جوكهان باجيك
بقدر ما تكون عبارة “حرية الصحافة في تركيا تامة” صحيحة، بقدر ما تكون عبارة “تركيا ناجحة جدًا في السياسة الخارجية” صحيحة أيضا!
لقد هبطت السياسة في تركيا إلى مستوى “رخيص”، لدرجة بدأ فيها السياسيون يحكون للشعب التركي “نكتا فكاهية” بدلا من “الحكايات والقصص” التي كانوا يروونها من قبل في موضوع السياسة الخارجية حتى يظن الناس أنهم يعملون و”يتحقق بذلك (للسياسيين) مرادهم”.
إن الإفلاس الحقيقي على مستوى السياسة الخارجية يدفع السياسيين إلى زيادة جرعة “ادعاء الأخلاق” على مستوى السياسة الداخلية. فلم تستطع أنقرة – منذ وقت طويل – أن تخرِج “الأرنب” من قبعتها “السحرية”، كما نشاهد في العروض المسرحية، كما أنها لاتستطيع حاليًا إلا أن تكرر الحديث عن أنها تتمتع بمكانة جيدة من الناحية “الأخلاقية”.
النكسة الأولى: تبخُّر معسكر تركيا
إذا كان هناك ترتيب سباق في “الفهم الخاطئ” بين الدول فيما يتعلق بوتيرة الربيع العربي فإن تركيا كانت الأولى أو الثانية على أقصى تقدير في ذلك السباق! فأنقرة هدمت بيديها معسكرها الذي شكلته على مدار عشرات السنين.
وبحسب خبر نشرته وكالة فرانس برس، فإن حكومتي مصر وقطر بدأتا عقْد لقاءات سرية في سبيل إعادة تطبيع العلاقات الثنائية بينهما. وفي هذه الأثناء، أدلى نائب رئيس الوزراء التركي بولنت أرينتش، تحت تأثير هذا التطور، على ما يبدو، بتصريح قال فيه ما مفاده إن بلاده يمكن أن تعيد تطبيع علاقتها مع مصر إذا نفذت الأخيرة بعض الشروط.
حسنًا، دعكم من تطبيع العلاقات مع مصر، أليس مَن قال: “مَن لا يشتم السيسي فهو خائن لبلده!” هو جزء من السياسة التي ينتسب إليها أرينتش؟
مَن الذي ألصق وصف “الانقلابيين” في تركيا بالذين قالوا: “تصرفوا بحنكة ورباطة جأش في علاقتكم بمصر”؟
وبالمناسبة فهناك روايات تتحدث عن احتمالية عقْد لقاء حتى بين الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وأمير قطر تميم بن حمد بن خليفة آل ثاني. فكيف ستفسر أنقرة صور السيسي وأمير قطر وهما يضحكان أمام عدسات كاميرات المصورين؟
تعتبر قطر أكبر قاعدة عسكرية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط. وبالرغم من علمها يقينًا بهذه الحقيقة، سعت تركيا لعقْد تحالف معادٍ للغرب مع قطر. وفي الواقع، كان هذا مشروعًا خياليًا استثنائيًا!
وما هي نتيجة هذه العملية؟ غيّرت قطر موقفها إزاء تنظيم حماس تحت وطأة الضغوط الغربية. كما تريد الدوحة تطبيع العلاقات بين حماس والقاهرة.
وفي نهاية المطاف، أصبحت تركيا في عزلة إقليمية. فإما أن الحكومة التركية ستستغل هذه الوحدة لـ”إعطاء درس في الأخلاق” على مستوى السياسة الداخلية، أو أنها ستغير وجهة سياستها الخارجية إلى الإتجاه المعاكس قائلة “حتى التغيير في السياسة الخارجية يعتبر نبلا وفضيلة”.
النكسة الثانية: اعتبار السياسة العالمية” لعب أطفال”
أعتقد أن البعض في أنقرة يفكر على النحو التالي: “إذا أردنا فبإمكاننا الرقص مع روسيا ومراوغتها، لنشتري في الوقت ذته صواريخ من الصين، والولايات المتحدة تحمي حدودنا الجنوبية ضد أي تهديد يأتي من سوريا. وإذا كان لدينا وقت فلننجز المشاريع الإنشائية بالأموال العربية وإذا كان لدينا المزيد من الوقت نكيل السباب للاتحاد الأوروبي، لنحقق بذلك منافع سياسية في الداخل”. ليس هناك عالم يمكن فيه لأية دولة أن تنجح في كل ذلك في وقت واحد!
والآن، دعونا من فكاهة “الدولة العظمى”، ولنحاول قراءة أشد رسالة وجّهتها أنقرة إلى موسكو فيما يتعلق بمسألة ضم شبه جزيرة القرم إلى السيادة الروسية. هل رأيتم تصريحًا صادرًا عن مسؤول في تركيا تُنتقد فيه سياسة رسيا أو حتى ورد فيه اسم روسيا بقصد الانتقاد، مجرد الانتقاد، ناهيكم عن أن يكون حادا أو شديد اللهجة؟
لماذا لم تلفت هذه القضية انتباه الصحافة الإسلامية في تركيا التي يعيش بها عدد لا بأس به من تتار القرم المسلمين؟
إلى أي مدى يمكن أن تتقارب الإدارة التركية مع إدارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي وقّع على وثيقة دفاعية تتضمن كلامًا مفاده أن “حلف شمال الأطلسي (ناتو) يعتبر أكبر تهديد يواجه موسكو” وهو تسيطر عليه مشاعر الغضب إثر “صفعة الروبل” القادمة من الغرب؟
وإلى أي مدى يمكن لتركيا أن تعارض نظام بشار الأسد وهي تتقارب مع موسكو وتعقد صفقات تجارية معها؟
إن مبادئ السياسة الخارجية ليس بها مبدأ مفاده “لأستنشق من كل زهرة رحيقا”. ولا يمكن إطلاق وصف “مبدأ” على الفكرة التي تقول “لنرضي الجميع بطريقة ما لنحقق مصلحتنا على المدى القصير”!
العودة إلى البداية
أعتقد أنني سمعت الكلام التالي من الأكاديمي التركي صاواش جينتش؛ إذ قال: “لقد فرّطت تركيا في جميع قيمها المضافة، ولم تعد تمتلك في الوقت الراهن سوى القيمة المجردة!”
كان بمقدور تركيا في الماضي أن تدمج دولًا مثل سوريا وإيران في النظام العالمي، لأن في ذلك الوقت كان كل مَن يبدو قريبا من تركيا يكتسب الشرعية.
فهل بقي لتركيا من ذلك الرصيد شيئا في الوقت الحالي؟ بالتأكيد لا. وهل بقيت لتركيا أي قيمة مضافة سوى “قيمتها المجردة”؟ يبدو أنها لم تبق لها أية قيمة مضافة!
أقولها باختصار، تركيا في طريقها للعودة مجددًا إلى نقطة البداية أو “تركيا القديمة” التي كنا ننتقدها في السابق.