بقلم: قمر محمد حسن *
القاهرة (زمان التركية) – لم تستطع تركيا الحفاظ طويلاً على الأداء والأوضاع الاقتصادية الجيدة المتحققة منذ عام 2002 والتى بموجبها انتقلت إلى دولة فى الشريحة الأعلى للدخل المتوسط فى أكتوبر 2015، حيث أدت نقاط الضعف الاقتصادية المتزايدة والسياسات الداخلية والخارجية للرئيس “أردوغان” منذ عام 2014، وعلى رأسها التدخلات العسكرية فى سوريا والعراق وليبيا ودعم الميليشيات والجماعات الإرهابية واتباع حملة واسعة من الاعتقالات لمعارضى النظام وتجميد أصولهم، إلى تقويض الإنجازات الاقتصادية التي تحققت حينها، ليشهد هذا الاقتصاد تراجعاً منذ الانقلاب العسكري الفاشل عام 2016، حتى أصبح أمام حالة من الركود فاقمت من حدتها التداعيات السلبية لجائحة كورونا، مع استمرار سياسات القمع الداخلية والانتهاكات الخارجية، وتصاعد التوتر بين أنقرة وعدد من الدول، كالولايات المتحدة الأمريكية واليونان ومصر والاتحاد الأوروبي، وهو ما سيتم توضيحه فيما يلى..
- التدهور الحاد لسعر صرف الليرة التركية أمام الدولار:
أثرت حالة عدم اليقين السياسي الداخلي والخارجي بأنقرة وتدخلات الحكومة التركية فى سياسات البنك المركزى بها على سعر صرف الليرة مقابل الدولار الأمريكى، والذى شهد تراجعًا واضحا منذ العام 2016، لتشهد الليرة تراجعا غير مسبوق منذ عام 2018، زاد من حدته التداعيات السلبية لفيروس كورونا المستجد وحالة الركود فى الاقتصاد العالمى وتأثيرها على أسعار صرف العملات المحلية للأسواق الناشئة، لتتزايد وتيرة تراجعها بشكل ملحوظ بداية من مارس 2020، مسجلة أعلى تراجع فى 7 مايو، حتى بلغ سعر صرف الليرة 7.2042 ليرة للدولار الواحد، قبل تراجعها لتصبح 6.8552 ليرة للدولار فى 2 يوليو 2020، وذلك مقارنة بـ 2.90708 ليرة للدولار فى 30 ديسمبر 2015، ليصل إجمالى ما شهدته هذه العملة من تراجع أمام الدولار منذ 30 ديسمبر 2015 حتى 2 يوليو 2020، نحو 134.3%.
وهو التراجع الذى حاولت الحكومة التركية معالجته برفع أسعار الفائدة منذ عام 2016 وحتى سبتمبر 2018 لتصل إلى 24%، قبل قرارات تخفيضها 5 مرات متتالية منذ يوليو 2019 حتى وصلت إلى 11.25% فى يناير 2020، إلى جانب قيام عدد من البنوك التركية بضخ الدولارات بالأسواق لكبح ارتفاع الدولار أمام الليرة، والدعاوى الحكومية لأصحاب المؤسسات الاقتصادية والتجارية بتحويل معاملاتهم ومدخراتهم من الدولار إلى الليرة، وتوسع البنك المركزي التركي في اتفاق تبادل العملات مع قطر، ومؤخرا اللجوء إلى ما يعرف بالدولار المجمد، وهى الدولارات التى حصلت عليه قوات الجيش التركى بليبيا من البنوك الليبية، لزيادة المعروض النقدى منها بالبنك المركزى ومعالجة أزمة العملة التى تشهدها أنقرة، إلا أنها تم تجميدها قبل وصولها للبنك، لتصبح قيمتها داخل السوق التركى أقل بنحو 75% من قيمتها الحقيقة وغير قابلة للاستعمال داخل البنوك.
سعر صرف الليرة التركية مقابل الدولار الأمريكي، المصدر: موقع تغيير العملات Xe
- تراجع الاستثمار الأجنبي المباشر:
دفعت التطورات الأمنية غير المستقرة بتركيا منذ الانقلاب العسكري الفاشل عام 2016، والتدخلات العسكرية التركية فى الخارج، مع التهديدات الأوروبية والأمريكية بين الحين والآخر بفرض عقوبات على النظام التركى أو اقتصادية، إلى خروج العديد من الاستثمارات الأجنبية من أنقرة، وباتخاذ الاستثمار الأجنبي المباشر مؤشرا على ذلك، نجد أنه بعد تحقيق التدفقات الداخلة أعلى قيمة لها عام 2015 وهى 19 مليار دولار منذ عام 2008، إلا أنها شهدت تراجعا عامي 2016 و2017، وبلغت قيمتها 13.7 و11.02 مليار دولار على الترتيب، ثم عادت للارتفاع مرة آخرى عام 2018، بنحو 2 مليار دولار، لتعود للانخفاض الكبير عام 2019 بتسجيل أدنى قيمة لها منذ عام 2009، وهى 8.4 مليار دولار بانخفاض قدره 30% عن عام 2018.
مصدر البيانات: تقرير الاستثمار العالمي 2020
- ارتفاع قياسى فى الدين الخارجي كنسبة من الدخل القومي:
تظهر ملامح الأزمة المالية التى تشهدها تركيا في الارتفاع الملحوظ للدين الدين الخارجى منذ عام 2010، حتى وصلت نسبته إلى الدخل القومى 58.7% للعام 2018، لتعود بذلك إلى مستوياتها المرتفعة عامى 2001 و2002.
مصدر البيانات: البنك الدولى
- تباطؤ نمو الناتج المحلى الاجمالى، وتراجع الترتيب العالمى للاقتصاد:
اعتاد الاقتصاد التركي على تسجيل التراجع في نمو الناتج المحلى الإجمالى تارة وانكماشا في بعض السنوات تارة أخرى، مما يجعل من الصعب إلقاء اللوم فى هذا إلى فترة حكم بعينها، ولكن هذا لا ينفي أن تراجعه الملحوظ منذ العام 2018 المدفوع بالتراجع الحاد في الاستهلاك الخاص والاستثمار، كان سببه الرئيسى هو سوء إدارة الحكومة التركية للأزمة الاقتصادية التى ظهرت بوادرها منذ عام 2016، والعمل على تفاقمها بالاستمرار فى السياسات الخارجية الخاطئة التى كانت سببا كبيرا فى اتجاه الأفراد للادخار وبالتالى تراجع الاستهلاك والاستثمارات سواء المحلية أو الأجنبية، مما أدى إلى انخفاض النمو الاقتصادي بنهاية عام 2018 إلى 2.8% واستمراره فى التراجع ليسجل 0.9% عام 2019، وذلك مقارنة بـ 7.4% للعام 2017.
وقد انعكس هذا الانخفاض فى معدل نمو الناتج عام 2018، على الترتيب العالمي للاقتصاد التركي بناء على حجم الناتج المحلي الإجمالي الاسمي، لتصبح في المرتبة الـ 19 عالميا بدلا من الـترتيب الـ 17 عام 2017.
مصدر البيانات: البنك الدولى
-ارتفاع معدل البطالة لأعلى مستوى له:
على الرغم من تسجيل معدل البطالة فى تركيا 7.7% عام 1999 ووصوله إلى 8.4% عام 2001، إلا أنه مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة، لم يكن له أى دور فى خفض معدلات البطالة التركية، والتى تذبذبت قيمها منذ عام 2002، وتجاوزها ما نسبته 10% فى الكثير من السنوات، وكان لتداعيات السياسة الداخلية والخارجية التركية وبالتالي لتدهور الاقتصادى منذ عام 2018، أثره فى ارتفاع معدل البطالة لأعلى قيمة له عام 2019 وهى 13.5%، مع تزايد مديونيات الشركات التركية وإفلاس العديد منها.
مصدر البيانات: البنك الدولى
- تراجع الاحتياطى من النقد الأجنبي:
يعتبر التراجع فى الاحتياطى من النقد الأجنبي للبنك المركزى بأنقرة، من ضمن المشاكل الأساسية التى تواجه الاقتصاد التركى، تأثرا بقيام الحكومة التركية بضخ النقد الأجنبي في الدورة الاقتصادية بالبلاد لدعم قيمة الليرة إلى جانب زيادة المديونية الخارجية وتراجع الاستثمارات الأجنبية، فبعد الارتفاع الكبير الذى شهده هذا الاحتياطى خلال الفترة (2011-أغسطس 2015)، بدأ فى الانخفاض منذ سبتمبر 2015، حتى أصبح حجمه أقل من 100 مليار دولار حتى فبراير 2018، ثم بدأ فى موجة جديدة من الانخفاض، مسجلاً أقل من 80 مليار دولار حتى نهاية شهر فبراير للعام الحالى 2020، وبلغ فى المتوسط 74 مليار دولار، لتفاقم التداعيات السلبية لأزمة فيروس كورونا المستجد من هذه الأزمة، ووصل حجم الاحتياطى إلى 50.1 مليار دولار فى نهاية شهر أبريل 2020.
مصدر البيانات: البنك المركزي التركي
- ارتفاع العجز فى الميزان الجارى:
حقق الميزان الجارى لتركيا أعلى مستويات من العجز خلال الفترة (2010-2018)، والتى بلغت فى المتوسط -4.8%.
مصدر البيانات: البنك الدولى
- اختفاء الرقم الآحادى لمعدل التضخم:
لم تصمد طويلا النتائج الإيجابية لسياسة البنك المركزى التركي عام 2002، باستهداف معدل التضخم ليصبح رقم أحادى، فعلى الرغم من النجاح الكبير الذى حققته هذه السياسة، طوال الفترة (2004-2015)، والتى بلغ فيها متوسط معدل التضخم 8.3%، بعد أن كان يسجل معدلات مرتفعة للغاية فى الفترة (1974-2003) بلغت فى المتوسط 55.1%، وكانت أعلى قيمة لها هى 105.2% عام 1994.
مصدر البيانات: البنك الدولى
إلا أنه أخذت معدلات التضخم فى الارتفاع مرة أخرى مع التراجع فى سعر صرف الليرة التركية أمام الدولار الأمريكى منذ العام 2016، ليختفي الرقم الأحادي الذي كانت تسجله، ووصلت فى العام 2018 إلى مستويات غير مسبوقة منذ عام 2012، بتجاوزها نسبة الـ 20% وبلغت ذروتها 24.52% و25.24% فى شهرى سبتمبر وأكتوبر، مما دفع البنك المركزي التركي إلى القيام رفع أسعار الفائدة ثلاث مرات حتى وصلت إلى 24 % للحد من معدلات التضخم المرتفعة، وعلى الرغم من تراجعها إلى ما دون الـ 20% منذ فبراير 2019، وتسجيلها رقم آحادى شهرى سبتمبر وأكتوبر، إلا أنها عادت مرة آخرى لتسجل رقمين، وكانت أعلى قيمة لها منذ بداية العام الحالى فى فبراير 2020، وهى 12.35%، واستمرت عند رقمين حتى مايو 2020، والذى بلغ فيه معدل التضخم 11.39%.
مصدر البيانات: البنك المركزي التركي
- تراجع التصنيف الائتماني للاقتصاد التركي من قبل الوكالات الدولية:
انعكست الأوضاع الاقتصادية المتدهورة بتركيا على تصنيف الوكالات الدولية للتصنيف الائتمانى لأنقرة، والذى انخفض أكثر من مرة منذ عام 2016، فبالمقارنة بين آخر تصنيف ائتمانى للوكالات الدولية الثلاث؛ موديز وستاندرد أند بورز وفيتش، وبين ما كان عليه هذا التصنيف عام 2013، نجد أن وكالة موديز قد خفضت هذا التصنيف من Baa3 ونظرة مستقبلية مستقرة، والذى يعنى وجود قدرة كافية للدولة على سداد ديونها مع عدم وجود احتمالية لتغيير هذا التصنيف مستقبلا، إلى B1 ونظرة مستقبلية سلبية في 14 يونيو 2019، مع الإبقاء على هذا التصنيف فى فبراير 2020، بما يعنى وجود مخاطر عالية فى قدرة الدولة على سداد ديونها واحتمالية انخفاض هذا التصنيف مستقبلا، وكذلك الحال فى تصنيف وكالة ستاندرد أند بورز، والتى خفضت التصنيف السيادى لتركيا من +BB ونظرة مستقبلية مستقرة إلى B+ ونظرة مستقرة فى 17 أغسطس 2018، والابقاء على هذا التصنيف فى مايو 2020، كما خفضت وكالة فيتش أيضًا التصنيف الائتمانى من BBB- ونظرة مستقبلية مستقرة إلى BB- ونظرة مستقرة فى 1 نوفمبر 2019، والإبقاء عليها في فبراير 2020.
ويشير ذلك إلى، ارتفاع مخاطر عجز الحكومة التركية عن سداد ديونها وارتفاع تكلفة الدين الخارجى، كما يعكس تزايد المخاطر الاقتصادية والسياسية التي تواجهها أنقرة، وفقدان جاذبية الاستثمار الأجنبي.
ابرز محطات تغيير التصنيف الائتماني لتركيا وفقا لوكالات التصنيف الائتمانى الدولية | ||
التاريخ | التصنيف | النظرة المستقبلية |
وكالة موديز لخدمات المستثمرين “Moody’s” | ||
16 مايو 2013 | Baa3 | مستقرة |
23 سبتمبر 2016 | Ba1 | مستقرة |
7 مارس 2018 | Ba2 | مستقرة |
17 أغسطس 2018 | Ba3 | سلبية |
14 يونيو 2019 | B1 | سلبية |
فبراير 2020 | B1 | سلبية |
الوكالة الأمريكية ستاندرد آند بورز “Standard & Poor’s” | ||
23 مارس 2013 | BB+ | مستقرة |
4 نوفمبر 2016 | BB | مستقرة |
17 أغسطس 2018 | +B | مستقرة |
مايو 2020 | B+ | مستقرة |
مؤسسة فيتش للتصنيف الائتمانى “Fitch rating” | ||
5 نوفمبر 2012 | -BBB | مستقرة |
19 أغسطس 2016 | -BBB | سلبية |
13 يوليو 2018 | BB | سلبية |
1 نوفمبر 2019 | -BB | مستقرة |
21 فبراير 2020 | -BB | مستقرة |
مصدر البيانات: موقع Trading economics
تزايد مديونية الشركات التركية:
فى ظل الأوضاع الاقتصادية المتدهورة بأنقرة، أصبحت الشركات التركية مثقلة بمديونية مرتفعة، فوفقا لإحصائيات البنك الدولي، يشكل إجمالي الائتمان للشركات ما نسبته 68% من الناتج المحلى الإجمالى فى يونيو 2019.
وختامًا، أثبت الاقتصاد التركي ارتباطه المباشر بالسياسات الداخلية والخارجية للرئيس “أردوغان” منذ عام 2016، وصعوبة الفصل بينهما، ومن المتوقع أن يستمر هذا الاقتصاد فى عسرته فى الأجل القصير، ليشهد انكماشا بنهاية العام الحالى 2020 وتراجع ترتيبه العالمى، مع مواصلة سعر صرف الليرة التركية تدهوره أمام الدولار الأمريكى، تأثرا بهذه السياسات إلى جانب تداعيات جائحة كورونا على عملات الاقتصادات الناشئة، وذلك مع استمرار التدخلات العسكرية التركية فى الخارج والمحاولات الأوروبية الحالية لبحث فرض قيود جديدة على النظام التركى، وتأجيج الأوضاع التركية الداخلية فى ظل استمرار رفض المعارضة التركية لسياسات “أردوغان” السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتوقعات أن يشهد النظام التركى والمعارضة المزيد من التصادم فى الفترات القادمة، مع سعى نظام “أردوغان” لفرض قانون “الحراس الليليين”، الذي أقره البرلمان التركى فى 11 يونيو 2020.
* قمر محمد حسن، باحثة ماجستير اقتصاد
–