بقلم: ياوز أجار
إسطنبول (زمان التركية) – صدرت الأطراف الكمالية العلمانية في تركيا آراء نمطية وأحكاما مسبقة حول حركة الخدمة، تصنفها الشريك الأكبر لحزب العدالة والتنمية بقيادة رجب طيب أردوغان، وتعتبرها صاحبة الدور الأبرز في بسط سيطرته على الدولة كلها، ولولاها لسقط أردوغان وحزبه من صفحات التاريخ في فترة وجيزة، وبالتالي يحمّل أصحاب تلك الآراء الحركةَ مسؤوليةَ التراجع بل الانهيار الذي تشهده تركيا اليوم في شتى المجالات. فضلاً عن ذلك، فإن هناك محافل دولية، سواء في العالم الغربي أو العربي، تنقل هذه الآراء والأحكام إلى مجتمعاتها دون عرضها على الواقع والمعايير الموضوعية للتأكد من صحتها أو عدمها.
وبما أن الجميع متفقون على تقديمِ حركةِ الخدمة الدعمَ لأردوغان اعتبارًا من 2002 حتى 2011، فالواجب علينا هو تسليط الضوء على “ماهية” كلٍّ من النظام الذي أسّسه أردوغان ضمن تلك الحقبة، والنظام الذي أسّسه بعد هذا التاريخ، لكي يمكن الحكم بشكل سليم على تلك الآراء والأحكام بالسلب أو الإيجاب.
حلفاء “المبدأ”
فقبل كل شيء، كان البيت الداخلي لحزب أردوغان، أي مؤسسو حزب العدالة والتنمية ونوابه البرلمانيون، وكذلك مؤيدوه، يتألفون، في تلك الفترة (2002 – 2011)، من شخصيات وفئات ذات انتماءات فكرية وعرقية ودينية مختلفة للغاية. كما أنه كان هناك حلفاء لأردوغان في الداخل والخارج؛ فحلفاؤه في الداخل كانوا الديمقراطيين والليبراليين من الأتراك والأكراد، والأرمن واليهود من الأقليات العرقية والدينية. وكانت حركة الخدمة ضمن حلفاء “المبدأ” هؤلاء الذين ساندوا أردوغان بـ”تحفّظٍ” وبـ”شرطِ التزامه بـالمبادئ” التي أعلنها في بداية تأسيسه لحزبه ثم تخلى عنها فيما بعد. وهو السبب ذاتُه الذي صدَّرَه كلٌّ من أحمد داود أوغلو وعلي باباجان كمبرّرٍ للانفصال عن العدالة والتنمية في وقت لاحق. أما الحلفاء في الخارج فجاءت الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي في مقدمتهم.
في بدايات حكم العدالة والتنمية، اختار الرئيس الأمريكي باراك أوباما تركيا كأول وجهة له بعد توليه رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية، وأعلن رئيس الوزراء البريطاني توني بلير كامل دعمه لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، وكذلك دعمت جميع هيئات ومؤسسات الاتحاد الأوروبي حكومة أردوغان. هذا الدعم الأمريكي والأوروبي جاء بعد عشرات الزيارات التي أجراها أردوغان إلى الولايات المتحدة والعواصم الأوروبية قبل وبعد تأسيسِ حزبه وإعلانه التعهد بتمسك المبادئ الديمقراطية العالمية وضمّ تركيا إلى الاتحاد الأوروبي.
بمعنى أن ماهية أو طبيعة النظام الذي أسّسه أردوغان في الفترة الممتدة من 2002 إلى 2011 كانت تقوم على “التحالف الديمقراطي” الذي حظي بدعم جميع الديمقراطيين والليبراليين، إلى جانب حركة الخدمة في الداخل؛ والدول الغربية في الخارج.
إرهاصات الاستبداد
ولكن ما إن حصل أردوغان على دعم نصف الشعب في الانتخابات البرلمانية التي أُجريت في 2011 حتى أدار دفّته نحو تأسيسِ نظام “الرجل الواحد”. فبدلًا من أن يقرأ هذا النجاح السياسي المذهل على أنه تحقق بفضل دعم الديمقراطيين والليبراليين، اعتبر أنه حان وقت النزول من “قطار الديمقراطية” قائلاً: “لم أعد أحتاج إلى أحد بعد اليوم”، بعدما سبق أن قال عندما كان في صفوف حزب الرفاه “الإسلامي” في موضوع الديمقراطية على مرأى ومسمع من الجميع: “الديمقراطية أداة وليست غاية بالنسبة لنا، فإذا ما وصلنا إلى المحطة المطلوبة نزلنا من قطار الديمقراطية”، على حد تعبيره.
بعد نزول أردوغان من قطار الديمقراطية عقب فوزه الساحق في انتخابات 2011، بدأت الأوساط الديمقراطية والليبرالية من الأتراك والأكراد، بما فيها حركة الخدمة، تسحب “دعمها المشروط” منه، إلى جانب حلفائه في الخارج من الولايات المتحدة والدول الأوروبية. أما أردوغان فقد توجه إلى إزالة “الطبيعة الفسيفسائية” لبيته الداخلي أولا؛ فوضع -من جانبٍ- برزخا بينه وبين عشرات الرموز الديمقراطية المنحدرة من انتماءت مختلفة، من أمثال وزير الثقافة الأسبق أرطغرل جوناي المنتقل من حزب الشعب الجمهوري إلى صفوف حزب العدالة والتنمية، وأبرز -من جانب آخر- أسماء منحدرة من الإسلام السياسي، ومعظمهم كانوا موالين لإيران.
بعد خلعه رداء الديمقراطية وفقدانه دعم الديمقراطيين والليبراليين، بما فيها حركة الخدمة، وفتور العلاقات مع كل من واشنطن وبروكسل في الخارج؛ اتجه أردوغان سريعًا لإجراء تعديلات قانونية بغية أخذ جميع أجهزة الدولة تحت سيطرته. وبدأ بجهاز الاستخبارات، حيث سنّ قانونًا منع فيه إمكانية التحقيق مع أي عنصر استخباراتي إلا بموافقة رئاسة الوزراء، مهما ارتكب من الجرائم، وبذلك وفّر حصانةً قانونية لكل مسؤول خرج أو سيخرج من الإطار القانوني.
وبفضل هذا القانون، الذي يعتبر أول إرهاصات الاستبداد القادم، أنقذ أردوغان عناصر استخباراتية متهمة بالتعاون مع اتحاد المجتمعات الكردستانية (KCK)، الهيئة الإدارية المدنية العليا لحزب العمال الكردستاني المصنف ضمن قائمة الإرهاب. بل كان حزب الشعب الجمهوري اتهم جهاز الاستخبارات بتأسيس وإدارة هذا الاتحاد بشكل مباشر خلال استفسار قدمه لرئاسة البرلمان. وفي أعقاب التعديلات وحركة الطرد والإحلال التي بدأت بذريعة “دعوة رئيس الاستخبارات “هاكان فيدان” للتشاور حول هذه الادعاءات” المذكورة في 7 فبراير 2011، أو بالأحرى بدعوى الصلة بحركة الخدمة، تحوّل جهاز الاستخبارات إلى أداة تابعة للسلطة السياسية تنفّذ عملياتها السرية والعلنية ضد المعارضين كما هو الحال لدى أجهزة الاستخبارات البعثية.
ركائز النظام الجديد
استطاع أردوغان التخلص من الكوادر الديمقراطية والليبراليية من الأتراك والأكراد بفضل التهمة الجاهزة ذاتها ألا وهي “الانتماء إلى الكيان الموازي” أو “منظمة فتح الله كولن” أو “حركة الخدمة”، بعد أن وضعهم جميعًا في “خانة الأعداء” الواجب تصفيتهم. لكن نظرًا لأنه لم يكن لأردوغان وحزبه كوادر جاهزة مؤهلة لإدارة الجهاز البيروقراطي في ذلك الوقت اضطر إلى الاستعانة بأعدائه القدماء ممّن ينتمون إلى الدولة العميقة أو من يعرفون إعلاميا بـ”تنظيم أرجنكون”، الذين تمركزوا في الأساس حول حزب الوطن اليساري بقيادة دوغو برينجك الذي يتبنى رؤية قومية علمانية يسارية أوراسية. وبالتزامن مع خسارة أردوغان دعْمَ الأكراد أيضًا انضمّ إلى التحالف الأردوغاني الأرجنكوني عنصرٌ ثالث، وهو حزبُ الحركة القومية بقيادة دولت بهجلي الذي يتبنى رؤية قومية تركية يمينية أطلسية. بمعنى أن أردوغان في الفترة الجديدة فيما بعد (2011) بنى نظامًا ثالوثيًّا بحلفائه الجدد، أي الأطلسيين القدماء والأوراسيين الجدد، إلى جانب الإسلاميين الراديكاليين من شيعته. وذلك بالإضافة إلى أن هذا النظام الثالوثي حصل بشكل مباشر أو غير مباشر على دعم كل الأحزاب البرلمانية إن استثنينا حزب الشعوب الديمقراطي “الكردي” بدرجة كبيرة.
وبما أن حركة الخدمة، بالإضافة إلى الكوادر الديمقراطية والليبرالية، سحبت دعمها من أردوغان في الفترة الجديدة التي أسس فيها نظامًا جديدًا مغايرًا لسابقه تمامًا، ولم يبق من يدعمه إلا الأطلسيون القدماء والأوراسيون الجدد، من مخلفات “الدولة العميقة”، فلا يمكن تحميلها مسؤولية الجرائم التي ارتكبها هذا النظام الثالوثي بعد عام 2011 والانهيارات التي تشهدها البلاد على جميع الأصعدة، بل يتحمّل العلمانيون الأوراسيون اليساريون والقوميون اليمينيون من مخلفات الأطلسيين المسؤولية عن ذلك، بالإضافة إلى الأحزاب المعارضة لموافقتها السرية أو العلنية على إجراءات هذا النظام أو فشلها في أداء معارضة حقيقية.
وغاية ما يمكن القول فيما يخص حركة الخدمة والكوادر الديمقراطية الأخرى هي أن الحصة الكبرى من النجاحات التي حققتها حكومة أردوغان في الفترة الأولى (2002 – 2011) في ملفات التوافق المجتمعي وحقوق الإنسان والاقتصاد والسياسة الخارجية السلمية تعود لهذه المجموعة بدون شك، ولا يمكن اعتبارها شريكة نظام أردوغان المؤسس في الفترة الجديدة، انطلاقًا من دعمها السابق له عندما كان ملتزمًا بالمعايير الديمقراطية. بل إن الإسلاميين الراديكاليين وحزب الوطن الأوراسي وحزب الحركة القومية الأطلسي هم المسؤولون بصورة أساسية عن تحوّل أردوغان إلى الرجل الأوحد المسيطر على كل شيء في الفترة الجديدة.
تبني المعارضة خطاب النظام
لذلك فإن أطروحة الكماليين العلمانيين الزاعمة بأن حركة الخدمة جعلت من أردوغان ديكتاتورا مخالفة للواقع، لذا يتوجب عليهم أن يراجعوا أنفسهم ومواقفهم ويلوموا أنفسهم؛ لأنهم أصبحوا أداة مشرعنة لنظام أردوغان وحلفائه الجدد من خلال استخدامهم الخطاب العدائي ذاته معه تجاه حركة الخدمة وموافقتهم على إجراءاته غير الديمقراطية صراحةً أو ضمنًا أو بالصمت.
وعلى الرغم من أن حزب الشعب الجمهوري الكمالي العلماني استغل فضيحة الفساد والرشوة عام 2013 في هجومه ضد نظام أردوغان، ولا يزال يستغلها إلى اليوم، إلا أنه بعد فترة معينة خضع للخطاب الرسمي وبدأ يستخدم سفسطة “الكيان الموازي” أيضًا، ومن ثم سكت على حركة التصفية الشاملة في مؤسسات الدولة بهذه الحجة، وكذلك على أولى ممارسات أردوغان نحو الدكتاتورية عندما قرر الاستيلاء على مجموعة كوزا – إيباك الإعلامية في عام 2015 أولاً، ثم على مجموعة فضاء (صحيفة زمان ووكالة جيهان) قبل 5 أشهر من محاولة الانقلاب في 2016، حيث كانتا من أكبر العوائق أمام تحقق هذه المؤامرة الخبيثة.
وكذلك أدخل أردوغان تعديلات دستورية سمحت برفع الحصانة عن البرلمانيين وهي التعديلات التي فتحت الباب لاعتقال رئيس حزب الشعوب الديمقراطية الكردي صلاح الدين دميرتاش، وعددٍ من البرلمانيين الأكراد، لرفضهم الرواية الرسمية للانقلاب المزعوم في 2016، فضلاً عن فرض وصاية قضائية على البلديات الكردية. حسنًا فهل حركة الخدمة هي المسؤولة عن هذه الخطوات كحركة مدنية أم حزب الشعب الجمهوري “الكمالي العلماني” الذي وافق على تلك التعديلات إلى جانب التحالف الحاكم؟!
هل حركة الخدمة هي المسؤولة عن الحرب الشاملة التي أعلنها هذا النظام الثالوثي في عام 2015 على المواطنين الأكراد في المدن الشرقية بدعوى ممارسات “بيدقه” حزب العمال الكردستاني أم حزب الشعب الجمهوري الذي تبنى اللغة القومية ذاتها التي تبناها هذا النظام لإثارة مشاعر القوميين الأتراك واستعادة الحكومة المنفردة بأصواتهم بعدما فقدها بسبب تخلي الأكراد عن دعم أردوغان؟ وكذلك هل حركة الخدمة هي المسؤولة عن العمليات العسكرية الأربعة التي نفذها النظام الثالوثي على الأراضي السورية والليبية بعد إعادة هيكلة الجيش من خلال تدبير انقلاب شكلي على الحكومة أم كل من حزب الشعب الجمهوري العلماني الكمالي وحزب الخير القومي اللذين صادقا على المذكرات البرلمانية التي سمحت بهذه التحركات العسكرية وتوقيع الاتفاقية مع حكومة الوفاق الوطني في طرابلس التي رسخت أقدام أردوغان في الداخل والمنطقة؟
وما هي المعارضة التي مارسها الكماليون العلمانيون ضد ممارسات هذا النظام الثالوثي بعد مؤامرة الانقلاب التي استغلها لتنفيذ حركة العزل والاعتقال غير المسبوقة في تاريخ تركيا بل العالم بحيث أسفرت عن فصل واعتقال مئات الآلاف من المدنيين الذين لا يمتّون بصلة إلى الانقلاب المزعوم.
مزاعم عدم شفافية الخدمة
يزعم الكماليون العلمانيون –إلى جانب النظام الثالوثي- أن حركة الخدمة بعيدة عن الشفافية و”تسربت” إلى مؤسسات الدولة بشكل سري وسيطرت عليها.. هذا الزعم هو عينه الذي ساقه قديمًا تنظيم أرجنكون، وحديثًا أردوغان، لتبرير حركة الطرد والإحلال التي أقدم عليها الطرفان. فقبل كل شيء، الأشخاص الذين لهم أخذ وعطاء مع هذه الحركة هم مواطنو تركيا ويتمتعون بكامل الحقوق التي يتمتع بها غيرهم، وكذلك تقع عليهم الواجبات التي تقع على المواطنين الآخرين. ومن الطبيعي جدًّا أن يوجد بينهم موظفون في مؤسسات الدولة، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار أن 99% من محبي الحركة خريجون جامعيون في الوقت الذي لا يتجاوز من أتموا المدرسة الابتدائية 50%، وأن حزب أردوغان كان يفضّل “الديمقراطيين” في فترته الأولى التي كان يرتدي فيها عباءة الديمقراطية. مع ذلك فإن الحضور الأساسي للخدمة هو في المجال المدني وليس الحكومي كما يزعم الزاعمون.
ويمكن القول إن 95% ممّن يتعاطفون مع الحركة يعملون في المجالات المدنية بعيدًا عن مؤسسات الدولة، والأغلبية الساحقة منهم يشتغلون بشكل رسمي في قطاع التعليم من مدارس وجامعات ومراكز دروس تقوية، افتتحت وفقًا للقوانين السائدة في البلاد، وتخضع دومًا لرقابة الدولة، كما هو الحال في أي دولة توجد فيها مؤسساتها التعليمية. فضلاً عن أن العاملين في تلك المؤسسات أعضاءٌ في النقابات المختصة، الأمر الذي يفند مزاعم عدم شفافية الحركة.
بل يؤكد رئيس التحرير السابق لجريدة “نقطة” الليبرالية، قبل إغلاقها، الكاتب جوهري جوفين، أن شفافية حركة الخدمة هي التي مكّنت هذا النظام الثالوثي أو التحالف الثلاثي من توجيه الضربة القاضية إليها من خلال العمليات التي بدأت بعد 2011 ولا تزال مستمرة إلى اليوم. وأضاف: “بحسب تقارير جهاز الاستخبارات فإن عدد الخاضعين للتحقيق والمحاكمة من المفصولين بتهمة الانتماء لمنظمة فتح الله كولن يبلغ حوالي مائة ألف، وهذا الرقم لا يساوي إلا 1/46 من أصل 4 ملايين و600 ألف موظف في القطاع العام. وإذا وضعنا في حسباننا أن جهاز الاستخبارات يقول بأن عدد أعضاء مجموعة كولن يصل إلى مليوني شخص، فإن هذا يدل على أن حوالي 95% من أعضائها يعملون في القطاع الخاص لا في مؤسسات الدولة. لو لم تكن الحركة تتمتع بما يكفي من الشفافية لما نجح نظام أردوغان في إلغاء المؤهلات الدراسية لعشرين ألف معلم في صباح محاولة الانقلاب، وبعدها 50 ألفًاا آخرين أيضًا، ولو لم تكن الحركة تتمتع بالشفافية الكافية لما استطاع إغلاق المدارس ومراكز دروس التقوية ومراكز الدورات التدريبية والجامعات والصحف ووسائل الإعلام والمجلات والقنوات التليفزيونية والمحطات الإذاعية التابعة لها ومن ثم مصادرة أعيانها”.
وتابع جوفين: “التقارير الاستخباراتية تزعم أن أعضاء مجموعة كولن يشكلون 50% من موظفي المنظومة الأمنية. لكن إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن عدد الموظفين في التشكيلات الأمنية يبلغ 293 ألفًا، وأن عدد المطرودين من أجهزة الأمن بتهمة الانتماء إلى هذه المجموعة هو 33 ألفًا فقط، فإن نسبتهم الحقيقية في أجهزة الأمن لا تتجاوز 10%. وذلك فضلاً عن أن ثلث هؤلاء المفصولين لم يتم إعادتهم إلى وظائفهم السابقة رغم القرارات القضائية الصادرة التي تثبت عدم صلتهم بمجموعة كولن”.
وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على أن هذا النظام الثالوثي يقدم أرقامًا مضخمة للرأي العام عن حضور الحركة في أجهزة الدولة لتسويغ العمليات المنفذة ضد كل المعارضين بتهمة الانتماء إلى الحركة.
تحريف الحقائق
رأيٌ نمطيٌ آخر يروّجه العلمانيون الكماليون عن حركة الخدمة ويجد أحيانًا آذانًا صاغية له لدى مجموعات هامشية في العالَمين الغربي والعربي هو أن القضاة التابعين للحركة أصدروا أوامر باعتقال أعداد كبيرة من الصحافيين والعسكريين في إطار تحقيقات قضية انقلاب تنظيم أرجنكون على أردوغان التي بدأت بعد ضبط 27 قنبلة يدوية في إحدى الشقق بحي عمرانية في إسطنبول يوم 12 يونيو/حزيران 2007. واعتقل بسببها العشرات من الجنرالات ورجال الدولة بتهمة التخطيط للانقلاب على الحكومة المنتخبة برئاسة أردوغان.
لنفترض صحة هذه الأطروحة جدلاً، فقبل كل شيء، الضباط الكماليون العلمانيون هم الذين نفذوا أربعة انقلابات عسكرية منذ عام 1960 حتى 1997. ومن ثم ظهرت أدلة قاطعة فعلية بالصوت والصورة لا يمكن إنكارها تدل على تخطيط مجموعة من الضباط الكماليين في اجتماع للانقلاب على حكومة أردوغان، فبادرت النيابة العامة إلى فتح تحقيقات أسفرت عن محاكمة حوالي 350 شخصًا من خلف القضبان الحديدية بتهمة التخطيط للانقلاب، وصدرت الموافقة من أعلى السلطات القضائية في البلاد على القرار الصادر من المحكمة المعنية، ومن ثم قرر أردوغان أن يخرجهم جميعًا من السجن بعد ظهور فضائح الفساد والرشوة في 2013 لا لأنهم أبرياء بل ليسند إليهم “مهمة القضاء على حركة الخدمة”، ومن ثم يبنوا معًا “تركيا الجديدة” هذه التي يشتكي منها الكماليون العلمانيون!
أما عدد الصحفيين الذين تم اعتقالهم في إطار قضية أرجنكون فليس إلا “اثنين” فقط، وهما نديم شنر وأحمد شيق، إلا أن النظام والكماليين العلمانيين يستخدمون عبارات عامة في هذا الصدد وكأن حركة الخدمة اعتقلت مئات الصحفيين لتضليل الرأي العام، بمعنى أن هؤلاء الكماليين يتغاضون عن فصل واعتقال أكثر من 200 ألف موظف، بينهم أكثر من مائة صحفي، لم تثبت جريمتهم وإدانتهم قضائيًّا بعد انقلاب 2016 المشبوه، ويشيرون إلى اعتقال حوالي 350 شخصًا، بينهم صحفيّان، ثبتت جريمتهم وإدانتهم قضائيا!
هذا هو الواقع..
إذن يتوجب على الكماليين وأتباعهم التحلي بمعايير العدل والإنصاف والتخلي عن الهجوم على حركة الخدمة لمساندتها حزب أردوغان في فترته الأولى من حكمه التي بدا فيها وكأنه رجل ديمقراطي، وتوجيهِ سهامها إلى الأحزاب والأطراف التي تساند أردوغان حاليًّا رغم ظهور استبداده للقاصي والداني. والأكثر من ذلك أنه ينبغي عليهم أن يمارسوا النقد الذاتي ويحاسبوا أنفسهم على إسهامهم صراحةً أو ضمنًا في تثبيت أقدام هذا النظام الثالوثي وشرعنة إجراءاته غير الديمقراطية.. هذا النظام الذي حرم الشعب التركي من النوم الهادئ منذ سنوات وجعل تركيا دولة معزولة عن العالم.