إسطنبول (زمان التركية) – تزامنا مع الذكرى العاشرة على الهجوم الإسرائيلي على سفينة “مافي مرمرة” قرب سواحل غزة، نقدم لكم المقال الذي كتبه الأستاذ علي أونال في عام 2014 حول حقيقة وأهداف سفينة مافي مرمرة التي انطلقت نحو قطاع غزة بدعوى كسر الحصار المفروض عليه لكن الأمر انتهى بعكس المرغوب.
قيما يلي المقال بعنوان: ما هي حقيقية مافي مرمرة
يستخدم السيد رئيس الوزراء -رجب أردوغان- ومناصروه دائمًا وسيلة واحدة من أجل طمس حقائق عمليات التحقيق في قضايا الفساد والرشوة -2013-، وهذه الوسيلة عبارة عن فرضيةٍ تقول بأن “القوى الدولية ومن بينها امتدادات وأذرُع الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل – التي تمثّلها حركة الخدمة حسب زعمهم – متفقون مع الجماعة، وينفّذون عمليات ضدّ رئيس الوزراء”.
ومن أجل تقوية ودعم فرضيتهم هذه، يدّعون أن رئيس الوزراء أردوغان هو الشخص الوحيد الذي يستطيع مقارعة ومواجهة أمريكا وإسرائيل، وهذه الفرضية غير صحيحة، لهذا فعلينا الآن تسليط الضوء على العلاقات بين أردوغان وإسرائيل وأمريكا، قبل أن نخوض في موضوع معرفة وفهم حقيقة حادثة “مافي مرمرة”.
“العلاقات بين أردوغان وأمريكا وإسرائيل”
نجد في العدد الصادر بتاريخ 31 مارس 2003 لجريدة (وول ستريت جورنال) التي تمتلك تداوُلات تقدَّر بأكثر من 10 ملايين نسخة، خطابًا منسوبًا إلى أردوغان يقول فيه: “ندعو الله أن يعود الرجال والنساء الشجعان من الجيش الأمريكي الذين يحاربون في العراق إلى بلدهم بأمن وسلام وبأقل الخسائر، وأن ينتهي العنف الدائر في العراق في أقرب وقت ممكن”. ويقول “بول ولفويتز” مساعد وزير الدفاع الأمريكي ومهندس العدوان الأمريكي على العراق آنذاك، بعد زيارته لتركيا قبل بدء العدوان الأمريكي على العراق بثلاثة أشهر: “كنا متردِّدين بخصوص التدخل العسكري في العراق، بَيْد أن رجب طيب أردوغان بدّد مخاوفنا وشجّعنا على التدخل العسكري في العراق”.
على الرغم من القرار الصادر من مجلس الأمة التركي الذي يمنع استخدام القوات الأمريكية الأراضي التركية خلال الحرب على العراق، والذي نجم عن اعتراض الحزب الجمهوري بشكل كامل وبعض النواب من داخل حزب العدالة والتنمية، على مشروع القرار الذي قدَّمَته الحكومة للتصويت عليه في تلك المرحلة، إلا أننا نجد في الخطاب الذي صدر عن وزير الدفاع الوطني التركي “وجدي جونول” في أثناء المؤتمر الذي نظّمته مؤسَّسة مجلس “لوس أنجلوس” للشؤون العالمية، يقول في هذا التصريح معترفًا بحقيقة الأمور: “استخدمت الولايات المتحدة الأمريكية قاعدة “إِنْجيرليك” أثناء الحرب على العراق، ونفّذَت الطائرات الحربية الأمريكية أربعة آلاف وتسعمئة وتسعين طلعة جوية”، أي إن تركيا تكون قد شاركت في مقتل عشرات الآلاف من إخواننا المسلمين في العراق، بفضل حكومة حزب العدالة والتنمية.
كما نجد الخبر التالي المنشور في جريدة “يني شفق” الموالية للحكومة في عددها الصادر بتاريخ 11/06/2005: “يقول أردوغان إن العالَم بحاجة إلى الولايات المتحدة الأمريكية في مواجهة المشكلات العالمية، وإن الغايات والأهداف الرئيسية لتركيا والولايات المتحدة تتلاقى وتصبّ في بُوتقة واحدة”.
كما ألقى رئيس الوزراء السيد أردوغان خطابًا بعنوان “السياسات الخارجية التركية وعلاقاتها مع الولايات المتحدة الأمريكية، والرؤى والإمكانيات التركية والأمريكية التي تدعم كل منهما الأخرى” أمام رابطة السياسات الخارجية الأمريكية قائلاً في خطابه: “بسبب القوة التي تتمتع بها الولايات المتحدة الأمريكية، فإن حاجة جميع الدول إليها تزداد في مجالات عديدة، ابتداءً من مواجهة الإرهاب ومرورًا بمنع انتشار أسلحة الدمار الشامل، وحلّ المشكلات الاقتصادية والديموغرافية، ووصولاً إلى حل المشكلات البيئية… وستجد الولايات المتحدة أن جميع المتحالفين يقفون معها في هذه المرحلة”.
كذلك تَطرَّق السيد أردوغان إلى القضية العراقية حينذاك، قائلاً إن أكثر المساعدات التي تصل إلى العراق تقدِّمه تركيا، مضيفًا أن الولايات المتحدة وحلفاءها لم يصلوا إلى موقف موحَّد تجاه العراق في بداية الأزمة، وأن تركيا قدَّمَت المساعدات للولايات المتحدة في الأزمة العراقية، ضمن الشروط التي كانت تراها مناسبة في تلك الفترة، وفي ضوء تجاربها، وبناءً على القرارات والخيارات الديمقراطية المتاحة لها.
“أهدافنا الرئيسية متطابقة”
ومن المجالات التي ينسَّق فيها بين الولايات المتحدة الأمريكية وتركيا، المساعي الرامية إلى استقدام الحريات والديمقراطيات إلى الجغرافيا المحيطة بتركيا، كما يقول أردوغان، مبيِّنًا التوجُّهات والرغبات التركية في منطقة الشرق الأوسط والعالم الإسلامي أجمع. يقول أيضًا: “إن وجود المجتمعات التي تتمتع بالحريات والديمقراطيات، سيُسهِّل عملية الانتقال إلى حياة مليئة بالرخاء والرفاهية في المنطقة، بالإضافة إلى تشكيل وبناء البنى الاقتصادية وإرساء قواعد جيدة للحكم وتداوُل السلطة”.
نرجو منكم قراءة الأسطر الإضافية الموجودة في نفس الخبر الذي نشرته جريدة “ييني شفق”، والذي يتطرق إلى العلاقات القائمة بين أردوغان وإسرائيل بشكل خاصّ من جهة، والعلاقات القائمة بين أردوغان والجماعات اليهودية بشكل عامّ من جهة أخرى.
“رَدّ فعل أردوغان تجاه من يعادي اليهود”
في أثناء خطابه لمجموعة من نواب حزب العدالة والتنمية في مجلس الشعب التركي، وتحت عنوان “محاربتي لكل من يعادي اليهود والموسويين”، قال أردوغان: “إن العداء ضدّ اليهود يعكس انعدام العقل، كما إنه أمرٌ شائن يدعو إلى الخجل”. مع العلم بأن أردوغان شخصيًّا، قد قُلِّد وسام الشجاعة النادرة من قِبَل أكبر تجمُّع للوبي اليهود في أمريكا (ADL) “رابطة مكافحة التشهير”، تكريمًا للدبلوماسيين الأتراك الذين أنقذوا اليهود من الإبادة الجماعية إبان الحرب العالمية الثانية. وفي أثناء حفل التكريم قال أردوغان: “التطهير العرقي الذي تَعرَّض له اليهود عبر التاريخ، أمرٌ في غاية الهمجية والوحشية التي لا يمكن تصوُّرها، واليهود كانوا هدفًا مباشرًا لهذه الوحشية، وأضاف أيضًا: “معاداة اليهود عبارة عن انحراف انتهى بالمذابح ضدّهم”. وفي محضر شرْحه عدمَ وجود أي نوع من العداء ضدّ اليهود في تركيا، قال أردوغان إن “رسولنا النبي الأكرم محمد صلى الله عليه وسلم، كان يتعايش مع اليهود وكان يطلب من المؤمنين حماية اليهود من كل شر، أي إن التعامُل مع الأديان الأخرى بتسامح هو من الميراث الذي تركه لنا نبيُّنا محمد”.
“أردوغان قُلِّد وسامًا لم يسبق أن ناله أي رئيس دولة غير إسرائيلي أو يهودي”
كان منتسبو حزب العدالة والتنمية يبررون تقليد أردوغان بالوسام من قِبَل “ADL” بأن “ذلك الوسام لم يُقَلَّده أردوغان لشخصه، إنما كان المقصود منه تكريم الشعب التركي أجمع”. لكن هنا يطرح سؤالٌ نفسَه: لماذا يكرَّم أردوغان شخصيًّا بسبب حادثة مضى عليها 60 عامًا ولم يكرَّم أي رئيس وزراء تركي سابق بهذه الجائزة إطلاقا؟!
تعالوا نقرأ أيضًا الخبر الذي نُشر في صحيفة “ييني شفق” من خلال مقال كتبه طه قيفانج (فهمي قورو) في العدد الصادر بتاريخ 5/2/2005 والذي يشير إلى الجائزة الثانية التي منحتها لأردوغان مؤسَّسة يهودية أخرى:
“في أثناء زيارته كان السيد رئيس الوزراء يهتمّ ببعض المؤسسات اليهودية في الولايات المتحدة الأمريكية، وشارك في المآدب التي نظَّمتها بعض تلك المؤسسات، ومنحته إحدى المؤسسات اليهودية تلك جائزةً، إذ كان اسم المؤسَّسة أو الجمعية اليهودية التي منحت أردوغان وسام الشجاعة “AJC” (مؤتمر اليهود الأمريكيين)… وهذه المؤسَّسة عبارة عن الفرع الأمريكي لمؤسَّسة يهود العالَم التي تُسَمَّى “مؤتمر يهود العالَم”، وهذا المؤتمر أنشأه تيودور هرتزل في القرن التاسع عشر، وكان هدفه إنشاء وطن واحد يجمع اليهود، واحتُفل قبل عدة سنوات بمناسبة مرور 100 عام على إنشائه.
جديرٌ بالذكر أنه اختيرت 10 شخصيات عالَمية للحصول على الجوائز التي تقدمها “AJC” وأردوغان هو الشخص الوحيد غير اليهودي بين هؤلاء العشرة الذين سبق أن نالوا هذه الجائزة. ضمن قائمة الشخصيات العشرة نجد أسماء أهمّ رؤساء الوزراء السابقين في إسرائيل، من بينهم غولدا مائير أيضًا… مع العلم بأن القاعة التي جرت فيها احتفالية التكريم تتبع المبنى المركزي لمصرف (HSBC) في نيويورك… والغريب أن المنظمة أو الجمعية التي تمثِّل اليهود الذين تَعرَّضوا للاعتداء الإرهابي في إسطنبول، هي التي تنفّذ فعاليات التكريم، بينما المؤسَّسة الثانية التي كانت مستهدَفة في تركيا مثل (HSBC) تخصِّص قاعة للاحتفالات تلك… كَمِ الأمورُ رمزيةٌ في هذا المشهد!
إذًا، فإن المؤتمر الذي أسَّسه تيودور هرتزل مؤسس الحركة الصهيونية ومؤسس دولة إسرائيل، الذي كان ديدنه تكريم القادة الإسرائليين الذين قدّموا الخدمات الجليلة لإسرائيل، يكرِّم السيد أردوغان بعيدًا عن تكريم رجالات دولة إسرائيل، وكما كتب السيِّد فهمي قورو: كم هي رمزية هذه الجائزة! وكم هي مليئة بالمعاني!
بعد حادثة “دقيقة واحدة” المعروفة بـ”ONE MINUTE”
في محضر تبريرهم كلَّ هذه التساؤلات، عادة ما كان ديدن منتسبي حزب العدالة والتنمية أن يقولوا “كلُّ تلك الجوائز وحفلات التكريم استمرت حتى حادثة «دقيقة واحدة”. حسنٌ، ما دام الأمر كذلك فنحن نسأل: هل طرأ أي تغيُّر في سياسة حزب العدالة والتنمية تجاه إسرائيل بعد تلك الحادثة؟
قلت من قبل إن إسرائيل بعد حادثة “دقيقة واحدة”، بل وبعد حادثة “مافي مرمرة” أيضًا، لم تخسر أي شيء، بل على العكس جرت الأمور لصالح إسرائيل بحيث كانت هي الرابح الوحيد. عندما كان أردوغان يوجه كلمة “دقيقة واحدة” ضدّ الإسرائيليين، كان ابنه أحمد بوراق أردوغان عبر شركة (MB) للشحن التي يملكها ومن خلال سفينتين تجاريتين، ينقل البضائع التجارية إلى إسرائيل، بمعنى آخر كان ابن السيد رئيس الوزراء وإسرائيل هما فقط الرابحين. وخلال فترة ثلاث سنوات الأخيرة وصلت التجارة بين إسرائيل وتركيا إلى نسبة 30%، ووصلت زيادة المبالغ التجارية المتبادَلة إلى 4 مليارات دولار، أي أن العلاقة التجارية مع تركيا في تلك الآونة هي أفضل ما كانت عليه في جميع الأزمنة. كما أن العلاقة بين الجيشين التركي والإسرائيلي استمرَّت على نفس المنوال كما جرت العادة ولم تتأثر بأي شكل من الأشكال. وعلى الرغم من اتهام منتسبي حزب العدالة والتمنية، وعلى رأسهم أردوغان، إسرائيلَ بالوقوف وراء مؤامرة تتجلى في عمليات التحقيق في قضايا الفساد والرشوة، فقط ليتمكنوا من طمس حقائق الفساد المالي، نجد أن العلاقات مع إسرائيل مستمرة وأن اجتماعًا يُعقد تلو اجتماع بين الحكومتين التركية والإسرائيلية، ولم يُكتفَ بذلك، بل ذهب الحزب الحاكم إلى قبول التخفيض في التعويضات المستحَقَّة التي كنا نطالب إسرائيل بها نتيجة فعلتها في سفينة مرمرة، كما أن حزب العدالة والتنمية قدم ضمانات لإسرائيل بأن تركيا لن تطالب بمحاكمة الضباط والعناصر الإسرائليين الذين نفَّذوا تلك الجريمة. وحدثت في نفس التوقيت تطورات أخرى، إذ كانت تُبرَم اتفاقية إنشاء منطقة صناعية يمكن من خلالها لإسرائيل تصدير البضائع المعفاة من الضرائب إلى الأسواق الأمريكية، وموقع هذه المنطقة الصناعية هو الجنوب الشرقي من بلدنا تركيا. ومن ثَمَّ ستدفع تركيا عمولات ضخمة لإسرائيل في حال قيام تصدير تركيا المنتجات إلى الولايات المتحدة عبر تلك المنطقة الصناعية.في نفس الفترة أيضًا وضمن قاعدة بقاء إسرائيل المستفيد الوحيد من أزمة “دقيقة واحدة”، عقدت إسرائيل بعد هذه الأحداث اتفاقًا مع قبرص الجنوبية، ومن خلال ذلك حوَّلَت إسرائيل شرقيّ البحر الأبيض المتوسط إلى بحيرة تابعة لها، وباشرت عمليات التنقيب عن النفط هناك.
لكن هل يحقّ لنا رغم كل هذه القرائن والأدلَّة أن نتَّهم أردوغان بأنه مُوالٍ لأمريكا وإسرائيل؟ من المتعارَف عليه في الساحة السياسية أن كل دولة تُجرِي لقاءات وتُبرِم اتفاقيات مع جميع الدول المعنيَّة بقضية ما، لكي تتمكن من الحفاظ على مصالحها القومية. لكن في أثناء هذه اللقاءات والاجتماعات مع هذه الدول، لا يُمكن لأحد أن يعلن عداوة ظاهرية لتلك الدول أو بعضها، وأن يجعل تلك العداوة مقياسًا تقيَّم الدول على أساسه، وتصرُّف كهذا يكون خارجًا عن أخلاقيات الدول، خصوصًا في هذه المرحلة التي تتوفر فيها جميع الأدلة التي تُدِين حزب العدالة والتنمية. نتساءل: كيف يمكنهم توجيه أصابيع الاتهام بالعمالة والموالاة لإسرائيل وأمريكا إلى جهة أخرى مثل الخدمة، لم يسبق لها أن كانت داخل علاقات واسعة مع أمريكا وإسرائيل كما هو حال الحكومة الحالية؟ واتهامات كهذه لا تتعدى كونها افتراءات كاذبة ضدّ هذه الجهة. لكن للأسف لم يتوقف مناصرو “العدالة والتنمية” وعلى رأسهم أردوغان عن كيل تلك التُّهَم للجماعة، على الرغم من أن ديننا الإسلامي الحنيف ينهى عن ذلك كما هو وارد في سورة الأحزاب (الآية 58) “والذين يُؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بُهتانًا وإثمًا كبيرًا”، كما يأتي أيضًا ذكر حرمانية قذف الناس بالتُّهَم في سورة النور (الآية 23): “إن الذين يرمون المحصَنات الغافلات المؤمنات لُعِنُوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم”.
“العَلاقات الإيرانية-التركية في الفترة الأخيرة”
من خلال التوضيحات المذكورة في الجزء الأول من هذا المقال أظنّ أنني قدّمت ما يكفي من البراهين على حقيقة واقعة “مافي مرمرة”، لكن من باب التوضيح أكثر فأكثر، لا بد من التطرُّق إلى العلاقات التركية – الإيرانية في الفترة الأخيرة أيضًا.
في محضر تبريره الوضع الذليل الذي وقعت فيه تركيا في المنطقة، يدّعي “علي بولاج” كاتب جريدة “الزمان” في أحد مقالاته “أن تركيا دخلت في منافسة نفوذ سياسي مع إيران”، بينما الحقيقة عكس ذلك تمامًا، كما يتضح من الأدلَّة والبراهين الواضحة. فإن تركيا في الفترة الأخيرة دخلت ضمن علاقات حميمية مع إيران، إذ حمَت إيران ودافعت عنها عبر توقيعها الاتفاقية بشأن ملف إيران النووي في مجلس الأمن، كما لم تتخذ تركيا أي موقف مضادّ لإيران، على الرغم من السياسة المعاكسة التي تتبعها بالنسبة إلى المشكلة السورية، إذ تساند إيران نظام الأسد إلى ما لا نهاية. بل أكثر من ذلك، من خلال تحقيقات الفساد والرشوة الأخيرة، تَأكَّد تبييض مبالغ هائلة من الأموال عبر استخدام “خلق بانك” (البنك الأهلي التركي) كوسيلة لنقل الأموال الإيرانية. وبالإضافة إلى ما سبق، فإن إيران تغلغلت في الدولة التركية أكثر مما كان الحال في فترة السلطان بايزيد الثاني، إذ وقّعَت مؤسَّسة التعليم العالي في عهد حكومة العدالة والتنمية اتفاقيات على مستوى التعليم الثانوي مع إيران، أعطت ميزة مساواة الشهادات الجامعية الصادرة من 48 جامعة إيرانية واعتبارها موازية للشهادات الجامعية التركية، وهذه الخطوة لم يخطُ مثلها العدالة والتنمية حتى تجاه جامعة الأزهر. وأُرسِلَ أيضًا ما يقارب 700 شيخ من مشايخ الطائفة العلوية إلى إيران لزيارة المرشد الإيراني خامنئي، كما بات من الواضح لكل من يهتمّ بالأمر ازدياد تأثير إيران والمؤيدين لها في تركيا على جامعات كثير من المدن مثل جيرسون وأرضروم وفان وسعرت. وبالإضافة إلى كثافة زيارة المسؤولين الأتراك لإيران، صرَّح السفير الإيراني في أنقرة علي رضا بيكدلي بوجود علاقات متينة بين المخابرات التركية (MIT) ونظيرتها الإيرانية (MOIS). لذلك علينا أن لا ننخدع بسياسات خاقان فيدان؛ رئيس المخابرات في عهد العدالة والتنمية تجاه المسألة السورية، إذ يبدو أنها سياسات مخالفة للمصالح الإيرانية، ولكن لا شكّ في أن تركيا هي الخاسر الوحيد في المنطقة نتيجة هذه السياسات المتبعة تجاه سوريا على وجه الخصوص، وأن إيران هي الكاسب الوحيد حتى الآن.
“البراهين التي تَمكَّنَّا من إثباتها بخصوص ما يتعلق بمافي مرمرة”
بعد سرد كل تلك الحقائق في الجزء الأول من هذا المقال، يمكننا الآن الانتقال إلى البراهين التي أصبحت بين أيدينا بخصوص “مافي مرمرة”:
في المرحلة التي وقعت فيها حادثة “مافي مرمرة”، وانطلاقًا من الظروف والحقائق التي كانت متوافرة في تلك الفترة، ساندتُ موقف الحكومة من حادثة “مافي مرمرة”، بل وكتبت عِدَّة مقالات في ذلك الخصوص. لكن المعلومات التي حصلت عليها مؤخَّرًا أدَّت إلى تغيُّر موقفي، وفهمت مدى صحة وصوابية موقف الأستاذ “فتح الله كولن” بخصوص تلك الحادثة.
- للوهلة الأولى ظهرت تركيا في صورة الدولة القوية، وزادت شعبيتها في الشرق الأوسط نتيجة حادثة “مافي مرمرة”، لكن بعد تلك الحادثة أخذت شعبية تركيا وثقلها السياسي في في التضاؤل، وفقدت كثيرًا من قيمتهما، خصوصًا بعد انقلاب العسكر على الحكم في مصر، وبعد المستجَدَّات في سوريا. بينما إسرائيل، على الرغم من انخفاض مستوى العلاقات الدبلوماسية بينها وبين تركيا، ظلت هي الكاسب في المجال التجاري، بل وأبرمت اتفاقيات مع قبرص الجنوبية وسيطرت على شرق البحر المتوسط وبدأت التنقيب عن النفط هناك. نتيجة لحادثة “مافي مرمرة”. لم تكسب تركيا شيئًا بل استمرَّت في الخسارة حتى أصبحت كلمتها في المنطقة غير مسموعة، وأصبحت في موضع الدولة التي لا يُحسَب لها أي حساب.
- عدل السيد “عبد الرحمن ديلي باك”، المحترف في وضع ادِّعاءات مثل “نظريات المؤامرة” عن فكرة المشاركة في قافلة “مافي مرمرة” في اللحظة الأخيرة، كما يدَّعي السيد عبد الرحمن أنه كان وراء تنظيم ما يسمَّى فعالية “ليلة القدس”، التي كانت من أهمّ حُجَج العسكر في أثناء قيامهم بإنقلاب 28 شباط. وأنه أيضًا عدل عن فكرة المشاركة فيها في اللحظة الأخيرة نتيجة “وعكة صحية ألَمَّت به”، إذ لم يشترك في قافلة “مافي مرمرة” على الرغم من كونه من أوائل المنظِّمين لها، بحجة أنه ذهب إلى اجتماع طارئ في منظمة (IHH) الخيرية التركية.
- لقد تَعرَّضت سفينة “مافي مرمرة” لاعتداء في المياه الإقليمية، حيث كانت سفينة استطلاعية وحربية من الأسطول البحري التركي تقوم بدورية ولم تتدخل، على الرغم من قربها من الموقع وسهولة التدخل لمنع الحادثة، أو كان بإمكانها إجراء عمليات الإخلاء على أقلّ تقدير.
- في تلك الليلة رُفِعَ علم جزر القمر على السفينة بدلاً من العلم التركي الذي كان يرفرف عليها قبل مغادرتها المياه التركية وفي أثناء اتجاهها نحو شواطئ غزة. في الواقع لو لم يُبدَل بالعلم التركي عَلَمُ جزر القمر لما تَعرَّضت سفينة “مافي مرمرة” للاعتداء، أو على أقل تقدير كان موقف تركيا سيصبح أقوى على الصعيد الدولي، إذ كان يمكن اعتبار الاعتداء على سفينة تحمل العلم التركي في المياه الإقليمية اعتداءً على الأراضي التركية. وباعتبار تركيا دولة ذات عضوية في الناتو، فيمكن اعتبار الاعتداء على تركيا اعتداءً على حلف الناتو، حسبما تنصّ المادة الخامسة الشهيرة من موادّ اتفاقية الانضمام إلى حلف الناتو، ومن ثَمَّ يمكن الردّ بالمثل على الدولة المعتدية من خلال حلف الناتو. ما دامت تفاصيل هذه المادة معروفة. إذًا لماذا أُزيلَ العلَم التركي من السفينة واستُبدِل به عَلَم جزر القمر؟ ألا يعني هذا أننا نزعنا بأيدينا حقَّ ردِّ الناتو على إسرائيل؟
- كما هو معروف أيضًا، تراجع 15 من نواب العدالة والتنمية عن قرار المشاركة في قافلة “مافي مرمرة” في اللحظة الأخيرة كما فعل السيد عبد الرحمن ديلي باك، مع العلم بأن النواب الـ15 كانوا قد حجزوا أماكنهم في السفينة قبل مدة. ولماذا تمنع إدارة حزب العدالة والتنمية أولئك النواب من ركوب “مافي مرمرة” بشكل مفاجئ ودون إبراز أي من المبرّرات، على الرغم من وجود 40 نائبًا برلمانيًّا أجنبيًّا على متن سفينة “مافي مرمرة”؟ وما الإجابة عن حقيقة وجود بعض ادِّعاءات من بعض الناس بخصوص أنه كان لدى حزب العدالة والتنمية معلومات مسبقة بأن السفينة ستتعرض لهجوم، لذلك منعوا نوابهم من ركوب سفينة “مافي مرمرة”؟ إذا كانت لدى حزب العدالة والتنمية معلومات مُسبَقة بأن السفينة ستتعرَّض لهجمة إسرائيلية، فلماذا منعوا نُوَّابهم فقط من ركوب السفينة وإرسال الناس البسطاء، الذين كان همّهم مساعدة المحاصرين في غزة، إلى التهلكة؟ هل كل ذلك ليجعلوا شخصًا ما بطلاً في نظر الناس؟
- في السفينة التي استُشهد فيها 9 من المواطنين الأتراك، لماذا لم يُتعرَّض للمواطنين من جنسيات أخرى أو يقتَلوا على الرغم من وجود عديد من المواطنين الأجانب في السفينة، واقتصر القتل على المواطنين الأتراك؟
“العلاقات بين إيران والقاعدة.. و (CIA) و(MI5)”
- بخصوص “مافي مرمرة” وماهيتها، وتبريرًا لموقف الأستاذ “فتح الله كولن” على وجه الخصوص، وموقف الخدمة بشكل عامّ، من قافلة “مافي مرمرة” التي كثيرًا ما استُثمرَت من أجل تشويه صورة الأستاذ فتح الله كولن والخدمة من خلالها، ننقل لكم هذه المعلومة الإضافية: بعد وقوع حادثة “مافي مرمرة” بفترة قصيرة يقوم الشخص المدعوّ بـ(ن. س) (S)، المعروف بموالاتها لإيران، بالسفر إلى إيران مع 26 شخصًا من المشاركين في قافلة “مافي مرمرة”. وهناك ضمّ رئيس الجمهورية الإيرانية الأسبق أحمدي نجاد كل واحد منهم إلى صدره. بالإضافة إلى ما سبق، زار “آية الله قائم مقامي” تركيا على رأس وفد في الأيام التي كانت تركيا تستعد لإرسال قافلة “مافي مرمرة” جديدة إلى قطاع غزة. وخلال برنامج زيارته في تركيا التقى آية الله الشخص المذكور المدعوّ بـ(ن. س)، ومن ثم شارك معه في مسيرة احتجاجية، لكن هذه المرة لم تسمح الحكومة التركية لانطلاق سفينة “مافي مرمرة” الثانية إلى غزة.
- كان في سفينة “مافي مرمرة” شخصان دوليان يعرفهما الجميع: عبد الحكيم بلحاج ومهدي الحراتي، وهما معروفان بارتباطهما بالقاعدة. بالنسبة إلى عبد الحكيم بلحاج فهو يأتي في مقدمة الثوار الذين حاربوا ضد نظام القذافي،كما كان بلحاج هذا قد حارب ضدّ أمريكا في أفغانستان وأسره الأميركان هناك. ولكن بعكس ما يحدث مع جميع الأسرى، أُرسِلَ عبد الحكيم بلحاج إلى ليبيا ليُسجَن هناك سبعة أعوام، ويُفرَج عنه بعد ذلك، ليصرِّح للصحف الأجنبية عبر وثائق وأدلَّة بأنه يتعامل مع (CIA) ومع المخابرات البريطانية المعروفة بـ(MI5). أما بالنسبة إلى مهدي الحراتي، ففي أثناء مشاركته في قافلة “مافي مرمرة” تُنزِله السلطات الإسرائيلية من السفينة وتفكّ أسره مباشرة، بحُجَّة أنه يُعاني ارتفاع نسبة السُّكَّر في الدم. وبعد الحرب الداخلية الليبية يدخل أحد اللصوص إلى منزل الحراتي ليسطو على منزله، وإذا به يجد كمية كبيرة من المصوغات ومبالغ نقدية تقدَّر بـ200.000 يورو. ويدّعي مهدي الحراتي أن تلك الأموال قدّمَتها له المخابرات الأمريكية ليستخدمها في ليبيا. وما نستخلصه مما سبق هو حقيقة وجود شخصين إرهابيَّين مطلوبَين على مستوى العالَم، وأنهما يعملان لصالح المخابرات الأمريكية والبريطانية.
بإمكان السيد فهمي كورو؛ الكاتب الصحفي الشهير في جريدة “ستار” الموالية للحكومة، أن يكشف النقاب عن هذه الحقائق المذكورة، إلى جانب حقائق أخرى تتعلق بعلاقات سرية للغاية بين تركيا وإسرائيل، وذلك عن طريق دراسة “سيبل إدموندز”، التي عملت لفترةٍ لدى (FBI) كمترجمةٍ من وإلى اللغات الإنجليزية والتركية والفارسية والأذربيجانية، والتي تطرّق إليها السيد كورو في عدة مقالات كتبها في وقت سابق.
من خلال هذه الحقائق سالفة الذكر، وبالإضافة إلى حقيقة المنافسة بين إيران وتركيا، وحقيقة إسقاط سوريا الطائرة التركية، والهجمة الإرهابية الغاشمة في الريحانية التابعة لولاية هاتاي المتاخمة للحدود السورية، وقتل قوّاتنا الجوية 34 مواطنًا تركيًّا من أصول كردية في “أولو دره” نتيجة المعلومات الخاطئة المقدَّمة من المخابرات التركية، طبعًا ما لم يثبت عكس ذلك، وحقيقة تصريحات السفير الإيراني بيكدلي بخصوص علاقات التعاون الوثيق بين جهازي مخابرات البلدين.. نعم من خلال هذه الحقائق، يمكن للجميع معرفة حقيقة ما يجري في بلادنا من أمور غامضة مثل حادثة “مافي مرمرة”وما أشبهها من حوادث أخرى. لذلك لا أتمالك نفسي من طرح الأسئلة الآتية:
- هل العلاقات الوطيدة بين المخابرات التركية (MIT) والموساد لا تزال مستمرة أم توقفت، بعد أن بلغت ذروتها في فترة انقلاب “28 شباط” العسكري عام 1997.
- أو هل كانت إيران والدول المتعاونة معها، وأعضاء تنظيم القاعدة المرتبطون مع جهازي (CIA) الأمريكي و(MI5) البريطاني هي من “اصطنعت” حادثة “مافي مرمرة” بغية الدفع بتركيا إلى العزلة في المنطقة، ومن ثم إنهاء نفوذها وتأثيرها نهائيا، عن طريق إجبارها على الصراع مع إسرائيل.
- أو هل كانت “مافي مرمرة” عبارة عن محاولة خلق أرضية من أجل اختلاق حادثة “دقيقة واحدة” جديدة في سبيل تلميع صورة حكومة حزب العدالة والتنمية إلى أقصى الحدود الممكنة ضمن المخططات الأمريكية الموضوعة لتنفيذها في منطقة الشرق الأوسط؟ أم ماذا كانت حادثة “مافي مرمرة” في الحقيقة؟!
—