بقلم: ماهر المهدي
(زمان التركية)ــ هكذا مضت شهور طويلة في بغداد تعقبها شهور أطول، وكلما حاصرني الخوف أو الملل، عرجت وبعض الزملاء على بعض محال الملابس الرجالي في شارع جعفر المنصور، حيث الكثير من الموديلات الحديثة والأسعار الجيدة، فنتسوق، كل على ذوقه ووفق مراده، ومن بعد التسوق نتناول بعضا من عصائر طازجة من أحد المحال القريبة ونشتري السمك المسكوف الشهير لنعود به راضين إلى بيوتنا.
أما المعتاد من المشتروات فكنا نقصد فيها مصريا طيبا كان يقيم في بغداد منذ سنوات بعيدة، حتى أصبح الكل يعرفه ولا يمنعه تفتيش من المرور في أية وقت إذ لا ضرر منه ولا اشتباه فيه. وقد عاصر الحاج مصطفى سقوط بغداد، وحكى أنه رأي بعيني رأسه الناس يقتحمون البنك المركزي في بغداد ويحملون المال في اجولة ويفرون. كما حكى أن بعص من العراقيين دعوه للدخول معهم إلى البنك وحمل ما يشاء لنفسه، إلا أنه رفض رفضا صريحا للدعوى وللاعتداء على البنك، رغم حاجته إلى المال.
وقد تواترت القصص الكثيرة عمن قبض عليهم محملين باجولة الدولارات، وحكى الحاج مصطفى كيف أن رفضه مشاركة اللصوص في نهب البنك عزز عزز قدره بين العراقيين، فصاروا يوقرونه أكثر وأكثر، فكم كان رجلا طيبا شجاعا في جني رزقه أمينا في مسلكه.
وكان الحاج مصطفى ملما بحكايات وقصص مثيرة مما كان يدور في بغداد في من أعمال العصابات على ما يبدو، ولكنه لم يكن ليتكلم عن شىء، سوى خدماته البسيطة التي يمكن أن تدر عليه قليلا من المال يعين به أسرته.
وكان من السهل أن يستشف المرء ذلك من كلمات الرجل، وما كان أغنى المرء عنها وعما يحيق بها من خطر، فقد بدا واضحا أن الجو جد خطير ومعبء بأشكال العصابات وأصناف الجماعات المسلحة ذات الانتماءات المتباينة والأهداف المتضاربة المتسقة المتناغمة أحيانا، الأمر الذي لم يخطر لي على بال من قبل، فلما استقر في روعي هذا الانطباع، صرت أحي السيدة العراقية سكرتيرة المكتب بتحية خاصة كل صباح: عاش من شافكم، عاش من شافكم. وبعد فترة، انتبهت السكرتيرة الى تحيتي الصباحية الخاصة متسائلة: أستاذ ليه عاش من شافكم كل يوم، ألست مقيما في بغداد ونراك كل يوم؟ اجبت نعم، ولكن بنهاية عمل كل يوم قد لا يرى الناس بعضهم في اليوم التالي بكل بساطة في هذا الجو الخطير. فعقبت السكرتيرة بقولها: أستاذ، ولكنك سوف تغادر العراق يوما، فماذا عمن هو باق فيه؟