مصطفى أونال
“إذا كانت الدولة ذات قوة وقدرة، لكنها فقدت رحمتها وشفقتها، فإنها تتحول إلى دولة استبداد وقمع”. ولنبدأ مقالنا بسؤال:
مَن الذي قال العبارة السابقة برأيكم؟ ربما ينسب البعض هذه العبارة إلى رئيس حزب الشعب الجمهوري كمال كيليتشدار أوغلو أو إلى رئيس حزب السلام والديمقراطية صلاح الدين دميرطاش. لا، لم تصدر هذه العبارة عن أحد زعماء المعارضة في تركيا، بل قائلها هو رئيس الوزراء أحمد داود أوغلو. وبطبيعة الحال، فهو لايتكلم عن تركيا. إلا أننا يمكن أن نقرأ هذا الكلام على أنه “الكلام لكِ يا جارة…”. فالحكومة في تركيا فقدت رحمتها وشفقتها منذ أمد بعيد. وربما لايفكر الجميع بهذه الطريقة. لكن نسبة الذين يفكرون هكذا ليست قليلة. فكم شخص فقد حياته خلال مظاهرات جيزي بارك؟ وقد ضخت الحكومة أكبر استثمار خلال الفترة الأخيرة لشراء مدرعات جديدة للشرطة وتجهيزها، وقتلت فتى في الرابعة عشرة من عمره، هو بركين إلوان، ولايمكن أن تتحجج الدولة بالمقلاع الذي كان بيديه والبلي الحديدي الذي كانت في جيبه كذريعة لقتله.
لقد ظهرت الوجه الاستبدادي للدولة في تركيا بمحافظة كونيا، حيث خافت الدولة من فتى يبلغ من العمر 16 عامًا؛ إذ اعتقلت قوات الشرطة الطالب بالمرحلة الثانوية “م.إ.أ” من فصله، وأودعته السجن، وحجتها في ذلك هي إساءته إلى رئيس الجمهورية. وبالتأكيد فلايمكن لأحد أن يرحب بعبارات نابية توجَّه إلى كبار المسؤولين بالدولة، ومن الطبيعي أن تفتح النيابة تحقيقًا في هذا الشأن. لكن الذي لايمكن قبوله هو أن تداهم قوات الشرطة مدرسة الفتى لتعتقله من وسط زملائه. فأين الرحمة والشفقة؟
الإساءة موضوع آخر. فهل لسان المسؤولين من السياسيين إلى أعلى مسؤول في الدولة عفيف؟ فلاداعي للعودة بالذاكرة إلى الوراء كثيرًا لنجد جواب ذلك فيكفينا أن ننظر إلى تصريحات المسؤولين على مدار الأيام الثلاثة الماضية. ولقد سمعنا عبارات إساءة لم نسمعها طوال حياتنا، ورأينا اتهامات ثقيلة تتوالى من أفواههم، وأصبحت الإساءة هي أسلوب الدولة. إن أنقرة ليست بريئة أبدا في هذا الموضوع، فملفها مليء جدا، ولو أننا سجلنا كلمات الإساءة في قائمة ربما يمتد طول القائمة من أنقرة إلى مدينة كونيا، وتصبح العبارات التي تفوّه بها ذلك الفتى اليافع خفيفة مقارنة بما يقوله المسؤولون بالدولة.
لقد أصدر القاضي قرار الاعتقال في غضون 5 دقائق، ولم يفهم الفتى “م.إ.أ” ماذا حدث؛ إذ يقول: “لم أجد وقتًا حتى للتعرف إلى وجه القاضي”. وهو قرار بعيد كل البعد عن القانون والعدل، وقد لاقى ردود فعل غاضبة ليس في تركيا فحسب، بل في العالم بأسره. أصبح وجه تركيا المطل على العالم الخارجي مظلما، كما تبدلت الإصلاحات التي وُصفت بـ”الثورة الصامتة” إلى نظام يزداد استبداده بمرور الوقت وإجراءاتٍ معادية للديمقراطية ومخالفة للقانون. ولا يكاد يمر يوم إلا ونشهد نماذج جديدة لهذه الإجراءات التعسفية، وتظهر أمامنا انتقادات لاذعة في الإعلام الغربي.
هذه ليست واقعة فردية، فقد وصل الوضع إلى ما نحن عليه الآن بشكل تدريجي، ولهذا لم يدهَش أحد بالوضع القائم. فالدولة في تركيا أضحت في حالة من الخوف والهلع. والقضاء صار ينفذ أوامر الطغمة السياسية وأصبح خاتمًا في إصبع السلطة التنفيذية تحركه كيفما تشاء. فالأجواء في العاصمة أنقرة تنعكس على مدينة كونيا أو قصر تشاغلايان العدلي في إسطنبول في صورة قرارات. وأمثلة ذلك كثيرة لا حصر لها. ولم تشهد تركيا على مر تاريخها تدخلات سافرة كهذه من السلطة التنفيذية في عمل القضاء والدعاوى التي ينظرها.
نرى التوجيه بشكل علني كما يراه الجميع. وكان الرئيس رجب طيب أردوغان قد أدلى بتصريح بشأن عملية 14 ديسمبر / كانون الأول، قبل يومين، قال فيه: “الشرطة ستعتقل آخرين في إطار هذا التحقيق”. فالملف معروف للجميع، فلا يوجد اتهام أو أي وثيقة تدعم الادعاءات. ولكن هذا لم يعد يعني شيئا، فالسلطة الحاكمة للدولة أصدرت أوامرها في إسطنبول وكونيا…
إن قوانين “تركيا الجديدة” بدأت تنتشر في صورة أمواج إلى أنحاء تركيا. وتسير التطورات بشكل ثنائي الاتجاه… ففي الوقت الذي تزيد الحكومة فيه من القمع والضغوط، يعرب الشعب عن دعمه لـ”الديمقراطية والحريات”، ويعارض الدولة، ويعصى أوامرها، ويقول لها “هذا لا يمكن!”، الأمر الذي أجبر الدولة على أن تتراجع خطوة إلى الوراء، لتطلق سراح الفتى المعتقل في كونيا وقد كان محظوظا إذ كانت فترة اعتقاله قصيرة انتظارا للمثول أمام المحكمة، وهذا هو الصحيح.
تشهد ربوع تركيا كلها “كوارث قانونية” بكل ما تحمل الكلمة من معان. والذي هيأ السبل والظروف لهذه الكوارث هو حزب العدالة والتنمية. إذ كانت حزم التعديلات القانونية التي مرت من البرلمان الواحدة تلو الأخرى من أجل هذه النتيجة وللوصول إلى هذه النتيجة قد تم بموجبها تشكيل محاكم الصلح والجزاء. وإذا نظر رئيس الوزراء داود أوغلو وسائر كوادر الحزب الحاكم في المرآة، سيرون نماذج الاستبداد والقمع؛ إذ أن الدولة فقدت صفة دولة القانون كما فقدت رحمتها وشفقتها أيضا، وتحولت إلى دولة طاغية مستبدة. ولو لم تكن كذلك، هل كانت لتقتل الفتى بركين إلوان البالغ من العمر 14 عامًا؟ أو هل كانت تعتقل الفتى “م.إ.أ” البالغ من العمر 16 عامًا وتفصله من المدرسة؟