إسطنبول (زمان عربي) – تعد عملية الانقلاب التي شنّتها سلطات الأمن التركية على الإعلام الحرّ في 14 ديسمبر/ كانون الأول الماضي عملية سياسيّة أكثر منها قانونيّة. إذ إنها ملف حافل بالتناقضات والتشوهات ولم تُقدّم أية أدلة قانونيّة تثبت الاتهامات الموجهة للصحفيين والكتّاب الذين تم اعتقالهم.
ويمكن القول إن عملية الاعتقالات التي طالت أكرم دومانلي رئيس تحرير صحيفة “زمان” وهدايت كاراجا رئيس مجموعة “سامان يولو” الإعلامية وكاتب سيناريو مسلسلات وبعض الكتّاب ورجال الشرطة بعيدة كل البعد عن الأسس والأعراف القانونية. فضلا عن أن الذين تولوا القيام بالعملية هم –أصلا- القضاة والمدعين العموم الذين قاموا بإغلاق ملفات التحقيق في قضية الفساد والرشوة التي تكشفت وقائعها في 17 و25 ديسمبر 2013 واتهم فيها بعض الوزراء السابقين وأبناء وزراء ورجال أعمال مقربين من الحكومة.
وبدأت القضية بـكلمة ألقاها الأستاذ فتح الله كولن في 6 نيسان/ أبريل 2009، حول مجموعة واضعي الحواشي المعروفة باسم “تحشية” ثم قامت صحيفة “زمان” وصحف موالية حاليًا للحكومة بكتابة مقالات عن مجموعة تحشية وخطورتها, وكذا أظهرها مسلسل عرض في قناة سامان يولو “STV”، وعقبها القيام بعملية ضد مجموعة تدعى “القاعدة” في 22 يناير/ كانون الثاني 2010. كما ترددت ادعاءات مفادها أن “هذه العملية تمت ضد مجموعة “تحشية” لأنها تعارض لحركة الخدمة”. حسنًا، ما هي الحقيقة في هذا الموضوع؟
يستخدم فتح الله كولن في درسه –الذي أشرنا إليه آنفًا- كلمة مجموعة “تحشية”، إلا أنه يحذر بعدها قائلا: “قد يتم وضع أسلحة في المنازل وتدبر المؤامرات”. وهو لايستهدف بذلك جماعة “تحشية” بل على العكس من ذلك تمامًا، فهو يعني بذلك أن هناك مؤامرة قد تُحاك ضد حركة الخدمة. وعقبه بأيام يتم التنبؤ بتدبير البؤرة العميقة لمؤامرة ضد أناس أبرياء. وعليه يقوم الأستاذ بتحذير المتدينين حتّى لايتورطوا في التهم وألا يتعرضوا للافتراءات والأكاذيب.
على أن هذه الكلمات التي تم نشرها عبر مواقع الإنترنت التي يمكن لأي فرد في العالم أن يطّلع عليها، تم نشرها -أيضًا- كخبر في صحف “وطن” و”حرييت” و”زمان” التركية. وكتب كل من الكاتب حسين جولرجه –وهو يروّج حاليًا لحملة باسم الحكومة- الذي كان كاتبا بصحيفة زمان والكاتب أحمد شاهين، مقالات تحدثا فيها عن مجموعة “تحشية”. واللافت أنه تم اعتقال شاهين في حملة 14 ديسمبر الجاري بسبب كتاباته عن المجموعة، فيما اكتفت المحكمة باستدعاء حسين جولارجه للإدلاء بأقواله فقط. وأفاد الكاتبان للنيابة العامة أنهما كتبا مقالاتهما بإرادتهما الشخصيّة، وأنه لم تصدر لهما أية تعليمات للكتابة في ذلك.
وعلى الرغم من ذلك؛ تم اتهام أكرم دومانلي –رئيس تحرير صحيفة زمان- بإصداره تعليمات بكتابة مقالات متعلقة بمجموعة “تحشية”، إذ أفاد قاض التحقيق بكير ألتون بأن سبب الاتهام هو “مقالين وخبر”. وعليه، تمت إحالة دومانلي إلى المحكمة بطلب اعتقاله بسبب مقالين بالرغم من عدم وجود دليل واحد يؤكد ادّعاء أنه أصدر تعليمات أو أجبر كاتبا على الكتابة في هذا الموضوع. لكن الأمر الذي يدعو للغرابة – هنا- هو أن الكاتبين اللذين قالا إنهما كتبا ذلك بإراداتهما ورغبتهما الشخصيّة تم الإفراج عنهما.
ومن أحد المبررات لاعتقال أكرم دومانلي –أيضًا- هو القيام بتوجيه الرأي العام عن طريق نشره كلمة كولن التي تنتقد إغلاق مراكز التقوية التعليمية الخاصة، حسب ما جاء في قرار المحكمة.
إلا أن القاضي الذي وجّه إلى دومانلي- الذي أفرج عنه الجمعة الماضي- ادعاء بتشكيل تنظيم مسلّح يكشف-بنفسه- سيناريو التحقيقات في معرض قرار المحكمة، حيث يقول “.. حتى وإن لم يتم تحديد الأعمال والإجراءات التي تحتوي على عنف وقهر حتى الآن”، وبعدها يزعم بأن هذه الوحدة المشكّلة في مبنى مديرية الأمن تصرفت على نحو يتعارض مع صلاحياتها ومهامها تحت مسمّى “مكافحة التنظيمات الإرهابية”، وقامت بأعمال قمعيّة وترهيب وتخويف من أجل الوصول إلى هدفها. بمعنى أن هذه الوحدة المشكلة في مديرية الأمن هي التي قامت بالترويج لادعاء تشكيل التنظيم الإرهابي المزعوم، ثم قامت بشن عملية اعتقالات بسبب مسلسل تليفزيوني. مع أنه لم يكن لازما لقيام وحدة قويّة داخل مديرية الأمن بإعطاء تعليمات عن طريق المسلسلات أو الدروس. وإذا كان هناك موقف يستدعي ذلك لكانت أصدرت التعليمات للأشخاص المنوطين بذلك مباشرة.
وثمة نقطة أخرى -قرينة على مبرر القيام بعملية اعتقالات ضد الإعلام- وهي إظهار تاريخ 22 يناير/ كانون الثاني 2010 على أنه تاريخ تأسيس تنظيم إرهابي، وهو التاريخ الذي شنت فيه السلطات التركية عمليات ضد منتسبي تنظيم “تحشية” المرتبط بتنظيم القاعدة.
وحسب السيناريو الوهمي أصبحت حركة الخدمة تنظيما مسلّحًا عقب هذا التاريخ. والدليل الوحيد المقدم لذلك هو وجود بصمة إصبع رجال الشرطة على القنابل اليدوية في العمليات التي شنتها السلطات على القاعدة وتحشية في 2010. غير أن اعتقال قادة الأمن الإداريين الذين لم يتولّوا عملية القاعدة، واعتقال هدايت كاراجا الذي لا دخل له إطلاقا بالعملية، والإفراج عن رجال الشرطة الموجودة بصمات أصابعهم على القنابل والذين ينبغي اتهامهم بأدلة مؤكدة، يشير بوضوح إلى أن المنطق الأساسي لتحقيقات اعتقالات 14 ديسمبر غير قانوني وغير منصف بأي شكل من الأشكال.
ومجمل القول أن الشرطة والقضاء يعملان حاليا على خلق صورة ذهنية خادعة لدى الرأي العام مفادها أنه يتم التحقيق في قضية تشكيل تنظيم إرهابي، وهم بذلك يخدعون الشعب حتى لا تنكشف ألاعيبهم.
أمّا التهمة الموجهة لقناة سمان يولو “STV” فهي الحديث عن موضوعي مجموعة “تحشية” و”رَحلة”، في مسلسل “تركيا واحدة” المدبلج للعربية باسم “الأرض الطيبة”. ولفت في القضية الإفراج عن كاتبي سيناريو المسلسل، فيما أصدر القاضي قرارا باعتقال هدايت كاراجا رئيس مجموعة “سامان يولو” الإعلامية. أما الدليل المقدم لاعتقال كاراجا فهو تسجيل صوتي لم يتم التأكد قانونيا مما إذا كان حقيقيا أم لا ولم يتم تسجيله بقرار المحكمة. لكن كاراجا لم يقبل ذلك التسجيل وقام بنفيه.
وبالرغم من هذه الحقيقة إلا أن المحكمة تكتفي بتوجيه تهمة “إدارة تنظيم مسلّح” بسبب تسجيل صوتي غير قانوني وغير معلوم مصدره. وتقدم ذلك التسجيل على أنه دليل شرعي دون أن يتم الحديث عن أنه غير شرعي. وجاء في قرار المحكمة أن كاراجا لم ينف ذلك التسجيل الصوتي في حين أنه لم يقبله من أساسه.
فضلا عن أن كاراجا يقول خلال الإدلاء بأقواله أمام النيابة العامة إنه لم يقبل ذلك التسجيل، وإنه تقدم في وقت سابق بشكوى ضد الموقع الذي نشر التسجيل بدعوى أنه مفبرك ولا أصل له.
كما يتم تقديم كلمة لدومانلي خلال أحد لقاءاته التليفزيونية تثبت أن التسجيل الصوتي المزعوم مفبرك وغير صحيح وغير قانوني. وفي حقيقة الأمر ليس الكلام كما ورد في التسجيل.
والنقطة المهمة في هذا الموضوع؛ هي أن المدعين العموم -الذين لايقبلون التسجيلات الصوتية التي تم تسجيلها بقرار من المحكمة في تحقيقات الفساد في 17 و25 ديسمبر كدليل على صحة الواقعة، وأصدورا قرارا بعدم متابعة التحقيقات القضائية بدعوى أن تلك التسجيلات تعتبر انتهاكا لحرمة الحياة الشخصيّة للأفراد- يقومون الآن بطلب الاعتقال في ضوء تسجيل صوتي غير شرعي والذي قام هدايت كاراجا بنفسه بنفيه. والأنكى من ذلك هو إصدار القاضي قرارا باعتقال كاراجا بموجب هذا التسجيل.