بقلم: عثمان أكجاغ / تركيا
إسطنبول (زمان التركية) – بائي فانجلي رجل قصير القامة نحيف الجسم بلغ من عمره 74 سنة، كأن تجاعيد وجهه آثار لحياة قاسية. وفي يوم من الأيام استيقظ من نومه وكان يشعر بفرحة غريبة وسرور عجيب وكأنه تخلص من أعباءٍ متراكمةٍ على عاتقه. لا عمل اليوم.. لقد تقاعد بعد 56 سنة من عمل شاقٍ على دراجته ذات العجلات الثلاث المسماة “بديجاب”. سيغادر هذه المدينة التي أتاها في عنفوان شبابه.. هذه المدينة أخذت حياته كلها. بات يود أن يرجع إلى قريته التي تركها منذ سنوات طويلة.
حان وقت الرحيل، فسيرجع إلى قريته التي تذخر بذكريات طفولته وشبابه. استودع دراجته أو إن صح الوصف، رفيقته التي حملت معه هموم الحياة خلال سنوات طويلة.
لقد عمل لسنوات طويلة في نقل الركاب بالمدينة.
غادر بائي إلى حيث قريته وعندما وصلها وبينما يتمتع بالنظر إلى الحدائق والحقول التي تقع على حافة الطريق في شوق، رأى في طريقه أطفالاً صغاراً يعملون في الحقول. ولكن لماذا هؤلاء الأطفال ليسوا في المدرسة؟ لماذا هؤلاء يعملون في الحقول؟ بعدما استفسر أهل القرية ذكروا أن هؤلاء الأطفال يعملون لأنهم أبناء الفقراء وليس أمامهم أي خيار سوى العمل ليعيشوا.
بائي حزن حزناً شديداً على هؤلاء الأطفال بحيث لم يكد ينام هذه الليلة. كانت الأفكار تأتي إليه من كل حدب وصوب.. لأنه كان يعرف الفقر ويعرف كيف تكون الحياة قاسية لأطفال صغار، خاصة حينما لا يصبح عندهم أي مؤهلات دراسية. تذكر طفولته وهو أيضا لم يستطع أن يدرس لسبب ظروفه المادية، وغادر القرية في سن مبكر، وقضى عمره في العمل بالدراجة. كأن الظلام تمكن من روحه بمخالب من حديد، ولا يقدر أن يتفلت منها.. وأسئلة تلو أخرى تأتي من كل جانب: كيف ينجو هؤلاء الأطفال؟ وكيف يذهبون إلى المدرسة؟ لا تكون الدراسة بدون مال. ولكن كيف يتقدم البلد إن لم يدرسوا؟ علي أن أفعل شيئًا لأجل هؤلاء الأطفال حتى لا يضيعوا في الحياة. لأنهم مستقبلنا، ولكن كيف وأنا فقير أيضاً وقد بلغت من الكبر عتياً.. وظل على هذا الحال حتى الصباح.
انبلج الصبح وقد حسم بائي أمره وقرر أن ينفق كل ما يملك من حطام الدنيا وهو 5000 ين (785 دولار)، مكافأة التقاعد التي تقاضاها، من أجل مساعدة الأطفال على الدراسة، ورجع إلى المدينة مرة أخرى ليستأجر شقة عبارة عن غرفة واحدة بجوار محطة قطار ويبدأ العمل من جديد بعد سن 74.
كان يعيش حياة بسيطة جدًا. لا يبالي بملابسه القديمة المرقعة التي حصل عليها من صناديق القمامة، حيث كان يأخذ ما استخدمه الناس ورموه لينظفه ويلبسه مجددا. كان حذاؤه، كل زوج منهما، مختلف عن الآخر. أحياناً كان يقتني طعامه من القمامة أيضاً وكان أصدقاؤهه يمنعونه عن ذلك ولكن هو يقول لهم: هذا الخبز عمل يد الزارع.. الناس يرمونه في القمامة. كل عمل يستحق الاحترام وأنا احتراماً للزراع آخذ الخبز وآكله، وهذه طريقة لتقليل الإسراف أيضاً. كم مرة حاولت ابنته أن تقنعه بأن يلبس ملابس جديدة ولكن دون جدوى. تقول: كان والدي يقضي حياته بإمكانيات ضئيلة جداً وكان يرقع ملابسه دائماً. لو اشترينا ملابس جديدة له كان يغضب علينا بدل الشكر والتقدير.
وهكذا جرت الأيام في عمل دؤوب ليل نهار حتى وصل بائي إلى 90 عاماً من عمره. وقد حمل الركاب من مكان إلى مكان كل يوم بدراجته ذات العجلات الثلاث. وأنفق مكسبه كله لمساعدة طلاب فقراء ومؤسسات تعليمية.
لكنه ذات يوم سقط العجوز بائي من دراجته أثناء عمله، ومنذ ذلك اليوم بات يجد صعوبة في ركوب الدراجة. حينما ذهبت به بنته إلى المستشفى قال الطبيب: رجله لا تحتمل أن يركب الدراجة أكثر من ذلك، ومنعه من ركوب دراجته.
هل ترك الرجل الطاعن في السن العمل؟ لا.. وجد أعمالاً خفيفة أخرى تناسبه بجوار المحطة وقضى قرابة سنة بهذا الشكل. وقال لبنته يوماً: “قد عملت كثيراً ولكن الآن أشعر بالتعب”، تعجبت بنته كثيراً؛ لأنها أول مرة تسمع من والدها كلمة “التعب” كأن هذه الكلمة لم تكن موجودة في قاموسه. قضى 16 سنة في سبيل العمل الخيري والآن باتت لا تسمح ظروفه الصحية لأي عمل.
بائي طوال هذه السنوات أنفق 3500 ين (52000 دولاراً) وساعد 300 طالب في مستويات تعليمية مختلفة. في مقابل ماذا؟
لم يطلب منهم شيئاً إلا أن يكونوا أصحاب عمل، ويصلوا إلى مستوى الإتقان والاحتراف في مجالهم، ولم يطلب منهم أي عائد سوى أن يكونوا رجالاً صالحين ونساء صالحات ويخدموا بلدهم. بائي فانجلي (Bai Fangli) قد قضى حياة صالحة وتوفي سنة 2005 شارك في جنازته عدد كبير من الناس وانتشر صيته في مستوى البلد. لم يترك وراءه أي مال ولكن ترك روائه حكمة “لم يفُتْ الأوان للخير”.
نعم أحياناً تأتي الفرص من الله تعالى مقدماً فضلاً منه تعالى بدون أي سعي مُسبَق. ولكن أحياناً أخرى ما عمله الإنسان يكون وسيلة لفضل الله تعالى وكرمه. حينما سعى الإنسان معتمداً على إرادة الله عز وجل تيسر له الأمور في حين أنه لا يملك شيئاً. لو توكل العبد على الله حق توكله وأعطى الإرادة حقه لتجلى له الوجود في العدم، ولكان ملاذاً للآخرين رغم أنه لا يملك شيئاً، وتجاوز الصعاب، وتسير له كل عسير. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: لن يغلب عسر يسرين!