منبرها شعار ثورة الفكرة لا فكرة الثورة…
كانت هذه المجلةُ التي اتسمت بنفحات حراء التي هبت لتوقظ القلوب الراقدة ولتكون خندقا عميقا بين النفاق والحق..واتخترق أطياف الظلام حتى لا تسيطر على الفطرة والفكرة سلاطين الظلام والهوى تطبيقَ ما حوت لفظة حراء وتجسيد ما طوت لفظة التضحية والتفاني في سبيل خدمة الأمة رغم رغم تربصوها بسوء حتى لم يجدوا شيئا فإذا هم بالساهرة.. وسقطوا في أيديهم لحد أن ضيقوا منابر الحق وخنقوا حناجر الذوق لكن خابت ظنونهم وبقيت الحراء وصاحبها ماضيا وحاليا فوق رؤوسهم بإذن الله.
مجلة أصبحت متصاونة متعففة حين راجت وغزت العالم مجلات متعفنة المضامين.. مستوحاة المجانين…أصبحت توحي رسائل عن طهارة المبدأ وعن عفة الموقف بينما سادت العالم دندنات تدعم الخلاعة والفجور وضخت لأجلها ملايين الأجور.. وقد اشتركنا في مجلات تدعي الأصالة والصفاء ثم تأبى إلا أن تكون سفراء الانتحال والتكدر الثقافي..وبالمقابل كانت حراء تحت ظن وإرادة القراء الذين تبرأوا من الذين ارتزقوا بقريحتهم وموهبتهم…
نعم…حين تبسط طيات هذه المجلة الرائعة ستعجبك مضامينها ومحتوياتها التي تتلمس شغاف التاريخ والحضارة وتطل على الأدب والشعر وتسبر أغوار القضايا النفسية وتقدم حلولا ناجعة نابعة من التعمق والاستقصاء عن مشكلات الشباب.. وتوجه بوصلة العقل نحو بر آمن وهدف منشود علما بأن التدين ليس هو تعطل العقول ولا إجهاض القلوب وهناك آيات تتسائل عن معاني التنزيل وحقائق التأويل… وحين تطالع سطورها سطرا وسطرا ستزكم أنوفك عرف القريحة عطرا وعطرا.. جميلة في أسلوبها موشاة ببيانها الرائع.. تكون مستهاما في نظرتها المدللة التي توجهك نحو واحة مظللة.. بين نخيل وتين..ورمان وياسمين..
منذ أن كنت موغلا في أرضية الأدب برفق بقيت هذه المجلة تستهويني وتستحبني إلى أن صرت أسيرا في تلك الكلمات المعسولة.. في تلك المحاجب المتكحلة.. في تلك الأذواق المخللة..
انتشيت من خمرة أحرفها واهتاجت مشاعري لأجل ما رأيت من متعة ولذة بين دفتي حراء.. فلم تزل غائرة في قلبي ومنهمرة فوق رأسي حتى قرت أعيني بنظرة مقالة لي نشرت للأول المرة في تلك الروح… كان عنوانها “هذا والدي سيرة حب خالد بين والد وولده” كانت خلاصة إبداعاتي في هذا المجال بعد أن خضت في كتاب هذا والدي لسعيد رمضان البوطي رحمه الله.. وقد انجذبت في تلك الهالة الفكرية التي لا تمر بي إلا ورعشة من الإلهام في ناصيتي. واندمجت في سلك قراءة هذا والدي حتى طويت آخر صفحة منها والانطباعات الحلوى تأسرني وتعمق في مدى التفكر..
وقد كنت ممن أعجب أشد إعجاب عن شخصية بديع الزمان سعيد النورسي وعن همته التي كسرت حدة سيوف العلمانية وأشرقت معتقلات الدنيا بنور الحرية ووحي القرآن.. وانتظر طلوع الحق سنين وترقب قدومه ليستر كل عيوب جنته أيادي السياسة وحملتها على كواهل الشعوب..
ومن رسائل نوره علمت قوة الإيمان وسمو الروح لدرجة أن أصبحت خفقات قلبه حركة قادمة سباقة التيارات الإسلامية والفصائل والمنظمات باسم الدين والإسلام.. وهذه الصبغة النورسية واللمسة البديعية لوحت في صميم القراء ثقة عالية في محتويات الحراء.. وأصبحت أنفاسهم تضطرب من الفجوة الواسعة بين مجلة وأخرى حتى اشتاقوا كي تكون شهرية بل نصف شهرية بل أسبوعية بل يومية.. ما هي البواعث التي تجعلك وفيا للأحرف.. وما هي الأسباب التي تنبت فيك شوقا وحبا للأدب.. فإنه لا محالة بأن الأحرف إنما تحتاج مغرسا لتنبت فيه ولتثمر فيه.. كذلك سولت لي مجلتنا حراء. فيه الأدب والنقد وفيه الشعر والوعي…
ومن أجمل الوقفات في محطات حراء كلمة الأستاذ فتح الله غولن إذ يستنطق الأحرف المعجمة ويستنهض همتها ويستثير غضبها لتكون آلة قوية من الطراز الأول لتجابه الأفكار الحائرة والأقلام الأجيرة وتكبح الخواطر المتمردة.. يلهم فيك الأستاذ بقلمه الفائض فكرة وسكرة ويوهم قلبك أنك فوق براق الأحلام تعرج إلى عالم الفكرة الحقيقة.. يستوقفك الأستاذ عند قلمه حتى تكون أنت روحا وقادة بعين نقادة لا تعكس إلا الحسنات ولا ترى إلا المقامات العلى ولا تحت إلا سدرة المنتهى.. فالقلم حين يتكلم من أوج القيم لا بد أن تستجيب الروح لتروح الفكرة من قلب إلى قلب ولا بد أن يستجيب القدر لهذا الجيش الزاحف مع القيم والأخلاق والمبادئ كما فتح الرسول وصحبه شرق العالم وغربه وكما أخذوا ناصية الملاحم.. فإن القيم ستبلغ القمة قبل أن تمد إليها يدا الظلمة وإن حجزوا الطريق أمامها أو نثروا القمامة في دربها..
مجلة حراء تخدم الأمة في زمن قلت فيه رجالات الفكرة لتصدي المشاكل وتحمل القلاقل وملت فيه الأقلام القادرة لتحمل عبء الدعوة الإسلامية بل كممت فيه الأفواه الصادقة وكسرت الأقلام الناطقة ورتعت في مروج الحق عصابات تم غسل عقولهم حتى اشتبهوا لتمييز الحق من الباطل والخيط الأبيض من الخيط الأسود.
كأن الوحي لم يفتر وما زال يبث بصيصه وينشر رسالته إلى سائر الأمم.. وهل يفتر الوحي لو كانت هناك طائفة ظاهرين على الحق ثابتين على الصراط المستقيم رغم العواصف العاتية من المحن والفتن..ورغم سنابك خيول السلاطين الظلمة..
وتقوم حراء شامخة بهامة مرفوعة حين تتبخر أنانية المتعالمين وتنحني بعدما كانت قاماتها منصوبة وكراماتها مكتوبة..حين كانت تقف مع الحق وترحل لأجل الصدق..
وهي تخدم الفكرة الإسلامية حين أصبحت الفكرة بؤرة الإرهاب وضرة التنكيل فلم تجد من يصقلها ويجعلها جوهرا أصيلا حتى إذا طلعت شمس الحراء وأذن مؤذنها في مسمع الكون عن أهمية القراءة والعودة إلى جذور البشرية.. نقية من الأنانية.. صفية من أدران السياسة الجوفاء التي تكمم الأفواه وتلطم الملامح.. حتى تلبى نداءها العالي ملايين البشر من الشرق والغرب واحتفظوا وصاياها في الصدر..
هكذا أصبحت من أحد المستجيبين لهذا القدر المحتوم.. بل صرت صديقا حميما لهذه الفكرة الوهاجة التي تمحي أرواق الظلام وتقوض خيام الجهالة.. وتبني من أنقاضها صرحا ممردا من الوفاء والولاء للحق وبرهان العين..
وهكذا أصبحت من متابعي نبرتها الثلاجة التي تثلج الصدور وتضمد الجراح وتصدع بموقفها الخالد بأن الأمل لن يموت ما دام العمل يستحييه.. وأن الوحي لم ينقطع ولن يفتر ما دامت الحراء باقية وما دامت الأمة تعانق “اقرأ” وتسجد عند قوله تعالى “كلا لا تطعه واسجد واقترب”.