بقلم: محمد كاميش
لم يكتفِ رجل الأعمال التركي من أصل إيراني رضا ضرّاب باسترداد أمواله المصادَرة في إطار التحقيق في فضيحة الفساد والرشوة التي كُشف عنها في تركيا يومي 17 – 25 ديسمبر / كانون الأول من العام الماضي فحسب. بل ملأ حقيبته بفوائد هذه الأموال على مدار عام كامل أيضاً.
[one_third][box type=”shadow” align=”alignleft” ]لقد أردوا أن تلجأ هذه “القوة الناعمة” إلى استخدام العنف، وأن تتصرف برد فعل غاضب، وأن تبادر إلى القيام بحركات عدوانية، حتى أنهم استفزوهم للإقدام على هذا، لكن هؤلاء المحتجين السلميين لم يقعوا في هذا “الفخ”. فمن ناحية لم يتسببوا في توفير حجج لكي تهاجمهم الشرطة بالمدرعات وقوات مكافحة الشغب، ومن ناحية أخرى لم يسمحوا بسحق الرسالة التي أرادوا إيصالها بشيئ آخر.[/box][/one_third]كان الإعلام المؤيد للحكومة التركية، أو كما يطلق عليه “إعلام الحوض المالي” (الإعلام الفاسد) قد كتب ورسم وتناول، على مدار أيام، الفرية التي تقول إن الشرطة هي من وضعت هذه الأموال في تلك الأماكن في إطار مؤامرة لإلقاء القبض على أصحابها. ومع أننا شهدنا هذا الكمّ الهائل من الأدلة والوثائق التي تدين المتهمين لكن ملفات قضايا الفساد تمّ إغلاقها من قبل النيابة العامة على مرأى ومسمع من الجميع. لذلك فإن تاريخ الفساد في تركيا قد سجل هذا المشهد الذي يستردّ فيه ضرّاب أمواله المصادَرة من جهاز الأمن كـ”بقعة سوداء” لايمكن محوها أو نسيانها وسيتناقلها أبناؤنا وأحفادنا على مر الزمان.
ثمة حادث آخر سيتذكره أبناؤنا على أنه “اليوم الأسود” في تاريخ تركيا، ألا وهو الحملة التي شنتها الشرطة على مؤسستي “زمان” و”سامان يولو” الإعلاميتين لطرحهما سؤالًا حول “ماهية علاقة رجل مثل رضا ضرّاب الإيراني بالحزب الحاكم” وتذكيرهما الحكومة بـ”الوعود التي قطعتها على نفسها قبل الانتخابات”.
نعم، لا شك في أن الحملة التي نفذتها الشرطة على جريدتنا ونقلت على الهواء مباشرة لملايين المشاهدين لأنها طرحت سؤالًا مفاده “إلى أين تسير تركيا؟”، سيذكرها التاريخ على أنها “يوم أسود” في تاريخ الديمقراطية.
إلا أن مئات الآلاف من الأشخاص الذين احتجوا على هذه الحملة القذرة واعتقال مدير مجموعة “سامان يولو” الإعلامية هدايت كاراجا قدّموا مثالًا طيبًا على الاحتجاج ضد التصرفات الاستبدادية. ولاريب في أن التاريخ سيذكر هذا التصرف المهذب أيضاً؛ إذ إنهم أعربوا عن ردود أفعالهم دون اللجوء إلى أدنى درجة من درجات العنف، على الرغم من التحريضات التي حاولت استثارتهم، بالضبط كما فعل الزعيم الهندي الشهير المهاتما غاندي. فقد رأينا أن آلاف الأشخاص اعترضوا على هذه الحملة الشرسة، ودعموا “الإعلام الحر” في مختلف مدن تركيا شرقًا وغربًا.
كانت جميع ردود الأفعال المجتمعية التي عرفتها تركيا على مدار تاريخها، تنتهي عند نقطة مختلفة تمامًا عن نقطة بدايتها؛ إذ كنا إما نشهد عمليات استفزازية أو كانت المجموعات الهامشية – التي تثير صخبًا ولغطًا كبيرين – تأخذ زمام المبادرة لتنحرف بالقضية برمّتها عن هدفها. ولعلكم تتذكرون أن أحداث متنزه جيزي بارك بدأت في إسطنبول في صيف عام 2013 بالمطالبة بعدم قطع الأشجار، وسرعان ما تبدلت أبعادها عقب أيام قلائل، وتحولت إلى أحداث سقط خلالها قتلى وجرحى. أضف إلى ذلك أن أحداث حصار مدينة كوباني (عين العرب) السورية انتهت بكوارث كبيرة نعرفها جميعًا.
باختصار، فإن مطالب الناس ممن يديرون الدولة تحولت إلى وجهة مغايرة تمامًا وشهدنا مقتل نحو مائة شخص وعمليات تخريب وتدمير ممنهجة.
[one_third][box type=”shadow” align=”alignleft” ]اليوم استرد ضرّاب، ومَن هم على شاكلته، أموالهم بفوائدها ليستمتعوا بها. فيما يقبع في السجن من تساءل عن أسباب هذا الفساد. ولكن لاشك في أن تركيا لن تعيش في ظل هذا الخزي والعار إلى أبد الآبدين.[/box][/one_third]لكن الذين احتجوا على الحملة التي شنتها الشرطة على جريدة “زمان” ومؤسسة “سامان يولو” الإعلامية لم يفعلوا هذا أبدًا، بل إنهم أصرّوا على الابتعاد كل البعد عن العنف والظلم. وضبطوا أنفسهم حتى في مواجهة التصرفات غير القانونية التي قامت بها الشرطة. وأعرب مئات الآلاف من الأشخاص من أصغر الأطفال إلى أكبر الشيوخ عن مطالبهم بأكثر الطرق الشرعية احترامًا. وبادروا إلى تطوير مبادرة مدنية كانت أقوى أسلحتها هي الدعاء والتضرع إلى الله. وأخذ هؤلاء الأشخاص ينظمون وقفات احتجاجية سلمية أمام المحاكم في مختلف أنحاء تركيا غير آبهين بالأمطار أو الثلوج وما ترتب على ذلك من طرق موحلة. لاسيما عندما احتشد الآلاف من الناس أمام قصر تشاغلايان العدلي في إسطنبول يوم الأحد الماضي، وأعربوا عن رد فعل غاضب إزاء الأحداث، بالرغم من الأمطار الغزيرة، الأمر الذي لفت انتباه الجميع. وعندما أبلغت الشرطة، التي احتمت بالمدرعات وقوات مكافحة الشغب، المحتجين بأن الوقوف أمام القصر العدلي مخالف للقانون، أقلع المحتشدون عن الانتظار هناك وبدأوا يتحركون داخل الميدان دون مغادرته. نعم إنهم لم يتفرقوا ولكنهم سدّوا في الوقت ذاته الطريق أمام الشرطة حتى لاتلجأ إلى استخدام العنف لتفريقهم.
إن ما شهدناه كان نموذجًا رائعاً من نماذج الاحتجاج السلمي. فمن شارك في هذه الوقفات الاحتجاجية لم يعطِ الفرصة لمن حاول منعه من استخدام أبسط حقوقه، بحركة ذكية للغاية، ونجح في إيصال رسالته إلى من أراد.
لقد أردوا أن تلجأ هذه “القوة الناعمة” إلى استخدام العنف، وأن تتصرف برد فعل غاضب، وأن تبادر إلى القيام بحركات عدوانية، حتى أنهم استفزوهم للإقدام على هذا، لكن هؤلاء المحتجين السلميين لم يقعوا في هذا “الفخ”. فمن ناحية لم يتسببوا في توفير حجج لكي تهاجمهم الشرطة بالمدرعات وقوات مكافحة الشغب، ومن ناحية أخرى لم يسمحوا بسحق الرسالة التي أرادوا إيصالها بشيئ آخر.
اليوم استرد ضرّاب، ومَن هم على شاكلته، أموالهم بفوائدها ليستمتعوا بها. فيما يقبع في السجن من تساءل عن أسباب هذا الفساد. ولكن لاشك في أن تركيا لن تعيش في ظل هذا الخزي والعار إلى أبد الآبدين.