علي بولاج
لقد عرَّف ج.ج. سينتوريا الفساد بأنه: “مجموع الأعمال غير القانونية التي يرتكبها المسؤولون لتحقيق مصالحهم الشخصية”.
وأنا أرى أنه يجب التفريق بين القانون وبين الحقوق التي تعد شكلا للمشروعية. فالشريعة المنزلة هي التي تشكل أساس الحقوق. وإذا كانت الأحكام التي توافق عليها الفطرة السليمة والعقل السليم لاتتعارض مع الأحكام المنزلة فحينها يمكن قبولها كالحقوق. وقد يضع الناس مجموعة من القوانين المخالفة للحقوق كما أنهم قد يطبقون القوانين بشكل مخالف للحقوق.
وإن خير مثال على وجوب عدم مخالفة الحقوق للشريعة المنزلة هو أن الفساد يمكن تفسيره بشكل قد يقبله العقل. فبذلك التفسير يمكن اعتبار الفساد مقبولا من وجهة نظر العقل ولكنه غير مشروع من الناحية الحقوقية. فكاتب تشلبي (كاتب تركي مشهور عاش في أيام الدولة العثمانية ويُعرف بحاجي خليفة) يقسم الرشوة إلى قسمين:
أ- رشوة يُمنع أخذها ودفعها.
ب- رشوة يُمنع أخذها فقط. فهو يرى أن النوع الثاني من الرشاوي يمكن تقبلها في حالة لاتتسبب بإصابة الأذى لأحد. وهو يفضل الرشوة التي تدفع الأذى على التي تجلب المصلحة. لأن الرشوة المقصودة هنا هي التي تدفع الأذى. وفي عصرنا هذا ثمة أناس يقولون إن ظواهر الفساد ليست كلها سيئة، ويرون أنها تلعب دورا في تسهيل التطور الاقتصادي والنهضة والتنمية.
ويرى “سبيرو” و”وينر” أن ظاهرة الرشوة ليست مدمرة إلى الحد الذي تبدو عليه، فهي تمنح للكادر الإداري المرونة في الأمور التقديرية. والذين يؤيدون هذه الفكرة يرون أن التشريع الذي يسير الأمور هو في أغلب الأحيان يحتوي على أحكام سخيفة وشروط صعبة لا داعي لها وتؤدي إلى الفساد. وإن تطبيق شروط التشريع بنزاهة أمر يكاد يكون مستحيلا. ما يضعنا في مشكلة العلاقة بين الفساد وانتهاك القانون.
المشكلة هي: إذا لم يكن بالإمكان تحقيق الأمور المهمة والكبيرة عند الالتزام التام بالقانون، فهل يمكننا أن نجعل تحقيق التنمية التي هي من أولوياتنا بانتهاك القانون؟ وقد رأى البعض أن انتهاك القانون ليس فسادًا، وذلك بسبب حادثة جمعية دينيز فينري (عمليات اختلاس ظهرت في ألمانيا سنة 2008) وربما استندوا في ذلك إلى شروط التشريع السخيفة والمضنية والمعوقة.
وفي هذا الصدد يظن المتورط في أعمال الفساد أنه يحصل على ما يستحقه. وإلا سيحرم من حقه. فالرشوة جريمة وحرام. وهو جريمة من الناحية القانونية. فإذا تم تطبيقه من خلال إجراءات تتوافق مع القانون، يكون جائزا من حيث القانون وحراما من حيث الدين. وهذا ما يجب أن يفكر فيه المرتشي لا الراشي. فإذا كانت حجة الذين يدافعون عن الفساد هو العوائق الروتينية التي تحول دون تسيير الأمور فكأنما يقولون إنهم يرجحون أخف الضررين (وهي قاعدة فقهية).
ولكن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لم يفرق بين هذه الحالات حين قال: “لعن الله الراشي والمرتشي” الطبراني، المعجم الأوسط 2047. والسبب في ذلك هو أن السماح بالرشوة والفساد لا بد أن يؤدي إلى الانحلال الأخلاقي للمجتمع الذي سيدفع الثمن المتزايد في كل عمل تدخل فيه الرشوة. فعلى سبيل المثال أفادت بعض الحسابات أن كل مواطن خسر 3.273 ليرة تركية بسبب أعمال الفساد الذي تم الكشف عنها في 17-25 ديسمبر/كانون الأول2013.
وترافق ذلك بجانب الانحلال الأخلاقي معاقبة الموظفين والإداريين النزيهين. وهذا يشير إلى فساد النظام والإدارة. فالمجتمع الذي يحل أموره بالرشوة لا يحترم الإداريين، ويفقد إيمانه بالسياسة والقوانين؛ كما أنه يرى أن الجرائم والانحلال الأخلاقي جزء من القدر، ولسان حاله يقول: “هكذا تسير الأمور وهكذا ستبقى”.
ولكن كيف لإداري وسياسي متدين أن يرى الفساد مشروعا في عالمه الخاص؟ فالإداري المتدين والإداري العلماني سيان في هذا الصدد. فكل منهما يرى أن التشريع صعب جدا لذا يمكن إهمال التشريع لتسيير الأمور الهامة. أي يمكنهما انتهاك القانون. ولكن بعد هذه النقطة يختلف الإداري المتدين عن الإداري العلماني.
فالمتدين له قضية كبرى، فإن كان يعمل على تحقيق التنمية والتطور فهو يؤمن بالتمنية الاقتصادية. ويرى أنه يجب أن تكون لدى المسلمين قوة كبرى. فبوجود قضية كبرى كهذه لا يشترط الالتزام بالأنظمة والقوانين. وحينها لا يغدو انتهاك القانون فسادا. فالقوة الدافعة للقضية الكبرى تلعب دور التسهيل. وحينها يصبح انتهاك القوانين قانونًا. فانتهاك القانون يصبح مشروعا من خلال العقلانية. ويتم تفسير ذلك بما يتوافق على نصوص كتاب القوانين، والحل الجذري في ذلك هو تأسيس أنظمة صحيحة بعيدة عن الفساد ولا يترك للفساد أي مداخل. فإذا لم يكن الحاكم أو السياسي أصولا صححيحة ومرنة يعني ذلك أن الحاكم أو السياسي لم يكن مخلصا في الاستقامة فهو أيضا راض عن ممارسة الفساد. فثمة أسباب أخرى تدفع المتدين نحو ممارسة الفساد.