بقلم: محمد عبيد الله
إسطنبول (زمان التركية) – منذ أواسط الفترة الثانية من حكم أردوغان (2009 – …) طفت إلى السطح علامات تدل على ظهور تغير في تصور أردوغان وتوجهه ونظرته إلى القضايا المحلية والإقليمية والدولية، ليشتعل مع ذلك نقاش حاد حول سعيه لتغيير “محور تركيا” من الغرب إلى الشرق بالتوازي مع ظهور أحلام وطموحات “زعامة المنطقة”.
وقد لعبت أذرع الدولة العميقة المختلفة دورًا في استيقاظ هذه الأحلام والنزعات لدى أردوغان أيضًا من خلال دغدغة مشاعره وعواطفه ومدحه المبالغ لنجاحاته وتصويره قويا أكثر مما يبدو، وتقديم تركيا في ظل حكمه أكبر من حجمها الحقيقي، مما أشعره بأنه تمكّن من السلطة وأصبح “فارس” الميدان الوحيد، خاصة بعد الرياح العاصفة التي هبت لصالحه عقب المواجهة الساخنة بينه وبين الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز حول قطاع غزة، وانسحابه من منتدى “دافوس” الاقتصادي الذي ردد فيه عبارة (One Minute) التي جعلت منه “بطلاً” ليس في عيون الأتراك فقط وإنما في عيون جميع العرب والمسلمين أيضًا.
ومع أن أردوغان ظهر قبيل وصوله إلى سدة الحكم، وبعده بسنوات، كزعيم يتبنى الديمقراطية، ويدافع عن حقوق الإنسان، لكن نظرا لأن “الابتلاء” هو الكفيل بالكشف عن “الجوهر الحقيقي”، فإنه لما خضع لاختبار “السلطة”، بعد أن تمكن منها في الفترة الثالثة، ظهر وجهه الحقيقي، فوجدنا أن ما ادعاه سابقا كان تكتيكًا عابرًا وليس بأمر استراتيجي ومبدأ مستقر راسخ في عقله وقلبه وسلوكه.
الشعب التركي انتظر من أردوغان أن يضيف إلى نمط الحكم في تركيا لونًا من الأخلاق والمبادئ الإسلامية العامة –على الأقل– من حيث إنها القواسم المشتركة بين كل الناس، بغضّ النظر عن ألوانهم ومعتقداتهم وأفكارهم، غير أن السلطة هى التي فرضت نفسها وألوانها الشتى عليه وغيرته بحيث بات يدور حيث تدور. ولما تذوق طعم قوة السلطة، بشكليها المالي والعضلي، تضاءلت لديه قوة العقل والفكر بصورة تدريجية حتى هجرته تمامًا في السنوات الأخيرة من حكمه.
منذ تحول حزبه من “حزب جماهيري محافظ ديمقراطي” إلى “حزب إسلاموي قومي دولجي”، يستخدم أردوغان خطابًا شعبويًا رخيصًا، يوظف فيه كل الشعائر الإسلامية والرموز الوطنية كـ”دروع” للدفاع عن نفسه، ولو كان مخطئًا ومجرمًا، وكـ”رماح” للهجوم على من صنفهم أعداء ولو كان الحق معهم.
أكبر مشكلة يواجهها الشعب التركي اليوم هو وضع أردوغان نفسه مكان “تركيا”؛ فيما أعظم خطر يواجهه المسلمون عامة هو احتكاره “الإسلام” في نفسه. فهو يضع تركيا والإسلام كحجاب يحميه من أي نوع من الانتقاد أو التصحيح أو التوجيه؛ ويعتبر محاسبته محاسبة تركيا والإسلام. وانطلاقًا من ذلك، يقدم ممارساته وإجراءاته وكأنها إرادة الشعب التركي ومتطلبات الإسلام؛ لكي يضفي عليها شرعية شعبية وأخرى دينية، دون أن يبالي بأن هذا الأمر يفتح الباب حتمًا على مصراعيه أمام الجاهلين أو المغرضين ليلصقوا كل الأخطاء أو الجرائم التي يرتكبها هو بتركيا وبالإسلام للأسف. والأدهى أنه لا يطبق هذا النهج في الداخل فقط وإنما في الخارج أيضًا.
ولا شك أن ربط قدر أمة بأكملها، ومصير دين كالإسلام، برجل فانٍ، في الوقت الذي لم يربط فيه ربنا عز وجل بقاء دينه ببقاء أحب الرسل إليه – رضوان الله عليهم أجمعين – لهو الداء الحقيقي الذي أصاب المسلمين في الوقت الراهن فأنساهم التحذير الإلهي الوارد في الآية الجليلة (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ۚ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا ۗ وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) وحملوا زعمائهم ما لا يحملونه.
إن اللهاث وراء مصالح سياسية مهما كلف، ولو على حساب مبادئ إنسانية عالمية مشتركة، يجعل الساسة يرون كل شيء من حولهم، من مادة أو معنى، “شيئا” قابلًا للاستخدام والتوظيف. هذا النوع من رجال الساسة يضّحون حتى بمقدساتهم في سبيل تحقيق أغراضهم، إضافة إلى أنهم يستغلون أوقات الأزمات والخلافات لزيادة تأييدهم الشعبي وتوطيد سلطاتهم. فهم يتغذون دومًا على الأزمات والأعداء، وإن لم توجد فهم بأنفسهم يخلقونها؛ لأنهم محرومون من مقومات ذاتية لتسويق أنفسهم وسياساتهم وترويجها.
لقد أظهرت الأزمات التي اندلعت في السنوات الأخيرة مع الدول الغربية وإسرائيل كيف أن أردوغان يوظف الإسلام كـ”درع” لحماية نفسه من سهام المنتقدين ويجعله “أداة” للانتقام من أعدائه. إذ شاهد الجميع كيف أنه ورجاله، خاصة من يعملون ضمن مؤسسة الشؤون الدينية بدؤوا يقدمون تلك الأزمات وكأنها امتداد للحرب التقليدية بين الهلال والصليب، والصراع بين المسلمين والغرب النصراني، ويطلقون أوصافًا على الدول الأوروبية من قبيل “النازية” و”الفاشية”.
توجيه الضربات لأوروبا أو العالم الغربي قد يؤدي إلى نوع من الارتياح، على المدى القريب، لكن لا شكّ أن هذا النهج سيقود تركيا للاصطدام بالحائط بكل أنظمتها السياسية والاقتصادية على المديين المتوسط والبعيد.
على الرغم من هذه الحقيقة إلا أن أردوغان بعدما لاحظ “سحر” الخطاب الشعبوي الإسلامي الموجود في جينياته أصلاً، بدأ يعتمد عليه بكثرة في تلميع صورته، ورصّ صفوف مؤيديه في الداخل والخارج. فبعد حادثة دافوس بدأ يسيطر على خطاباته نكهة إسلامية راديكالية، وأفضل مثال على ذلك موقفه من انطلاق سفينة “مافي مرمرة” إلى قطاع غزة لكسر الحصار المفروض عليه في محاولة منه لزيادة رصيده في العالم العربي والإسلامي. ومع بداهة عدم جدوى مثل هذه الطريقة الساذجة في حل قضية شائكة معقدة مثل القضية الفلسطينية، إلا أنه ساند بل وجه هذه الخطوة عن طريق المخابرات وإحدى أدواتها هيئة الإغاثة الإنسانية وحقوق الإنسان والحريات (IHH)، من أجل استعراض قواه وتحقيق “انتصار” محتمل يكسب به ودّ ودعم الشارع العربي والإسلامي.
ولن نجافي الحقيقة إذا قلنا إن حادثة “مافي مرمرة” كانت بمثابة “نزع الفتيل” لعملية “محاصرة تركيا وإعادة تصميمها” أو بعبارة أخرى “تحويل تركيا من فاعل إلى إداة” عبر تفعيل نظرية “الفوضى الخلاقة”.
ولاشكّ في أن التوقع بمسار الأحداث في المستقبل قبل أن تولد وهي “أجنّة” في “بطن الزمن” يتطلب نظرة ثاقبة شاملة لـ”السنن الإلهية” التي تنظم ازدهار الأقوام والأمم أو انهيارها، انتصارها أو هزيمتها، وقراءةً كلية لـ”العاقبة” الإيجابية أو السلبية التي تعرضت لها الأمم والحضارات طيلة التاريخ.
وإذا طبقنا هذا المبدأ على حادثة مافي مرمرة نجد أن أردوغان لم يدرس ولم يتوقع النتائج المحتملة التي ستتمخض عنها حادثة مافي مرمرة التي كان “الهدف المعلن” منها رفع الحصار المفروض على قطاع غزة، وإنما تطورت الأحداث على عكس المرغوب فيه والمخطط له تماماً. إذ هذه الحملة وكل الحملات المشابهة اللاحقة لم تؤدِّ إلا إلى فتح الطريق أمام كل من إسرائيل وإيران اللتين تظهران العداوة في العلن وتتعاونان في الخفاء، ومنعِ تركيا من استكمال عملية التطهر من الدولة العميقة بكل أذرعها والانفتاح الصحي والسلمي على المنطقة والعالم بأجنحة الاقتصاد وحسن الجوار.
– سفينة حرب أم مساعدات؟!
ينبغي قبل كل شيء أن نتفق حول نوع سفينة مافي مرمرة. هل كانت سفينة حرب أم مساعدات؟ إن كانت سفينة مساعدات فلماذا أثيرت هذه الضجة وأطلقت نداءات الحرب في كل مكان؟! وإن كانت سفينة حرب فما هي بسفينة حرب لخلوّها من أي معدات عسكرية! ومع ذلك فهي لم تنطلق إلى غزة كسفينة مساعدات بل انطلقت وكأنها سفينة حرب! فإذا كان الهدف إعلان الحرب على إسرائيل أمَا كان يجب الاستعداد لها كما ينبغي؟
فوق ذلك فإن الأدميرال في القوات البحرية التركية نصرت جونار، الذي استقال من منصبه في وقت لاحق، أبلغ الحكومة في ذلك الوقت أنهم مستعدون لإرسال سفينة حرب لمراقبة سفينة مافي مرمرة وحمايتها من أي اعتداء إسرائيلي محتمل، لكن المسؤولين قالوا: “لن نرسل سفينة، لكن لنقل لوسائل الإعلام إننا أرسلنا”. إلا أن الأدميرال اعترض على هذه الفكرة بشدة قائلاً: “إرسال سفننا الحربية لحماية مافي مرمرة مع القول لوسائل الإعلام بأننا لم نرسلها أقلُّ خطورةً من عدم إرسالها أصلاً والإعلان أننا أرسلناها!”
كما تبين أن وزير الخارجية في ذلك الوقت أحمد داود أوغلو أمر بإرسال سفن حرب لترافق سفينة مافي مرمرة، إلا أن هذا الأمر لم يتمّ تنفيذه، وألقي الناشطون الأبرياء العزل أمام دولة إسرائيل لتقوم باصطيادهم بكل سهولة.. فمن ولماذا منع إرسال تلك السفن يا ترى؟!
فضلاً عن أنه رفعَ علم جزر القمر على سفينة مافي مرمرة بدلاً من العلم التركي، مع أنه كان يرفرف عليها قبل مغادرتها المياه التركية وفي أثناء اتجاهها نحو شواطئ غزة. في الواقع لو لم يستبدَل العلم التركي بعَلم جزر القمر لما تعرضت السفينة لهذا الاعتداء الغاشم أو على أقل تقدير كان موقف تركيا سيصبح أقوى على الصعيد الدولي. إذ كان يمكن اعتبار الاعتداء على سفينةٍ تحمل العلم التركي في المياه الإقليمية اعتداءً على أراضي “تركيا العضو في حلف شمال الأطلسي الناتو”، ومن ثَمَّ كان بالإمكان الردّ بالمثل على الدولة المعتدية من خلال الناتو. إذًا لماذا أزيلَ العلم التركي من السفينة واستبدِل به عَلم جزر القمر؟ ألا يعني هذا أننا نزعنا بأيدينا حقَّ ردِّ الناتو على إسرائيل؟ ولو لم تكن إسرائيل قد أعلنت عن موقفها مسبقاً، وكذلك لو كانت هي دولةً لا يمكن التوقع بتصرفاتها في مثل هذه الظروف فالأمر عندئذٍ كان سيختلف. ولكن في ظل الموقف الصارم لإسرائيل فإن تنظيم حملة من هذا القبيل لم يكن يستهدف سوى تدمير العلاقات بين البلدين والقضاء على ما بنته “تركيا الصاعدة” في المنطقة.
وإذا أضفنا إلى ذلك أن البعض، بمن فيهم برلمانيون من حزب العدالة والتنمية الحاكم وصحفيون وكتاب “إسلاميون”، خرجوا وصرخوا في وجه العالم بأنهم سيشاركون في قافلة سفينة مافي مرمرة، ونشرت ذلك وسائلُ إعلام محلية ودولية مختلفة، لكن رأيناهم فيما بعد قد نزلوا من السفينة في اللحظات الأخيرة ولم ينضمّوا إلى المشاركين في القافلة لأسباب طارئة!
وقد دعا نائب حزب الشعوب الديمقراطي الكردي ألتان تان، المنحدر من أصول إسلامية، أردوغان إلى إعلان أسماء النواب البرلمانيين الذين تراجعوا في اللحظة الأخيرة من ركوب سفينة مافي مرمرة عقب تلقيهم تحذيرًا من المخابرات.
– تحركات الذراع الإسلامية للدولة العميقة
إذا تمكّنا من إلقاء نظرة شاملة على الظروف التي كانت تمر بها تركيا حين انطلاق سفينة مافي مرمرة فسنرى ما يلي:
إن الدولة العميقة، التي تخفي هويتها الحقيقية وتَظهر بهويات قومية مختلفة حيث وجدت؛ فترفع راية “القومية التركية” في غرب البلاد، و”القومية الكردية” في شرقها، لماّ استطاع الجهاز البيروقراطي “الوطني” إمساكها من أرجلها عام 2007 هّبت “ذراعها الإسلامية” لوضع خطة إنقاذ، فوظفت حزب أردوغان في إخراج أعضائها من الضباط والجنرالات والمدنيين البالغ عددهم نحو 350 شخصًا، بمن فيهم رئيس هيئة الأركان السابق إيلكر باشبوغ، من السجن بعد أن كانوا محكومين في إطار قضايا انقلابية وإجرامية، مثل قضايا أرجنكون والمطرقة ومنظمة اتحاد المجتمعات الكردستانية من جانب، ومن جانب آخر للقضاء على حركة الخدمة التي تعتبرها أخطر من حزب أردوغان وكل الجماعات الأخرى.
وفي إطار هذه الخطة تحركّت هذه الذراع الإسلامية عبر عناصرها وشخصياتها المعروفة عند الرأي العام منذ سنين بأفكارها ومواقفها “الإسلامية”، وشرعت في محاصرة تركيا مجدداً من جميع أطرافها بنيران من النزاعات والمشاكل والأزمات، بعد أن راحت تنفتح البلاد على الدول الغربية والشرقية على حد سواء من خلال علاقات واتفاقات ثقافية واقتصادية، وتسعى لحلّ كل النزاعات والمشاكل العالقة منذ عقود باستخدام لغة الحوار والدبلوماسية في إطار استراتيجية “صفر المشاكل مع الجيران” من دون أن تثير حسد الإخوة وبغض الخصوم والأعداء، كالقضايا الفلسطينية والقبرصية والأرمنية والكردية وغيرها.
وإذا علمنا أن الضباط والجنرالات الانقلابيين المحكومين في إطار قضية المطرقة الثقيلة أو “باليوز” –بالتركية- كما ورد في التسجيلات الصوتية والمصورة لهم، وضعوا خطة عام 2003 لإسقاط طائرة يونانية، ومن ثم قتل طيار تركي من أجل اختلاق “حرب خفيفة” بين تركيا واليونان، تمهيداً لإحداث “فوضى خلاقة” و”عسكرة الأجواء” في البلاد، وأخيراً الانقلاب على الحكومة والسيطرة على زمام الحكم.. فإنه من الممكن أن نستخلص من المشهد الأخير للفليم الذي نشاهده منذ 7 أو 8 سنوات أن الدولة العميقة تمكّنت من الدخول إلى “الغرفة السرية لحزب أردوغان” من خلال ذراعها الإسلامية، التي تمثلت أساسًا في مجموعة مستشارين يظهرون الانتماء إلى فكرة الإسلام السياسي، التي تتخذ شرعيتها من “المعارضة اللفظية” لإسرائيل، وراحت تمهّد الأجواء لإقحام تركيا في منطقة الشرق الأوسط الحافلة بالأزمات والمشاكل بهدف إنقاذ ذراعيها التركية والكردية في السجون.
وكانت “القضية الفلسطينية” أفضل أداة لتوظيفها في إقحام تركيا في أزمة مع إسرئيل، التي كانت تتفاوض معها لتسوية المشكلة بينها وبين فلسطين وسوريا، فدبرت حادثة “مافي مرمرة” وسط ظروف مشبوهة جداً تحت ذريعة “بريئة” بل واجبة ككسر الحصار المفروض على قطاع غزة، رغم الاعتراضات الموضوعية والمنهجية الموجّهة ضد الأسلوب المتبع في ذلك من قبل الجماعات الإسلامية ومنظمات المجتمع المدني والأحزاب السياسية الأخرى.
فانطلق كتاب من اليمين واليسار من أمثال عبد الرحمن ديليباك، الكاتب “الإسلامي” المعروف بعلاقاته المشبوهة مع العناصر العميقة في تركيا، والمعروف بدعمه الشديد لمافي مرمرة، ويغيت بولوت، الذي ينحدر من أصول علمانية، وكان عدواً شرساً لأردوغان وحليفًا لأرجنكون بحيث دافع مستميتاً عن حلّ حزبه من قبل المحكمة الدستورية، ومن ثم رأيناه قد أصبح بين ليلة وضحاها من كبار مستشاريه، ومضى يطلق نداءات الحرب مع إسرائيل بعبارات مستفزة على القنوات التلفزيونية قبيل انطلاق مافي مرمرة، زاعماً أن لدى تركيا القوة اللازمة لمناطحة إسرائيل، خاصة إذا ما اتفقت مع إيران..! ولا بد أن نسجّل هنا أيضًا أن بولوت أحد أقارب زعيم حزب الوطن دوغو برينجك!
أخذ هؤلاء ينفخون في أردوغان ودائرته الأوليغارشية الضيقة، والرأي العام بصفة عامة، ويدغدغون مشاعرهم ويهمسون في أذنهم بأن “تركيا الجديدة” بدأت تستعيد قوة أجدادها من خلال خطابات “العثمانية الجديدة” و”الخلافة الإسلامية”، راكبين موجات ما يسمى بأحداث “الربيع العربي”، التي انطلقت أولاً في تونس عام 2010، ثم ما فتئت أن انتقلت إلى مصر، ومنها إلى سوريا وليبيا. فبدأ أردوغان والمشجعون له يتخيلون في أنفسهم قوة لم تكن موجودة أصلاً يحلمون أن يكون أردوغان بفضلها زعيم العالم الإسلامي من خلال دعم جماعات الإسلام السياسي في تلك الدول.
وخلال مدة قصيرة جداً بدأوا يتوهمون ويهذون بأنهم سيعيدون رسم الخارطة الجغرافية في المنطقة، ولن يتحرك حتى غصن فيها بدون علمهم وإذنهم، وراحوا يصدّرون هذه اللغة الكفاحية والثورية إلى شعوبها وتحريضها ضد الأنظمة الحاكمة من خلال الجماعات الإسلامية التي اعتبروها امتدادًا وذراعًا طولى لهم.
مع أنهم كرسوا كل جهودهم للإطاحة بهذه الأنظمة مهما كلّف الأمر وبأية طريقة كانت، بما فيها الطرق المشبوهة، لأن “الغاية كانت تبّرر الوسيلة” بحسب رأيهم، لكن السياسة الخارجية تقوم على الواقعية لا الأفكار المثالية المجردة، ولم يكن من الممكن إدارتها من خلال خطابات نارية رنانة صرفة، بها تهديدٌ ووعيدٌ وتحدٍّ فوق القدرات، سرعان ما يبردُ لهبُها على جليد الواقع وينطفئ جمرها بمطر المصالح. لذلك سرعان ما اصطدمت هذه الأحلام بالحائط وجلبت على رأس تركيا مشاكل وأزمات مع كل دول المنطقة بل العالم بحيث أصبحت منعزلة عن العالم وغير مرغوبة في المنطقة.
لكن لا ضير! ألم يكن هذا هو الهدف والمقصود؟!
توجيه اهتمام أردوغان إلى الخارج لإعادة تصميم البيت الداخلي!
استهلاك الطاقة الكامنة لتركيا بشغلها بأمور لا تعنيها ولا تملك القوة عليها!
تقويض “الأرضية الديمقراطية” التي ساهمت في إعدادها كل القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني الديمقراطية، الأرضية التي ركب عليها حزب أردوغان ووصل إلى سدة الحكم!
إرجاع تركيا إلى الأيام القديمة وتصغيرها وتسليم زمامها مجدداً إلى شخص واحد مستبد، ليأتي أخيرًا الكيانُ الأعلى للدولة العميقة الحاكمة منذ أواخر الدولة العثمانية ويفرض سيطرته على ذلك الشخص بكل سهولة.
إسناد جميع السلطات إلى الرجل الأوحد بدلاً من توزيعها على سلطات قوى منفصلة لسهولة التحكم فيه.
وقد حققت الدولة العميقة ذلك بكل سهولة بركوب طمع وجشع أردوغان في الخلافة وزعامة المنطقة.
ما قاله كلٌّ من الجنرالين جيم عزيز جاكماك وفاتح إيلغار في تسجيل صوتي مسرب عام 2012 وهما قابعان في السجن في إطار قضية باليوز “تركيا ستعود إلى رشدها وصوابها عبر حرب أهلية.. وسترون أننا سنخرج من هذا السجن خلال عام بفضل تعديلات قانونية يجري إعدادها حاليا من قبل الحكومة.. وبعد ذلك سيكون ثأرنا شديداً من الذين حاكمونا وسجنونا.. إنهم سيدخلون السجن مكاننا.. فنحن سنضعهم في السجن ذاته الذي وضعونا فيه”، تحوّل إلى حقيقة تماماً بعد سنة.. فقد وضعت الدولة العميقة، بالتعاون مع أذرعها الإقليمية والدولية، أردوغان على سفينة “مافي مرمرة”، وأرسلته إلى فلسطين أولاً، ثم رفعته على أمواج “الربيع العربي”، ووجّهتها نحو سوريا ومنطقة الشرق الأوسط عموماً، وأحيت حزب العمال الكردستاني بعد موته بفضل ما يسمى بـ”مفاوضات السلام”، ومنحته منطقة ذاتية الحكم في الشمال السوري، وأخيرًا خنقت “تركيا الصاعدة” في عقر دارها، وأنقذت أعضائها المسجونين، والآن يتم طردها من المنطقة بعد قطع أرجلها وأذرعها وتحطيم علاقاتها مع جيرانها لتعود كما كانت سابقًا دولة صغيرة منطوية على ذاتها يحكمها شخص واحد.. الشخص الذي قال عنه دوغو برينجك: “تم السيطرة عليه من قِبَل القوى الوطنية الأتاتوركية الكمالية!”
– لهاث أردوغان وراء أحلام الخلافة
ومع التسليم بخلوص نية الناشطين المشاركين في حادثة مافي مرمرة، إلا أن هناك شبهات حول أن تكون هذه الخطوة قد أريدت لها – بعلم منسقيها أو عدمه – أن تكون استعراضاً سياسياً من أجل تلميع صورة أردوغان في العالم العربي والإسلامي وتقديمه كزعيم وخليفة في إطار مشروع الشرق الأوسط الموسع أو الكبير. ولكن هذا الهدف أخفي عن المشاركين الأبرياء وتركُوا ليواجهوا إسرائيل بوحدهم في ظلّ عدم اتخاذ تدابير كفيلة بحمايتهم من الاعتداء الإسرائيلي الغاشم ليصبحوا ضحايا وأداة لتحقيق هذا الهدف المشؤوم.
فقد قال البروفسيور نوزاد يالجينتاش، أحد مؤسسي حزب العدالة والتنمية، والذي يعتبر أستاذ أردوغان، إن حادثة (One Minute) كانت عبارة عن سيناريو حاكه مستشارو أردوغان!” وعلى نفس المنوال قال علي أونال، الكاتب المعروف بتحليلاته العميقة والعلمية، وضلوعه في القضايا الإسلامية، إن “الحادثة كانت عبارة عن سيناريو لتلميع صورة أردوغان في تركيا والعالم الإسلامي”، وتساءل في مقال حمل عنوان “حقيقة مافي مرمرة” قائلاً: “هل كانت مافي مرمرة عبارة عن خلق أرضية من أجل تلميع صورة حكومة حزب العدالة والتنمية إلى أقصى الحدود الممكنة ضمن المخططات الأمريكية الموضوعة لتنفيذها في منطقة الشرق الأوسط؟”
في حين لفت محللون أتراك، من أمثال بولند كينيش وأمر الله أوسلو، وهم الخبراء في القضايا الإيرانية وشؤون الشرق الأوسط عامة، إلى أن إيران بواقع تنافسها التاريخي مع تركيا، وظفت امتداداتها في الداخل التركي من تيار “الإسلام السياسي”، متمثلاً في وزير الداخلية وونائب رئيس الوزراء الأسبق بشير أتالاي، وفريقه المكوّن من إرشاد هورموزلو، مهندس العلاقات الخارجية في وقت سابق، وهاكان فيدان، وإبراهيم كالين، مستشار أردوغان والمتحدث باسمه، وياسين أقطاي، كبير مستشاري أردوغان المسؤول عن شئون الشرق الأوسط، وأفكان علاء، وزير الداخلية الأسبق، ورضا زراب الذي يعتبر “بنك أردوغان السري”.. في تحريض أردوغان ضد إسرائيل حتى يرى العالم الحجم الحقيقي لقوته.
وقد انتهت هذه الحادثة باستشهاد 9 من الأتراك وانهيار العلاقات الثنائية دون أن تحقّق غايتها المرجوة، بل تطورت الأحداث على عكس الهدف المعلن.. فالمشكلة بين إسرائيل وفلسطين لا تزال قائمة كما هي، بل تعقّدت أكثر من السابق، ولم تصل المساعدات المجموعة إلى غزة، بل تسببت في إغلاق باب الرفح، وحصلت إسرائيل على رخصة دولية للتدخل في سفن المساعدات الأخرى المتجهة إلى فلسطين، إضافة إلى استشهاد عشرة شهداء، تسعة منهم مواطنون أتراك. وهذه الحادثة كانت بمثابة الخطوة التي نزعت فتيل الأزمات القادمة التي ضيقت الخناق على تركيا.
ومن ثم عادت تركيا إلى المربع الأول وباتت مضطرة لإقامة علاقات مع إسرائيل وتفعيلِ اللغة الدبلوماسية معها، بعد أن رفضت استخدامها في البداية. بل إن المشجّعين لأردوغان وكأنهم مشجّعون لفريق كرة قدم كانوا يعتبرون كل صوت معارض أو مختلف معهم في هذا المضمار “عداوة لفلسطين” و”موالاة لإسرائيل”، ويتهمون كل الشخصيات البارزة التي انتقدت “الطريقة” المتبعة في كسر حصار غزة بـ”الخيانة لكل من تركيا وفلسطين”، في مقدمتها الأستاذ فتح الله كولن. مع أن ما اعترض عليه كولن وأمثاله لم يكن منصبًّا على التعاون مع فلسطين وبذل الجهود لمساعدة غزة، بل كانوا يؤكّدون على ضرورة إيصال المساعدات الإنسانية إليها بصورة أو بأخرى مع تجنب اللجوء إلى أسلوب لا يعتدّ ولا يبالي بسلطة الاحتلال الإسرائيلي، ويريدون حلّ القضية عبر الوسائل والقنوات الدبلوماسية دون خوض غمار الصراع والحرب، إلا أنهم عمدوا إلى تقديم هذه التحذيرات والمواقف وتصويرها للرأي العام وكأنها دعوة إلى الاعتراف بالسلطة الإسرائيلية!
– توجيه أردوغان للخارج لإعادة تصميم الداخل
وكان الأستاذ الدكتور في قسم العلاقات الدولية بجامعة الشرق الأوسط التقنية التركية إحسان داغي أكد في مقال تحذيريّ تاريخيّ كتبه في عام 2011 بجريدة “زمان”، وأكد فيه أن “سفينة مافي مرمرة كانت طعمًا ألقي أمام أردوغان لجره إلى المياه العكرة في الشرق الأوسط، ودفعه إلى الصراع مع إسرائيل، بهدف “عرقلة صعود تركيا بقوتها الناعمة”، واعتبر هذه الحادثة بداية نكسة تركيا في المنطقة. ونقتطف السطور التالية من ذلك المقال الذي تنبأ بما سيحدث لتركيا بكل تفاصيله في وقت مبكر جدا:
“تركيا بدولتها ومجتمعها المدني في طريقها لتكون قوةً ناعمة ومركزَ ثقل ولاعبًا عالميًّا، فلا داعي لأي مغامرة غير محسوبة العواقب.
الصراع هو ما ينتظره ويخطط له المنزعجون من استقرار تركيا في الداخل وصعودها في الخارج.
سفينة مافي مرمرة كانت “طعمًا” لوقف صعود تركيا لم تتفطن له -للأسف الشديد- حكومة أردوغان.
لا داعي في هذا التوقيت الحساس للمخاطرة والانفعال وركوب موجات الآخرين على الرغم من كل ما حصل مع إسرائيل. فالصراع / الحرب لن يوقف صعود تركيا وحسب، وإنما سنضطر إلى التخلي عن مشروع الديمقراطية والسياسة المدنية، وعندها سيخسر الجميع عدا تجار السلاح والمتعطشين للدماء.
لن تستطيع تركيا أبدًا تحقيق مشاريعها الديمقراطية والاقتصادية إذا ما صرفت طاقاتها في سبيل التوترات والصراعات الإقليمية.. حذار حذار! فإن بعض الجهات تخطط للدفع بتركيا إلى الخارج وخنقها في الداخل لإعادة تصميم البيت الداخلي.
لن يتحدث أحد عن الديمقراطية والسياسة / الحياة المدنية إذا ما قرعت طبول الحرب وارتفعت نداءاتها، وإن تحدث فلن تسمع كلمته؛ ذلك لأن السياسة الخارجية المتوترة أيقظت دائمًا وعززت النزعات السلطوية الاستبدادية في السياسة الداخلية.
كنت قد اعتبرت تلك المقاربة الجديدة، التي ترى تركيا محاطةً من حولها بشركاء قابلين للتعاون معهم بدلاً من الأعداء، “ثورة” و”نقلة نوعية” في السياسة الخارجية التركية. ذلك أنه بفضل هذا المنظور، أي بتحولها من “الرؤية الصراعية الأمنية” إلى “الرؤية السلمية التعاونية” كانت السياسة الخارجية انقلبت عاملاً مساعدًا لـ”دمقرطة” البلاد عوضًا عن “السلطوية”.
لقد وُضعت السياسات الاستبدادية وأنشئت المجتمعات المنضبطة وأضْفيت الشرعية عليها بذريعة “الأعداء الخارجيين” في كل زمان ومكان.
تركيا في غنىً عن العدو ولو كان إسرائيل. إني لا أخشى العدو بل من الحالة النفسية التي ستخلقها تلك “العداوة” فيما بيننا، وقابليةِ هذه الحالة للاستخدام والتوظيف”. انتهى كلامه.
لو كان أردوغان استمع لهذه النصائح المخلصة فهل كانت تركيا تقدَّم اليوم كـ”أفضل نموذج للدول الدكتاتورية” من قبل زعماء غربيين وشرقيين؟! وهل كانت الآلة الإعلامية الموظفة لتبرير أفعال أردوغان مهما كانت تبحث عن حيل شرعية لتخفيف وطأة التعاون مجدداً مع إسرائيل والتخلي عن قطاع غزة على الشعب التركي والعربي والإسلامي من خلال الهرطقة القائلة بأن “تركيا المتصالحة مع إسرائيل أنفع للقضية الفلسطينية وخيرٌ من تركيا المتصارعة معها!” إذا كنتم تؤمون بهذا فلماذا أرسلتم سفينة الحرب إلى مناطحة إسرائيل ومن ثم تخليتم عن قضيتكم!
يتبيّن جلياً مما سبق أن أذرعة الدولة العميقة حوّلت سفينة مافي مرمرة إلى مطيةٍ للركوب عليها والوصول إلى “أهداف مشبوهة” من خلال استغلال المشاعر الدينية البريئة للناس.
– النتيجة.. تطبيع العلاقات مع إسرائيل
والعبرة التي يجب أن نستخلصها من العودة إلى الصداقة مع إسرائيل بعد العداوة “الظاهرة” معها هي الاعتقاد الجازم بأن القضايا الإسلامية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، ليست إلا “أداة” في أيدي السياسيين، يركبون عليها ليحققوا مكاسب سياسية ويحصلوا على دعم الجماهير التي تنخدع بالمظاهر والأقوال المزخرفة بسهولة. كما ينبغي بعد ذلك التريث والتأكد من مصداقية هؤلاء السياسيين عندما يطلقون الأوصاف جزافاً من قبيل “إن فلاناً أو مجموعة فلانية عميل وخائن للقضية الفلسطينية وموالٍ لإسرائيل!”؛ لأنهم يطلقون هذه الأوصاف على كلِّ من يختلفون معهم أو يعترضون على آرائهم ليس لأسباب موضوعية وإنما بسبب المواقف السياسية فقط… وعندما تتغير المواقف والظروف سرعان ما تتبخر مبادئهم ويتغيرون بالكلية! فهم يدورون حيث تدور مصالحهم!
ولا غرو في ذلك في ظروف الساسية الراهنة! بل الغرابة تكمن في المشجعين الذين يظنون الأحزاب جماعاتٍ وزعمائها قادةً إسلاميين! بل يرون حزبهم نوعاً من الدين وزعيمه واحداً من الرسل – حاشا وكلا -. لقد رأينا هذا الإفراط في تصريحات بعض مسؤولي حزب العدالة والتنمية الخاصة بأردوغان.. حيث وصفوه بـ”النبي الثاني”، وقالوا بأن “لمسه عبادة”، بل زعم النائب البرلماني عن حزب العدالة والتنمية الحاكم فوائي أرسلان أن “أردوغان زعيم قد جمع في ذاته كل الصفات الإلهية!” –حاش وكلا ألف مرة.-