بقلم/ محمد أبو سبحة
بعلاقات متوترة مع اليونان وقبرص وحلفائهما وفي مقدمتهم فرنسا وأمريكا، تعربد تركيا الآن وهي شبه مطمئنة في شرق البحر المتوسط تنقيبا عن موارد الطاقة، لأن الانقسام لا يزال سيد الموقف في الناتو والاتحاد الأوروبي حول إلى أي مدى يمكن تحمل استفزازات أنقرة وسلوكها العدواني في مقابل ضمان استمرار حدودها مغلقة على اللاجئين، لكن الكارثة التي لا تنتبه لها تركيا حاليا في خضم شعورها بضخامة فارغة من المضمون، هي خسارة حلفائها في الناتو وفي الاتحاد الأوروبي والعالم العربي كذلك، وتبني في المقابل تحالفات هشة مع دول مثل روسيا وإيران المنبوذتان والمنهكتان اقتصاديا.
إن تركيا باتت تبعث للعالم برسائل متضاربة في ظل سياسة خارجية متخبطة وعدوانية لا تتماشى مع العصر الحالي تفقدها أكثر مما تطمح إلى الاستفادة من ورائها، ثم يصدر الرئيس أردوغان لشعبه أن بلادهم تتعرض لمؤامرات، من أجل إحياء نعرات قومية لا طائل منها.
فبعدما كانت تتودد تركيا إلى الاتحاد الأوروبي للحصول على عضويته، يتزايد ندم الدول الأوروبية يوما بعد يوم على اعتبارهم تركيا شريكا يمكن الوثوق به وتوقيعهم معها على اتفاق الهجرة في العام 2016 الذي منح أنقرة الآن فرصة ابتزاز الأوربيين والضغط عليهم بورقة اللاجئين رغم أنها تحصل على تمويل ضخم مقابل استضافتهم على أراضيها.
تحولت كذلك النظرة في المجتمع العربي إلى تركيا من دولة نامية قدوة في النمو الاقتصادي، إلى دولة “غازية” طامعة في أراض وثروات المنطقة رغبة في إحياء إرثها الإمبراطوري، وتسببت عنتريات أردوغان على سبيل المثال في الابتعاد عن مصر العروبة وأدى إصراره موخرًا على التدخل في الجارة ليبيا إلى تدمير العلاقة بين البلدين ولم تفلح جهود من حوله في ترميمها حتى الآن.
الرئيس التركي أردوغان ولغرض شغل الجيش عن تنفيذ انقلاب عليه، وإضعاف محاولته إن دبر لذلك، شغل القوات المسلحة التركية بعمليات عسكرية خارج الحدود تكلفت ميزانيات طائلة وأشعلت عداء مع شعوب تلك الدول.
في العراق وبحجة القضاء على داعش، دخل الجيش التركي في 2015 إلى منطقة بعشيقة في مدينة الموصل، التي تحررت من داعش في 2017 دون أن تطلق القوات التركية رصاصة واحدة، ومع ذلك لا تزال تركيا ترفض سحب تلك القوات رغم الرفض الرسمي والشعبي، ولعل ضعف الموقفين في البلد المنهك سياسيا واقتصاديا جرأ تركيا على تجاوزاتها.
وفي 2020 تجدد الرفض العراقي للاعتداءات التركية على سيادة الأراضي والأجواء العراقية، بعد الغارات الجوية التي أطلقتها تركيا شمال العراق منتصف العام بدعوى ملاحقة عناصر حزب العمال الكردستاني، ثم ألحقت ذلك بتوغل بري بعمق 30 كيلومترًا، وبطول 50 كيلو متر أسفر عن إنشاء 45 نقطة عسكرية بطول الحدود والسيطرة على جبل خامتير.
تمثل الرفض العراقي رسميا في احتجاج قائم لدى مجلس الأمن الدولي منذ 2015 بالاضافة إلى استدعاء السفير التركي وتسليمه عدة مذكرات احتجاج، وألغيت زيارة كانت مقررة لوزير الدفاع العراقي هذا العام، فيما عبر عراقيون عبر منصات التواصل الاجتماعي عن الغضب الكامن في صدورهم تجاه الاعتدائات التركية المتكررة والتي سقط بسببها مدنيون، وانطلقت دعوات لمقاطعة السلع التركية والسياحة هناك.
وفي سوريا، بعدما انقلبت العلاقة بين أنقرة ودمشق من الود إلى العداوة، وجد الرئيس التركي بعام 2016 الوقت ملائما لإيجاد موطئ قدم في البلد العربي المضطرب، فأدخل في ذلك العام قوات تركية تحت ذريعة محاربة داعش بالإضافة إلى القضاء على النفوذ الكردي الآخذ في التزايد بمنطقة شرق الفرات، لكنه لم يسلم الأرض في النهاية لأصحابها سواء النظام أو المعارضة ويرحل وإنما ظل يساوم من أجل تحقيق مكاسب.
نفذ الجيش التركي خلال الفترة من 2017 حتي 2019 ثلاث عمليات عسكرية، أولها وأهمها درع الفرات التي أخلت المنطقة من داعش لكن الجيش التركي والمليشيات حلت محل التنظيم الإرهابي، ثم وجه أردوغان قواته ومسلحي المليشيات إلى محاربة الأكراد فكانت عملية غصن الزيتون التي ارتكب فيها الجيش التركي جرائم مروعة دون داع تمثلت في تشريد سكان عفرين واحتلال منطقتهم وإحداث تغيير ديمغرافي بإسكان عائلات المقاتلين السوريين والأجانب في منازلهم والاستيلاء على ممتلكاتهم وأراضيهم الزراعية، ليخلق أردوغان عداوة بين عرب سوريا وكردها بدلا من أن يوحد صفهم.
ثم جائت عملية نبع السلام لتكرر في شرق الفرات ما حدث في عفرين لكن الاعتراض الروسي والرفض الأمريكي جعل أردوغان يوقف علميته بعد السيطرة على تل أبيض ورأس العين، وتفشل خطة “المنطقة الآمنة”.
حاليا لا يخفي السوريين في شمال البلاد شعورهم بالخذلان من تركيا، فلا هي حققت ما وعدت به وأسقطت النظام وسلمت الحكم للمعارضة ولا هي تريد الاستمرار في تحمل عبئهم، إذ أوقفت استقبال اللاجئين السوريين نهائيا وتسعي لترحيل ثلاثة ملايين منهم يقيمون على أراضيها إلى ما تسميه “المنطقة الآمنة”، بعد أن ربحت سياسيا من وراء استضافتهم المدفوع ثمنها من قبل الاتحاد الأوربي.
في الوقت الذي أشعلت فيه تركيا توترات مع اليونان وقبرص، أقرت أثينا مؤخرا اتفاقيتين بحريتين هامتين مع إيطاليا ومصر ودخلت اتفاقية تعاون عسكري بين فرنسا وقبرص حيز التنفيذ ورفعت الولايات المتحدة حظر السلاح الأمريكي عن قبرص، بعدما قدمت منحة تدريب عسكري لقواتها الأمنية، فيما لم تجني تركيا من سلوكها سوى تهديدات من الاتحاد الأوروبي بعقوبات اقتصادية، أرغمتها على أخذ خطوة إلى الوراء وسحب سفينة التنقيب أوروتش رئيس التي أزعجت أثينا، من شرق المتوسط.
بجانب اتفاقيتها المثيرة مع حكومة الوفاق، التي اهتزت لنبأ رغبتها في الاستقالة، تبرر تركيا التنقيب عن الطاقة شرق المتوسط، بالحفاظ على حقوق شعب شمال قبرص بينما زعيم قبرص الشمالية مصطفى أكينجي بات يؤكد أنه آن الأوان لشعبه أن يستقل عن تركيا ويتمتع بهوية خاصة به ويحصل على اعتراف بدولته، وإقامة علاقات مع العالم، ولا يمنعه عن ذلك سوى تركيا، التي أكد أنها تجهز للتدخل في الانتخابات المقبلة.
لكن شعور أردوغان بالوحدة والآخذ في الازدياد سيجبره قريبًا على وقف العربدة التركية في شرق المتوسط، وإلا فسيكون قد حكم على نظامه بالانهيار، وهو بالطبع لا يريد أكثر من الاستعراض وقد تحقق له ما أراد.
*باحث بالشأن التركي
[email protected]
@MohmadAbosebha
—
نشر في: 2020/09/21
تم إزالة صورة شخصية من المقال بتاريخ -5/5/2021- بناء على طلب الكاتب-