شاهين ألباي
لا تنظروا إلى ما حدث منذ الانتخابات العامة الأخيرة التي أجريت في تركيا قبل ثلاث سنوات ولا إلى مجزرة “أولودره” ولا إلى أحداث متنزه “جيزي بارك” ولا إلى ما فعله الحزب الحاكم للتستّر على مجريات التحقيق في أكبر فضيحة فساد ورشوة منذ قيام الجمهورية كُشف عنها في تاريخ تركيا يومي 17 و 25 ديسمبر / كانون الأول 2013 ولا إلى أحداث يومي 6 و 7 أكتوبر / تشرين الأول الماضي، بل انظروا فقط إلى ما حدث منذ الانقلاب الحكومي على “الإعلام الحر” يوم 14 ديسمبر الجاري، أي انظروا إلى ما حدث خلال الأسبوعين الماضيين.
[one_third][box type=”shadow” align=”alignleft” ]لقد اتجهت الإدارة التي تحكم تركيا حاليًا، وفي مقدمتها الرئيس رجب طيب أردوغان، إلى الإجراءات التعسفية والقمعية بمرور الوقت. كما لجأت إلى إلغاء حق المعارضة الذي يعتبر من أبسط وأهم الحقوق في الدول الديمقراطية. فالمجتمع يغلي أما الحكومة فتسعى لإحكام سلطتها عن طريق حملات الاستقطاب والقمع.[/box][/one_third]لقد شهدنا اعتقال أكرم دومانلي، رئيس تحرير جريدة “زمان”، أكثر الصحف مبيعًا في تركيا، وهدايت كاراجا مدير مجموعة “سامان يولو” الإعلامية التي تمتلك واحدة من أكثر القنوات متابَعة في البلاد، هذا فضلًا عن اعتقال عدد من القيادات الشرطية والأمنية، وذلك استنادًا إلى ادعاءات ليس بها أدنى حد من حدود الإقناع، بقرار صادر عن محكمة الصلح والجزاء، المشكوك أصلًا في استقلاليتها، والتي تشكَّلت في وقت لاحق على التهم المنسوبة إلى المعتقلين، أي بشكل يخالف مبدأ القاضي الطبيعي.
كتب البروفيسور كمال جوزلر أحد أبرز الحقوقيين المتخصصين في شؤون المحاكم الدستورية في تركيا عن محاكم الصلح والجزاء عندما جرى تشكيلها فقال ما يلي: “لا يمكن التحقق من ارتكاب شخص جريمة من عدمه إلا من خلال المحاكمة أمام قضاة مستقلين معيَّنين وفق مبدأ القاضي الطبيعي الذي يعتبر – بدوره – ضمانة ليس للمتهمين فحسب، بل كذلك للرأي العام الذي ينتظر ظهور الحقيقة”. (محاكم الصلح والجزاء ومبدأ القاضي الطبيعي، 29/8/2014)
إن الانقلاب ضد “الإعلام الحر” يوم 14 ديسمبر الجاري لا ينتهك المادة رقم 37 من الدستور التركي، والتي تنص على أنه: “لا يمكن عرض أي متهم على أية جهة بخلاف المحكمة التي يتبعها من الناحية القانونية، ولايمكن تشكيل جهات استثنائية تمتلك صلاحيات قضائية تؤدي إلى عرض أي شخص أمام جهة بخلاف المحكمة التي يتبعها من الناحية القانونية”. بل ظهر أمامنا عيانًا بيانًا أن هذه الحملة شُنّت بتعليمات صادرة عن أعلى سلطة في الدولة، رئيس الجمهورية، وأنها تنتهك المادة رقم 138 من الدستور، والتي تنص على مايلي: “لا يمكن لأية هيئة أو منصب أو جهة أو شخص أن يصدر أوامر أو تعليمات إلى المحاكم والقضاة فيما يتعلق باستخدام السلطة القضائية، كما لا يمكنه إرسال تعميم أو تقديم توصية أو إيحاء إلى هذه الجهة”. وقد رفضت النيابة طلب إخلاء سبيل هدايت كاراجا واعترضت على قرار إطلاق سراح أكرم دومانلي.
وفيما يلي نذكر بعض الضغوط التي تعرضت لها المعارضة وشهدناها منذ يوم 14 ديسمبر الجاري:
– أصدرت محاكم الصلح والجزاء قرارات بتفتيش مقرات حزبي الشعب الجمهوري والحركة القومية المعارضين في بعض المحافظات بحجة تعليقها لافتات بمناسبة الذكرى الأولى للكشف عن فضيحة الفساد والرشوة العام الماضي. وقد أُزيلت اللافتات بقوة الشرطة. كما تعرضت مجموعات من أنصار الحزبين إلى حصار الشرطة عندما أرادت هذه المجموعات تنظيم وقفات للاحتجاج على مساعي الحزب الحاكم للتستّر على فضيحة الفساد.
– تم منع أعضاء اتحاد الغرف الهندسية والمعمارية، المعروف عنهم اعتراضهم على مخططات الإعمار غير القانوني، بما في ذلك القصر الرئاسي غير الشرعي أو كما يعرف بـ”القصر الأبيض”، إلى خارج تركيا إلا بتصريح قضائي.
[one_third][box type=”shadow” align=”alignleft” ]إن عمليات الاستقطاب المماثلة التي شهدتها تركيا في الماضي أفضت إلى وقوع كوارث كبيرة لم يسلم منها أحد. ولا يمكن حماية شرعية الحكومات من خلال الفوز في الانتخابات فقط، بل يتم ذلك أيضًا من خلال الالتزام بمبدأ دولة القانون واحترام حق المعارضة.[/box][/one_third]- صدر حكم بالسجن ثلاثة أشهر على خمسة طلاب بالمرحلة الثانوية، بينهم الشاب “م.أ. تومبول” الذي أُصيب بمشعل غازي واعتقل في أثناء احتجاجات متنزه “جيزي بارك” في مدينة إزمير بزعم مقاومة قوات الشرطة.
– اعتقلت الشرطة تلميذا يبلغ من العمر 16 عامًا، ويدعى “م.إ. أ.”، بحجة الإساءة إلى رئيس الجمهورية، غير أنها أطلقت سراحه عقب الاعتراض على القرار. كما بدأ التحقيق مع 10 شباب في مدينة إزمير للتهمة ذاتها.
– حظرت محافظة كهرمان مرعش الإدلاء بأية بيانات صحفية أو تنظيم أي وقفات بمناسبة الذكرى السادسة والثلاثين للأحداث التي شهدتها المحافظة وراح ضحيتها 103 أشخاص بحسب التقارير الرسمية.
– أُخلي، بشكل غير قانوني، مركز الحوار بين الثقافات التابع لوقْف الصحفيين والكتّاب في منطقة أيوب بإسطنبول أمس.
لقد اتجهت الإدارة التي تحكم تركيا حاليًا، وفي مقدمتها الرئيس رجب طيب أردوغان، إلى الإجراءات التعسفية والقمعية بمرور الوقت. كما لجأت إلى إلغاء حق المعارضة الذي يعتبر من أبسط وأهم الحقوق في الدول الديمقراطية. فالمجتمع يغلي أما الحكومة فتسعى لإحكام سلطتها عن طريق حملات الاستقطاب والقمع.
وفي النهاية، أود أن أذكّركم بحقيقة مفادها أن عمليات الاستقطاب المماثلة التي شهدتها تركيا في الماضي أفضت إلى وقوع كوارث كبيرة لم يسلم منها أحد. ولا يمكن حماية شرعية الحكومات من خلال الفوز في الانتخابات فقط، بل يتم ذلك أيضًا من خلال الالتزام بمبدأ دولة القانون واحترام حق المعارضة.