بقلم: ياوز أجار
بروكسل (زمان التركية) – يعلم المتابعون أنني أحاول منذ عام 2011 تسليط الأضواء على الدولة العميقة في تركيا وطوائفها الثلاث والفرق المتفرّعة عنها، التي لا تعد ولا تحصى، من أجل الكشف للقارئ العربي عن المقومات الخفية التي توجه السياسة الداخلية والخارجية التركية، ذلك لأنه لا يمكن تقديم قراءة صحيحة للأحداث التي نشهدها اليوم والتي سنشهدها في المستقبل القريب من دون معرفة كافية لهذا الكيان وأذرعه الأخطبوطية.
لقد تحدثت كثيرًا عن طائفة الأطلسيين المرتبطين بحلف شمال الأطلسي الناتو والأوراسين المرتبطين بروسيا والصين في مقالاتي السابقة، ولكن لم أتطرق إلى الكيان العميق الآخر الذي بدأ رجب طيب أردوغان في تأسيسه مع طائفة من الإسلامويين بشكل سري اعتبارًا من منتصف تسعينات القرن المنصرم على أنقاض كيان إسلاموي مرتبط بالجناحين الأمريكي والبريطاني للناتو إلا كجملة معترضة لا تقدم رؤية شاملة تكفي لاستيعاب ماهيته وأبعاده وآلياته المختلفة. لذلك سأسعى في هذا التقرير إلى الكشف عن هذا الكيان بجذوره التاريخية وفروعه الحالية والصراع السائد بينه وبين طائفتي الأطلسيين والأوراسيين.
حمل صيغة بي دي أف للاطلاع على المصادر
حمل صيغة وورد للاطلاع على المصادر
إن الدولة العميقة بطوائفها الثلاث الرئيسية وفرقها المختلفة تشكِّل وتنظِّم نفسها داخل كل جهاز رسمي ككيان مستقل أو موازٍ لهذا الجهاز، لذا نرى دائمًا أن هناك استخباراتٍ سريًّا داخل جهاز الاستخبارات الظاهر، وأمنًا سريًّا داخل جهاز الأمن الظاهر، وقضاءً سريًّا داخل جهاز القضاء الظاهر، وجيشًا سريًّا داخل الجيش الظاهر.. وهي تستطيع أن تبقى الكيانَ الأعلى الذي يسيطر على الدولة الظاهرة بفضل هذه الكيانات السرية الموازية التي تؤسسها داخل كل مؤسسة رسمية بعيدًا عن القوانين والدستور، وعلاقاتها الغامضة مع المعسكر الغربي بقيادة أمريكا وبريطانيا حينًا والمعسكر الأوراسي بقيادة روسيا والصين حينًا آخر.
الدولة العميقة لها أوجه وأقنعة أو كوادر مختلفة للغاية تُبْرِز إحداها إلى الواجهة وتهمل الأخرى تبعًا للأداء والتيار الصاعد ومفهوم العدو والتهديد في الزمن المعيش الذي تحدده وفق أهدافها ومصالحها، بالإضافة إلى الظروف الإقليمية والدولية، وبالتالي تُبْرِز الكوادر الناجحة التي تتماشى مع هذا التيار الصاعد ومفهوم العدو والتهديد لكل مرحلة. فهي ظهرت بقناعها “الأطلسي” بين الفترة من أربعينات القرن المنصرم حتى الثمانينات، وتعاملت مع كوادر منحدرة من “التيار القومي المحافظ” عندما حددت الاتحاد السوفيتي الشيوعي “عدوًا” وأطماعه التوسعية “تهديدًا” لنفسها؛ وظهرت بقناعها “الأوراسي” بين الفترة من الثمانينات حتى الألفية الجديدة، وتعاملت مع كوادر تنتمي إلى “التيار القومي الكمالي العلماني المتطرف” عندما حددت “الرجعية الدينية” أو الإسلام عدوًا وتهدديدًا بعد زوال الخطر والتهديد الأول.
لكن ما لا يعلمه معظم المهتمين بالشأن التركي أن الكيان الأعلى للدولة العميقة فتح “قناة” داخل أجهزة الدولة وسمح بنشوء ونموّ جناح ثالث عبرها منذ الخمسينات يتكون أعضاؤه ممن ينتمون إلى “الإسلام السياسي” لكي يستخدمهم عند الحاجة إليهم. مع أن هذا الجناح اضطلع بأدوار مختلفة منذ نشأته الأولى ومراحل تطوره الطويلة لكن دوره الأبرز بدأ يظهر في التسعينات رويدًا رويدًا، ومن ثم بلغ الذروة اعتبارًا من الألفية الثالثة، إلى أن سيطر عليه أردوغان وغير شكله ومساره بالكلية بعد إقصاء الفرق المختلفة معه.
يجب أن نلفت ونحن نتناول هذا الموضوع بالغ الخطورة إلى نقطة مهمة للغاية لمنع سوء الفهم والتفاهم وهي أن ما قلنا أعلاه لا يعني أن كل من ينتمي إلى إحدى هذه الطوائف (الأطلسية والأوراسية والإسلاموية) وفرقها المختلفة هو مِنْ عناصر أو رجال الدولة العميقة. بل مهمة الكيان الأعلى للدولة العميقة تتمثل في استغلال وتوظيف أي فكر وأي شخص وأي نوع من الكوادر في إطار أهدافه ومصالحه. فهو يوجه مسار الأحداث ويسيطر على الأفكار وقادتها البارزين باحترافية فذة من خلال رجاله الذين ينشرهم حولهم بصورة طبيعية وآلته الإعلامية المتنوعة للغاية على نحو لا يشعرهم بذلك. بمعنى أننا لا نتهم كل من له علاقة بهذه الطوائف الثلاث بسوء النية والخيانة على الإطلاق، بل كثير منهم لا يشعرون بأنهم أصبحوا أداة من أدوات هذه الدولة العميقة، بل يظنون في كثير من الأحيان أنهم يخدمون لوطنهم وشعبهم، وعندما يشعرون بذلك يصابون بخيبة أمل كبيرة ويحاولون الانفلات من أذرع هذا الأخطبوط إن لم يفُتِ الأوان ولم يقدموا له بأيديهم أوراقًا يستحيل معها الانفصال عن أذرعه. خير مثال على ذلك الاعترافات المثيرة التي أدلى بها بعض القوميين المحافظين من أمثال الكاتب المرموق ممتازر توركانه واليساريين الاشتراكيين القدماء من أمثال الكاتبين الألمعيين شاهين ألباي وجنكيز شاندار الذين انفصلا عن جريدة “أيدينليك” الأوراسية التابعة لزعيم حزب الوطن دوغو برينجك.
مجرد النية الخالصة لا يكفي تحصيل النتائج المرجوة إن لم نضع إستراتيجية شاملة لكل المحطات التي سنمر بها حتى وصولنا إلى المكان المرغوب في المحطة الأخيرة. كما أنكم إذا سلكتم طريقًا فإنكم ستتجهون إلى الجهة التي حددها من شقّه وتصلون إلى المكان الذي عيّنه في نهاية المطاف، كذلك إذا بدأتم السير في الطريق الذي شقّته الدولة العميقة بالتعاون مع حلفائها الإقليميين والدوليين فإنكم سوف تتحولون إلى أداوات ووسائل تحقق أهدافها الإستراتيجية، ولن يبقى لكم في النهاية إلا التعب والرهق وتحطيم أحلام التابعين لكم. أما الموقف الصحيح في هذا الصدد فهو أن تضعوا أنتم المشروع وتحددوا أنتم بدايته ونهايته ووسطه وفقًا في إطار القيم التي نؤمن بها.
1) الجذور التاريخية للإسلاموية في تركيا
يمكن إرجاع الجذور التاريخية للإسلاموية في تركيا إلى أواخر الدولة العثمانية. فبالتزامن مع ظهور النزعات والثورات القومية لبعض القوميات كاليونان والبلغار والعرب، تركت “الأيديولوجية العثمانية”، التي كان بتبناها العثمانيون، موقعها لـ”الإسلاموية”، لكي يستخدموها مثل الغراء الذي يربط بين القوميات المختلقة على أساس الإسلام ويحافظوا بذلك على أراضيهم المنتشرة في منطقة شاسعة جدا وولاء الأقوام القاطنين فيها لهم.
ومع أن السلطان عبد العزيز الذي استمر حكمه من 1861 إلى 1876 يعتبر مؤسس الإسلاموية في العهد العثماني، إلا أن عبد الحميد الثاني هو الذي تبنى وطبق الإسلاموية كسياسة للدولة وحاول إحياء الخلافة الإسلامية تجاه الحركات الانفصالية والتهديدات الخارجية. وهذا هو سبب الحب المفرط الذي يكنّ له الإسلاميون الحاليون بقيادة أردوغان بحيث ينشرون أيديولوجيتهم من خلال مسلسل “عبد الحميد الثاني” إلى جانب مسلسل “قيامة أرطغرل”، بصرف مبالغ خيالية من الأموال.
وقد وجدت الإسلاموية مساحة شاسعة لنفسها خاصة بعد إعلان المشروطية الثانية في 24 تموز 1908، حيث تعرّف الشعب لأول مرة على مفاهيم مثل الديمقراطية البرلمانية، والانتخابات، والحزب السياسى، وأمثالها من المفاهيم الحديثة. لكن مع سقوط الدولة العثمانية وقيام الجمهورية التركية في 1923 على مبادئ “القومية التركية” و”العلمانية” على يد مصطفى كمال أتاتورك، اضطر الإسلاميون للانسحاب من الساحة والاختفاء ومواصلة أنشطتهم ضمن الجماعات والطرق الإسلامية بعيدًا عن أعين الحكومة الكمالية العلمانية حتى عام 1946، حيث انتقلت تركيا إلى النظام متعدد الأحزاب لأول مرة، تماشيًا مع سياسات “الحداثة” و”العصرنة” أو بأصحّ العبارة خضوعًا للضغوطات الأمريكية والأوروبية بدلاً من الشعور بالحاجة إليه دولة وشعبًا.
ومع انضمام تركيا إلى حلف شمال الأطلسي في 1952 وتطور علاقاتها مع “المجموعات الأوروبية” (الاسم القديم للاتحاد الأوربي)، بدأ الإسلامويون يعودون إلى الحياة الاجتماعية والسياسية مجددًا. وقد تأسس أول حزب إسلامي في 1951 تحت اسم “الحزب الإسلامي الديمقراطي” على يد الكاتب والسياسي جواد رِفْعَتْ عَطِلْهانْ المعروف بخطابه المعادي لليهودية، لكنه أُغلق بعد سنة واحدة بدعوى صلته بمحاولة اغتيال سياسية فاشلة استهدفت الكاتب والصحفي أحمد أمين يالمان المعروف بمعارضته الشديدة لما سماه “الرجعية الدينية”.
والملفت أن التحقيقات الخاصة بالحركة المالية لمنفذ محاولة الاغتيال الطالب في مدرسة دينية في ذلك الوقت حسين أوزمَزْ كشفت أن له صلة بمنظمة إيرانية تحت اسم “فدائيي الإسلام”، بالإضافة إلى أنه تلقى مساعدات مالية من جماعة الإخوان المسلمين في مصر، كما كشف عن ذلك الكاتب والصحفي المخضرم محمد علي بيراند الراحل في برنامجه التلفزيوني الشهير (اليوم الثاني والثلاثون). وهذه الصلة بين إسلاميي تركيا وإيران ومصر ملفتة للنظر تساعدنا على فهم أبعاد العلاقات الدولية بين الإسلاميين.
يعتبر الحزب الإسلامي الديمقراطي الأبَ الروحي لكل من أحزاب “النظام الوطني” و”السلامة الوطني” و”الرفاه” و”الفضيلة” و”السعادة” الإسلاموية التي أسس جميعها نجم الدين أربكان، وحزب العدالة والتنمية الذي أسسه أردوغان.
كانت فلسفة هذا الحزب تقوم على عنصرين أساسيين وهما: الديمقراطية ومعاداة اليهودية، وهو يقسّم الديمقراطية إلى غربية وشرقية، ويزعم أن الديمقراطية الغربية تقع تحت سيطرة اليهود وتخدم مصالحهم وأهدافهم وهم يحكمون العالم كله عن طريق هذه الديمقراطية. أما الديمقراطية الشرقية أو الإسلامية فهي تقوم على الشورى وتدعو إلى إحياء الخلافة لجمع كل الشعوب الإسلامية تحت راية واحدة. وهذه هي الفلسفة الأساسية التي يتبناها جميع الإسلاميين على طول العالم الإسلامي وعرضه.
وبعد حلّ الحزب الإسلامي الديمقراطي انتقل الإسلاميون المعتدلون منه إلى الحزب الديمقراطي الذي أسسه عدنان مندريس القومي المحافظ، غير أن المتطرفين منهم بحثوا عن مسار آخر للتعبير عن أنفسهم ومواصلة أنشطتهم السياسية وفق رؤيتهم.
2) مشروع الحزام الأخضر الأمريكي
ثم دخلت الولايات المتحدة الساحة السياسية عقب الحرب العالمية الثانية، بعدما عانت المنطقة قرنًا كاملاً من تبعات سياسة بريطانيا التي أعادت رسم حدودها بالمسطرة للسيطرة على آبار النفط والتجارة والطرق المائية. وفي أوائل الخمسينيات خلال الحرب الباردة وضعت الولايات المتحدة أولى الخطوات لـ”نظرية الحزام الأخضر” القائمة على فكرة “جعل الإسلام درعًا ضد الشيوعية”، أي إبراز الإسلام في مواجهة الشيوعية، في جميع الدول الإسلامية، بهدف تطويق المعسكر الاشتراكي بحزام إنتاج رأسمالي من الغرب وبحزام إسلامي من الجنوب، ومنع روسيا من الوصول إلى المياه الدافئة.
بعد انضمام تركيا إلى الناتو في 1952 وتأسيس منظمة “غلاديو” التركية داخل الجيش التركي بشكل سري على أيدي الأطلسيين المنتمين إلى القومية التركية المحافظة، رأى الناتو ضرورة فتح مجال أو ذراع إسلاموي داخل الدولة، وذلك انطلاقًا من أن الاعتماد على القوميين الأتراك فقط يمكن أن يشكل مصيبة على تركيا ذاتها من جانب، ويثير القومية العربية ويدفع شعوب المنطقة إلى الوقوع تحت السيطرة السوفيتية من جانب آخر. لذا بدأ يضع اللبنات الأساسية لكيان إسلامي في كل أجهزة الدولة اعتبارًا من عام 1960، باعتباره مشروعًا رسميًّا تولى تنفيذه رئيس الأركان الثاني عشر (4 أغسطس 1960 – 16 مارس 1966)، ورئيس الجمهورية الخامس (1966 – 1972) جودت صوناي. وقد قال في خطاب ألقاه في عام 1968: “لقد تحولت المدارس العلمانية إلى أوكار تنشر الفوضى والإرهاب.. لا يمكن إسناد مهمة إدارة هذه البلاد إلى هؤلاء الشباب الذين نشأوا في تلك المدارس. هؤلاء من سيمسكون بزمام الحكم بعد عشر سنوات، لكن كيف يمكننا الاعتماد عليهم والثقة فيهم؟ لذا فإننا سنفتتح مدارس الأئمة والخطباء كبديل عن المدارس العلمانية، وسنقوم بتنشئة الأشخاص الذين سنضعهم في مفاصل الدولة الحساسة في مدارس الأئمة والخطباء هذه”.
أما في الساحة الدولية فقد أسست الولايات المتحدة وموّلت “حلف بغداد” الذي ضم أولا تركيا والعراق، ثم انضمت إليه إيران وباكستان وبريطانيا، في إطار مشروع الحزام الأخضر، إلا أن العراق ما لبث أن انسحب من الحلف عقب الانقلاب الذي شهده في عام 1959 ليتعرض المخطط الأمريكي للانقطاع فترة من الزمن.
بالتزامن مع الرياح التي أثارها مشروع الحزام الأخضر الأمريكي، بدأ الإسلاميون يظهرون في الحياة السياسية بشكل أقوى اعتبارًا من نهاية الستينات، كما هو الحال في البلدان الإسلامية الأخرى، حيث انخرط نجم الدين أربكان في السلك السياسي عندما انتخب عضوا برلمانيا مستقلا عن مدينة قونيا في 1969، رغم أنه حصل على الدكتوراه من جامعة “آخن” الألمانية في هندسة المحركات عام 1956. ثم أسس أربكان في 17 يناير 1970 “حزب النظام الوطني” مع 17 من زملائه، ليصبح ثاني حزب ذي توجه إسلامي منذ تأسيس الجمهورية، لكن قبل أن يمضي عامٌ على تأسيس حزبهم بادرت المحكمة الدستورية في 20 مايو 1971 إلى حله أيضًا، بدعوى مزاولته أنشطة مخالفة للعلمانية، بعد إنذار قائد القوات الجوية في ذلك الوقت محسن باتور.
أربكان غادر بعد ذلك تركيا إلى سويسرا، ثم عاد إلى البلاد مرة أخرى قبل إجراء الانتخابات العامة في 1973. وسيقت عديد من الادعاءات فيما يتعلق بقرار عودته إلى تركيا، منها أن الجنرالين محسن باتور وطرغوت سونالب من أعضاء شعبة التعبئة التكتيكية / العمليات الخاصة (منظمة غلاديو الأطلسية) أقنعاه بالرجوع إلى تركيا بهدف تقسيم أصوات حزب العدالة بقيادة سليمان دميريل وإقامة توازن بين الأحزاب السائدة في البلاد. فقد زعم الكاتب والصحفي المعروف بمؤلفاته حول الدولة العميقة فاروق أرسلان أن الجنرال سونالب أجبر أربكان على العودة إلى تركيا بطائرة خاصة، بعدما كان يدرّس في إحدى الجامعات السويسرية، وكلفه بقيادة “الإسلام السياسي” وتأسيس الرؤية الوطنية (ملي جوريش)، من أجل السيطرة على الطرق الصوفية والجماعات الإسلامية في البلاد، بغضّ النظر عن النية الأساسية لأربكان.
بعد العودة إلى تركيا أسس أربكان في 11 أكتوبر 1972 “حزب السلامة الوطني” مع الكوادر ذاتها التي أسست حزب النظام الوطني السابق، وحصل على 12% من أصوات الناخبين ليتمكن من إرسال 48 مرشحًا إلى البرلمان في انتخابات 1973، ويصبح شريك الحكومة الائتلافية مع حزب الشعب الجمهوري برئاسة بولند أجاويد في مطلع عام 1974.
حاول أربكان فرض أجندته الإسلامية على هذه الحكومة، حيث نجد أنه تقدم إلى البرلمان بمشروع ينص على تحريم الماسونية في تركيا وإغلاق محافلها، وأسهم في تطوير العلاقات مع العالم العربي، وأظهر مواقف مؤيدة للشعب الفلسطيني ومعادية لإسرائيل، غير أن ذلك اقتصر على المستوى الخطابي في كثير من الأحيان، واستمرت العلاقات الإستراتيجية معها في عهده دون أي انقطاع.
إلا أن هذه الحكومة تلاشت في 17 سبتمبر 1974 بسبب الخلاف بين أربكان وأجاويد حول عملية جزيرة قبرص، التي جاءت ردًا على دعم المجلس العسكري اليوناني للانقلاب على نظام الحكم في قبرص، وانتهت بانتصار القوات التركية، بعد استقرار حوالي 35 أو 40 ألف جندي تركي في شمال الجزيرة، الأمر الذي أدى إلى سقوط المجلس العسكري اليوناني بعد ثلاثة أيام، ومن ثم إعلان استقلال جمهورية شمال قبرص التركية الحالية في 15 نوفمبر 1983. فقد كان أربكان يدافع عن ضرورة السيطرة على الجزيرة كلها؛ بينما احتاط أجاويد في ذلك خشية اعتراضات دولية. وقد وصفت كل من جمهورية قبرص اليونانية واليونان والأمم المتحدة والمجلس الأوروبي هذه العملية بالاحتلال، فضلاً عن أن الولايات المتحدة اتخذت قرارا بحظر بيع السلاح لتركيا في فبراير 1975.
ثم انضم حزب السلامة الوطني في مارس 1975 إلى حكومة الجبهة القومية الأولى التي شكلها “حزب الحركة القومية” و”حزب الثقة الجمهوري”، ليصبح أربكان نائب رئيس الوزراء مجددًا. وكذلك احتفظ بمنصبه هذا في حكومة الجبهة القومية الثانية التي تشكلت في يوليو 1977 بين أحزاب “العدالة” و”الحركة القومية” والسلامة الوطني.
وفي العام نفسه شهدت الساحة الدولية قيام زبيغنيو بريجنسكي، مستشار الأمن القومي لرئيس الولايات المتحدة جيمي كارتر، بتطوير “مشروع الحزام الأخضر” في ضوء الظروف الجديدة، ليستمروا في توظيف الإسلام السياسي وممثليه في الدفاع عن المصالح الغربية بقيادة أمريكا وبريطانيا ومنع الاتحاد السوفيتي من النشاط في الخليج الفارسي الغني بالنفط. وقد كانت البداية في كل من إيران ومصر، حيث دعمت الإستراتيجية التى صاغها بريجينسكي مشروع الإطاحة بشاه إيران وسهلت الطريق أمام وصول الإمام الخميني إلى السلطة نظرًا لتمتعه بقواعد جماهيرية واسعة تستطيع كبح جماح الحركات اليسارية والتمدد السوفيتي. وكذلك الأمر بالنسبة لمصر، حيث عقد الرئيس محمد أنور السادات (فترة الحكم 1970 – 1981) تحالفات مع التيار الإسلامي، وعلى وجه الخصوص الإخوان المسلمين، اقتداء بالسياسة الأمريكية أو مشروع الحزام الأخضر.
أما في الداخل التركي، فقررت أمريكا كسر نفوذ القوميين المحافظين (الأطلسيين) لتبادر إلى إظهار الإسلام على سطح المشهد السياسي عن طريق الجنرال عدنان تانري فردي في الجيش، ونجم الدين أربكان في السياسة، بعد أن كان الكيانُ الأعلى للدولة العميقة وضعهم في الواجهة منذ الخمسينات حتى الثمانينات من القرن المنصرم.
وقد أخذت المليشيات شبه المسلحة المتكونة من التشكيلة الشبابية التابعة لحزب السلامة الوطني دورًا كبيرًا في الصراع المسلح بالشوارع بين الشيوعيين واليساريين والإسلاميين واليمينيين في الثمانينات، وساهمت بذلك في انتشار الفوضى والشغب في البلاد. واتهمته اليسارية الكردية بالسعي للحصول على رضا جنرالات انقلاب 12 مارس 1971، بسبب مشاركته في حكومتي الجبهة القومية الأولى والثانية.
في عام 1980 قدم أربكان مشروع قانون لمجلس النواب يطالب الحكومة بقطع علاقاتها مع إسرائيل، ومن ثم نظم حزبه في 6 سبتمبر 1980 مظاهرة كبيرة ضد القرار الإسرائيلي بضم مدينة القدس، الأمر الذي اعتبره الجيش، حامي النظام التقليدي في البلاد، القشة الأخيرة التي قصمت ظهر البعير، واستغلها رئيس الأركان العامة في ذلك الوقت كنعان أفرين كذريعة لإجراء انقلاب عسكري والإطاحة بالحكومة واتخاذ قرار بتعطيل الدستور وحل الأحزاب واعتقال الإسلاميين إلى جانب اليساريين. وكان أربكان دخل السجن مع 21 من زملائه في 15 أكتوبر 1980 بتهمة “أنشطة رجعية مخالفة للعلمانية” و”السعي لإقامة دولة الشريعة”.
وخارجيًّا، أدى الاحتلال الروسي لأفغانستان في عام 1978، إلى توسع الأنشطة الأمريكية التي امتدت حتى الدخول إلى جمهوريات آسيا الوسطى عن طريق الإسلام ومن خلال إنتاج “الترياق الأخضر ضد الخطر الأحمر”، كما كان يقال في ذلك الوقت.
3) صعود التيار الإسلامي
مشروع الحزام الأخضر الأمريكي الذي أخذ زخمًا جديدًا مع بداية الثمانينات لم يساهم بشكل أساسي في انهيار الاتحاد السوفيتي، بل على العكس من ذلك وضعت أسس الإسلام الراديكالي الذي سببّب مشاكل للولايات المتحدة بل للعالم أجمع. حيث إن طالبان والقاعدة وحركة الشباب، التي كلفت الولايات المتحدة المخابرات الباكستانية بتأسيسها، في إطار نظرية الحزام الأخضر، وكذلك حزب الله في تركيا، تحولت فيما بعد إلى كوارث مسلطة على العالم كله.
ولما وقعت الثورة الإيرانية التي أطاحت بالشاه، الحليف الأكبر للولايات المتحدة في إيران، على يد الإمام الخميني، انفجرت نظرية الحزام الأخضر فجأة بين يدي الولايات المتحدة، مما أثار ذرعًا كبيرًا لدى واشطن وحملها على الدفع بالعراق إلى مهاجمة إيران وتخريب كل التوازنات في المنطقة.
أ) صعود حزب أربكان مع ثورة الخميني
وبالتزامن مع لمعان نجم الإسلام السياسي بشكل غير مسبوق عقب الثورة “الإسلامية” في إيران، خرج أربكان من السجن في 24 يوليو 1981 في عهد حكومة طرغوت أوزال، وواصل حياته السياسية هذه المرة من خلال “حزب الرفاه” الذي أسسه في 19 يوليو 1983 وترأسه في البداية المحامي علي توركمان، لينتخب أربكان رئيسًا عامًّا للحزب في 11 أكتوبر 1987، بعد رفع حظر ممارسة السياسة المفروض عليه، وعضوًا برلمانيًّا من مدينة قونيا مرة أخرى في انتخابات 1991.
ومن جهة أخرى، اتجه الكيان الأعلى للدولة العميقة إلى إبراز الأوراسيين في المشهد الساسي اعتبارًا من التسعينات، على وجه الخصوص، لإقامة توازن بين التيار العلماني والإسلامي الصاعد ومنع خروج الإسلاميين من السيطرة. ومن اللافت أن حزب الرفاه، بالتزامن مع إقامة مؤتمره العام الرابع في 1993، بدأ يضمّ أعضاءً من ضباط وجنرالات سبق أن توظفوا في شعبة التعبئة التكتيكية / العمليات الخاصة، التي أسسها الأطلسيون القدماء ثم ورثها منهم الأوراسيون، وكذلك في المخابرات الوطنية. وقد فسر بعض أعضاء الحزب هذا التطور بأن تنظيم “كونتر غريلا” أو “الغلاديو التركي”، الاسم الذي كان يطلق على الدولة العميقة الأطلسية آنذاك، بدأ يسيطر على حزب الرفاه أيضًا.
حركة “ملّي جوريش” الإسلامية بقيادة أربكان حققت أكبر انتصار لها طيلة تاريخها السياسي عندما تبوأ حزب الرفاه المرتبة الأولى بين الأحزاب في انتخابات ديسمبر 1995، بعدما حصد أصوات 21.37 بالمئة من الناخبين، وحصل على 158 من أصل 550 مقعدًا في البرلمان. مع ذلك فإن أربكان لم يستطع تأسيس الحكومة في البداية، بسبب ضغوطات العسكر والأطراف العلمانية المتطرفة، ليتولى حزبا الطريق القويم والوطن الأم مهمة تشكيل حكومة ائتلافية. لكن عمر هذه الحكومة لم يستمر طويلاً، فتحالف أربكان في يونيو 1996 مع حزب الطريق القويم برئاسة تانسو تشيلر، وشكل حكومة ائتلافية معها ليصبح لأول مرة رئيس الوزراء في 28 يونيو 1996، وتصبح تشيلر نائبته ووزيرة الخارجية في الوقت ذاته.
من أهم الأحداث التي شهدتها تركيا في عهد أربكان، تلك التي سميت بـ”فضيحة سوسورلوك” التي تكشفت فيها لأول مرة الدولةُ العميقة الأطلسية للرأي العام بعد حادثة مرور في نوفمبر 1996 تعرضت لها سيارة كانت على متنها شخصيات مهمة من رجال الدولة وعالم السياسة والمافيا، وذلك على يد الأوراسيين الموالين لروسيا والصين في إطار الصراع السائد بينهما منذ عشرينات القرن الفائت. لكن أربكان تعرض لانتقادات شديدة، خاصة من قبل الأكراد والليبراليين، لمحاولته الحد من أهمية الحدث، ووصْفه الادعاءات المتعلقة بالدولة العميقة بـ”القيل والقال”، و”الإشاعات” و”الكلام التافه”، وعدم أخذ زمام المبادرة للكشف عن ذلك التنظيم، بالإضافة إلى استهزاء وزير العدل شوكت كازان من المواطنين الذين شاركوا في تظاهرة “دقيقة ظلام من أجل نور دائم” من خلال إطفاء الأنوار في منازلهم كل مساء بعد فضيحة سوسورلوك مطالبين بإجراء تحقيق شامل يزيح الستار عن كل أبعاد هذه الدولة العميقة وعلاقاتها.
حكومة أربكان قدمت أداء جيدًا في السنة الأولى بحيث حققت تركيا خلال عام واحد (1996 – 1997) نموًّا اقتصاديًّا بلغت نسبته 7.5%. وطغى على حكم أربكان خلال أقل من عامٍ النزعة الإسلامية كما هو منتظر. إذ نرى أنه حاول الانفتاح بعمق على العالم الإسلامي، من خلال زيارات مثيرة بدأها بليبيا وإيران. واستقباله من قبل الرئيس الليبي معمر القذافي في مخيمه المعروف أثار ضجة كبيرة بين الأوساط العلمانية في تركيا، واتهموه بتحويل مسار البلاد من “العالم المتحضر” إلى “دول المخيمات” أو “دول الأعراب”، على حد تعبيرهم. كما أن الإعلام العلماني والإسلامي أشعلا نقاشًا حادًّا بين المبادئ العلمانية الأتاتوركية للدولة وبين الشريعة الإسلامية، وشهدت تركيا من حين لآخر تظاهرات ضد الحكومة استخدمت خلالها هتافات من قبيل: “لن تصبح تركيا إيران؛ لن تتحول تركيا إلى نظام الملالي”.
ومن الإنجازات المهمة التي حققها أربكان وأثارت حفيظة العلمانيين المتشددين أيضًا تشكيله في 1997 “مجموعة الدول الثماني الإسلامية النامية” التي ضمّت -إلى جانب تركيا- أكبر سبع دول إسلامية: إيران وباكستان وإندونيسيا ومصر ونيجيريا وبنغلاديش وماليزيا، التي يبلغ عدد سكانها مليار نسمة، أى ما يوازي 14% من سكان العالم.
وعلى الرغم من أن أربكان حاول عدم استفزاز المؤسسة العسكرية الحساسة في قضية العلمانية والسياسة الخارجية، وسعى للتماشي معها بالحفاظ على العلاقات مع إسرائيل، إلا أن ذلك لم يشفع له في حماية حكومته من مواجهة الحرب النفسية التي قادها الجنرالات العلمانيون من الأوراسيين، لتبدأ بعدها مرحلة استمرت حوالي خمس سنوات وسميت بـ”مرحلة 28 فبراير 1997 الانقلابية”.
ومن الأحداث التي استفزّت العسكر “أمسية القدس” التي نظّمها رئيس بلدية “سنجان” في العاصمة أنقرة التابعة لحزب الرفاه بكر يلديز، بخضور السفير الإيراني في تركيا، مما أشعل نقاشًا حول تحول حكومة أربكان إلى بؤرة لأنشطة رجعية تسعى إلى تقويض أساس الدولة العلمانية، وفقًا لرؤية المؤسسة العسكرية والمسيطرين على الجهاز البيروقراطي التقليدي.
وقد اعترف كثير من الأسماء الوازنة في حزب الرفاه في وقت لاحق أن تنظيم هذه الأمسية رغم تكهرب الأجواء في البلاد لم يكن تصرفًا حكيمًا، وأن رئيس البلدية انساق وراء تحريض شخصيات مرتبطة بإيران.
وفي 4 فبراير 1997، طافت 15 دبابة و20 عربة ومدرعة عسكرية في بلدة سنجان بالعاصمة أنقرة، ردًا على أمسية القدس، في مشهد اعتُبر “تحذيراً عسكرياً” للحكومة. وفي 21 فبراير 1997، علق نائب رئيس الأركان العامة جفيك بير على طواف الدبابات في شوارع أنقرة بقوله: “قمنا بضبط موازنة الديمقراطية في البلاد”.
في مارس 1997 دعت تشيلر، شريكة أربكان في الحكومة، إلى تنفيذ مطالب العسكر، وبناء على ذلك شكّل أربكان “لجنة تنفيذية” من عدة وزراء من حزبه لمتابعة القرارات التي أصدرها مجلس الأمن القومي حول مكافحة الرجعية. إلا أن كل هذه التنازلات لم تمنع النائب العام لدى المحكمة العليا من إصدار قرار بحل حزب الرفاه بشكل دائم في 21 مايو 1997، بدعوى “التحول إلى مركز للفعاليات والأنشطة المعادية للدستور ومبادئ العلمانية للجمهورية التركية”.
واضطر أربكان في نهاية المطاف إلى التوقيع على ما سمي “قوانين مكافحة الرجعية” التي ادعى زعيم حزب العمال اليساري آنذاك دوغو برينجك أنه من حرر 10 من نصوص تلك القرارات، وأن أربكان وقع عليها طواعية، للحد من مظاهر الدين في القطاع العام، خاصة الجامعات، ومن ثم أعلن عن استقالته من منصبه في 18 يونيو 1997 للحيلولة دون تطور الأحداث إلى أسوأ.
ومع أن المحكمة الدستورية قضت في عام 1998 بحظر حزب الرفاه وفتح تحقيق مع أربكان بتهمة انتهاك مبادئ الدولة العلمانية، ومنعه من مزاولة النشاط السياسي لخمس سنوات قادمة، إلا أنه عاد إلى الحياة السياسية بحزبه الرابع تحت اسم “حزب الفضيلة” وأداره من خلف الستار حتى إغلاق هذا الحزب أيضًا في عام 2000 للحجج ذاتها.
لكن أربكان لم ييأس وعاد مرة خامسة بعد انتهاء مدة الحظر ليؤسس هذه المرة حزبه الأخير “حزب السعادة” في عام 2003، غير أن السلطات القضائية طاردته في العام ذاته وهذه المرة بتهمة اختلاس أموال حزب الرفاه المنحل البالغة 1 تريليون ليرة، وقضت عليه بالسجن سنتين، غير أن الرئيس عبد الله جول أصدر عفوا رئاسيا عنه في 18 أغسطس 2008 بسبب تقدم عمره وتدهور حالته الصحية.
وقد توفي الزعيم السياسي المخضرم في 27 فبراير 2011، عن عمر ناهز 84 عاماً، وحضر حفل تشييع جثمانه كبار الدولة من الساسة والمؤسسة العسكرية، إلى جانب زعماء إسلاميين، منهم المرشد العام السابع لجماعة الإخوان المسلمين محمد مهدي عاكف، ورئيس حركة النهضة في تونس راشد الغنوشي، وممثلون عن حركة حماس وغيرهم.
بغضّ النظر عن أهداف وتوقعات الدولة العميقة بشقيها الأطلسي والأوراسي من أحزاب أربكان، فإن طول بقائه في الحياة السياسية مكّن الإسلاميين من إيجاد مساحة مرموقة في أجهزة الدولة، وقد فسر الكتاب الإسلاميون علاقاته مع بعض أركان الدولة العميقة من قبيل التماشي معهم بهدف الحفاظ على كوادرهم واستغلال الفرص المتاحة لهم لصالح مشروعهم.
ب) اللبنات الأولى لدولة أردوغان
ومع أن مشروع الحزام الأخضر أو الإسلام السياسي في تركيا تعرض نسبيا لأزمة وانتكاسة بالانقلاب الناعم في 28 فبراير 1997 على أيدي جنرالات كماليين علمانيين أوراسيين، لكنه عاد بشكل أقوى بعد خمس سنوات.
بالتزامن مع انتهاء فترة الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي والسوفيتي دون مواجهة ساخنة عقب تفكك الاتحاد الوفيتي في 1991، وعاصفة الرياح الإسلامية في العالم الإسلامي، خصوصًا بعد الثورة الإسلامية في إيران، حدث تغيير في مفهوم الحليف والعدو للناتو، وبالتالي للكيان الأعلى للدولة العميقة الذي يكيّف نفسه وفقًا للظروف المتغيرة، وكذلك الآليات والأساليب، وقرر استبدال القوة الغاشمة بالقوة الناعمة والتعامل مع الكيانات القانونية الظاهرة بدلاً من كيانات الدولة العميقة السرية أو الحركات الجهادية. ولمواجهة تلك المجموعات الإسلامية التي تستخدم العنف، تحولت الولايات المتحدة من نظرية الحزام الأخضر أو الإسلام السياسي إلى مشروع “الإسلام المعتدل” اجتماعيًّا وسياسيًّا، وبدأت من أجل ذلك في دعم المجموعات التي تركز على الجانب الإنساني للإسلام، والحوار، والأخوة، والسلام.
وكما اعترف كثير من الكتاب الإسلاميين والسياسيين القريبين من أردوغان فإن حزب العدالة والتنمية تأسس من أجل تلبية هذه الحاجة وملء هذا الفراغ في البداية ليكون حزبًا يجمع بين الإسلام والديمقراطية ويمثل نموذجا يقتدي به كل الأحزاب المماثلة في العالم الإسلامي مع كياناتها المدنية. لذلك رفض مؤسسو حزب العدالة والتنمية في البداية أن يكون حزبهم امتدادًا لحزب الرفاه “الإسلامي” وأعلنوا بصراحة أنهم لن ينفذوا ما يسمى بـ”المشروع الإسلامي”. ولم يتجنب عبد الله جول من التصريح بتعاطفه مع بريطانيا، كما أعلن أردوغان أكثر من مرة أنه أحد رؤساء مشروع الشرق الأوسط الكبير الأمريكي. بمعنى أن الجناح الأمريكي والبريطاني للناتو واصلوا التعامل مع ممثلي الإسلام السياسي في تركيا لكن مع تغيير في صورة حزبهم وفقًا للظروف السائدة في التسعينات حتى العقد الأول من الألفية الجديدة. وتوافقًا مع هذا التوجه الدولي، فإن الكيان الأعلى للدولة العميقة يقرّر التعامل مع الإسلاميين أيضًا في الفترة الجديدة، بدلاً من مخلفات الأطلسيين والأوراسيين، مع محاولة منعهم من الخروج عن الإطار العام المرسوم لهم.
ولقد انضمّ عناصر الكيان الإسلامي أو الإسلام السياسي القديم، الذي بدأ تشكيله وتنظيمه في الجيش منذ الستينات عن طريق كل من اللواء الجنرال عدنان تانري فردي وهاكان فيدان الذي كان ضابط الصف في الجيش، ثم تقاعد برغبته ليتسلم منصب رئاسة المخابرات في نهاية مسيرته، وخلوصي أكار الذي تسلق إلى قمة هرم المؤسسة العسكرية وأصبح رئيس الأركان (2015 – 2018) ووزير الدفاع (2018 -…)، إلى الكيان الجديد تحت لواء حزب أردوغان الذي كان يبدو الأقرب إلى المدرسة الأمريكية وعبد الله جول الأقرب إلى المدرسة البريطانية سياسيًّا. وقد عاش هذا الكيان المرتبط بأمريكا وبريطانيا عصره الذهبي عقب وصول حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم في 2002 وحتى 2007، حيث يُظهر أردوغان نيته الحقيقية ويبدأ التحرك بشكل مستقل عن أمريكا وبريطانيا، وفق الخطة التي وضعها مع رجاله قبل عام 1995، كما سنرى بالتفصيل.
على الرغم من أن القوات المسلحة؛ حامي النظام الكمالي العلماني، صارمة للغاية في رفض وجود الضباط الذين لهم أدنى صلة بالإسلام في الجيش، كأن يكونوا مواظبين على الصلاة أو أن تكون أمهاتهم يضعن الحجاب على رؤوسهنّ، إلا أن هؤلاء الثلاثة، أي نانري فردي وفيدان وأكار، تمكنوا من البقاء في الجيش طيلة 30 عاما دون أن يتعرضوا للطرد والإقالة رغم هويتهم الإسلامية، بل تسلقوا ذرى أجهزة الدولة، بفضل صلتهم وعلاقاتهم مع الجناح البريطاني للناتو. فمع أن تقارير الاستخبارات العسكرية الرسمية سجلت أن تانري فردي كان يصلي بالجماعة في الثكنات العسكرية، وهو محظور بحسب القوانين والتقاليد العسكرية الصارمة، إلا أنه استطاع أن يصبح لواء ويحصل على لقب “الجنرال”.
ت) عدنان تانري فردي
تقاطع طريق تانري فردي مع أردوغان في عام 1995 حيث كان رئيس بلدية إسطنبول من حزب الرفاه التابع لشيخه وأستاذه أربكان. فعندما كان قائد اللواء المدرع الثاني في إسطنبول تعرض بعض الضباط العسكرين من الرتب الدنيا التابعين له للطرد من الجيش في 1994، بتهمة الرجعية الدينية بموجب قرارات صادرة عن مجلس الشورى العسكري في إطار الصراع السائد بين أجنحة الدولة الأطلسية والأوراسية والإسلاموية. وهو عرّف جميع هؤلاء العسكريين المطرودين على أردوغان في 1995، ليقوم بتوظيفهم في المؤسسات والشركات التابعة للبلدية باعتبارهم أفراد الأمن الخاص.
تانري فردي ليس شخصية عسكرية بسيطة بل كان قائد إحدى شعب مجموعة التعبئة التكتيكية / وحدة القوات الخاصة التي تشكل فيها الأطلسيون القدماء، وكذلك عمل في أنشطة مدنية استخباراتية في قبرص التركية، ولا يمكن أن يسمح الكيان الأعلى للدولة العميقة لشخص متدين بالانضمام إلى هذه الوحدة وتولي مهام خطيرة إن لم يكن منهم. لذلك نرى أنه تقاعد في 1996 لعدم وجود مناصب شاغرة ليؤسس بعد 4 سنوات “جمعية المدافعين عن العدالة” (ASDER) مع ضباط إما مطرودين أو محالين للتقاعد لتكون هذه الجمعية العنوان المشترك لكل المطرودين من الجيش بحجة الرجعية الدينية.
ويمكن القول بأن أردوغان شرع في تأسيس دولته العميقة بـ”شكل سري”، اعتبارًا من عام 1996، بالتعاون مع تانري فردي وكوادره في الجيش والمطرودين منه، ومن ثم أعلن في المستقبل استقلاليته من الناتو بعدما ضبطه الأخير متلبسًا بخرق العقوبات الأمريكية والأممية على إيران. يمكن القول بأن الاستقلال أمر محمود ومطلوب، لكنه لم يتجه بعد الاستقلال إلى تأسيس دولة القانون والدستور وفق المعايير العالمية بل حتى دولة الإسلام الحقيقية، وإنما اتجه هو الآخر لإنشاء دولته العميقة السرية مثل الأطلسيين والأوراسيين.
ث) هاكان فيدان
أما فيدان فقد تقاعد في عام 2001 برغبته من الجيش، وهو الآخر تمكن من البقاء في الجيش طيلة 15 عاما رغم هويته الإسلامية، مثل تانري فردي، ليتم تعيينه في السفارة التركية لدى أستراليا كخبير في الشؤون الاقتصادية والأمنية، مع أنه ليس له أي خبرة في الاقتصاد! وقد قام هناك بأنشطة مختلفة بتوجيه من بريطانيا.
حصل على درجة البكالوريوس من جامعة ميريلاند الأمريكية للعلوم السياسية والإدارة، وعلى درجة الماجستير من جامعة بيلكنت التركية في فرع العلاقات الدولية، برسالة تخرج تحت عنوان “مقارنة بين نظام الاستخبارات التركي والأمريكي والبريطاني”، وأشار فيدان في ورقته البحثية إلى حاجة تركيا لشبكة استخبارات قوية في الخارج، ودرجة الدكتوراه ببحث حمل عنوان “الدبلوماسية في عصر المعلومات: استخدام تكنولوجيا المعلومات في التحقق”.
ومن اللافت أن رسالة تخرج فيدان في مسار الماجستير تحدثت عن عدم كفاية الاستخبارات التركية والحاجة إلى إعادة هيكلتها كالاستخبارات الداخلية والخارجية على غرار المخابرات المركزية الأمريكية سي آي إي ومكتب التحقيقات الفيدرالي أف بي آي، وضرورة قيام الاستخبارات بعمليات خارجية.
تولى بين الفترة من 2003 حتى 2007 منصب رئاسة وكالة التنمية والتنسيق التركية “تيكا”، ليزور في هذه الفترة معظم دول إفريقيا والشرق الأوسط وآسيا الوسطى، كخطوة متوافقة مع بحوثه ودراساته المذكورة؛ ذلك لأن مؤسسة تيكا مع أنها تلبس قناعًا إنسانيًّا وتبدو وكأنها تقوم بأعمال خيرية لكنها في الحقيقة تجري فعاليات استخباراتبة وتتحرك كجهاز استخباراتي موازٍ، كما ورد في تقارير دولية. وقد قال الكاتب الصحفي المعروف سردار تورغوت من صحيفة “خبر ترك”: “إن الدولة التركية كلفت وكالة تيكا بتفعيل الأنشطة في كل المنطقة التي كانت تنشط فيها التشكيلات المخصوصة قديمًا (الاستخبارات في العهد العثماني)”.
وقد حظي فيدان بإشادة كبيرة خلال اجتماع عقده مجلس الأمن القومي في 2007 بسبب أنشطته في مؤسسة تيكا من قبل جنرالات تابعين لكيان تانري فردي التابع للجناح البريطاني للناتو. ثم عين فيدان في عام 2007 نائبًا لمستشار رئيس الوزراء المسؤول عن شؤون الأمن الدولي والسياسة الخارجية، عندما كان أردوغان رئيس الوزراء، وكذلك عضوًا في المجلس الإداري للوكالة الدولية للطاقة الذرّية في نفس العام.
وتسلم منصب نائب رئيس الاستخبارات في 15 أبريل 2010 بعد تقاعد رئيس الاستخبارات أمره تانير في 17 أبريل 2009، ثم ارتقى إلى هرم المؤسسة في 25 مايو 2010 ليصبح بذلك أصغر رئيس للاستخبارات وثاني شخصية يتم تعيينها من خارج المؤسسة.
جدير بالذكر أن رئاسة الاستخبارات العامة والعسكرية وقيادة القوات الخاصة ومستشارية كل من الرئاسة ورئاسة الوزراء تعتبر حصونَ وقلاعَ الدولة العميقة لا يمكن أن يتعين فيها شخص ليس من رجالهم.
وبعدما شهدت الساحة الدولية تغيرات اعتبارا من السبعينات والثمانينات، من قبيل مبادرة الناتو إلى تصفية كيانته القديمة / منظمات غلاديو في الدول الأعضاء، التي أسسها في ظروف الحرب الباردة، والانتقال إلى دائرة القانون، وما شهدته تركيا من صراعات بين أنصار المعسكر الغربي الأمريكي البريطاني والمحور الروسي الصيني الإيراني ونقاشات حول ضرورة التخلص من تقليد الدولة العميقة، يتخذ عبد الله جول المرتبط بالجناح البريطاني للناتو وأردوغان المرتبط بالجناح الأمريكي قرارًا بإدارة الدولة في الإطار القانوني التركي والدولي ويقولان: “لنفعل ما سنفعله ضمن القانون دون اللجوء إلى طرق ملتوية وأعمال قذرة وتشكيل دولة موازية أو عميقة جديدة”. لذا نرى أنهم أصروا على سنّ قوانين من أجل الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي والانسجام مع معايير “كوبنهاجن” في السنوات الأولى من حكمهم.
لكن عندما أصبح جول رئيسًا للجمهورية في 2007 حتى عام 2014 تضاءل تأثيره، بل غاب تمامًا، على السلطة السياسية، نظرًا لأن منصب الرئاسة كان رمزيًّا فقط ليس له صلاحية التدخل في السياسة اليومية في ذلك الوقت، ليبقى الميدان بكامله لأردوغان ورجاله، ويواصل تنفيذ خطته السرية التي بدأها في عام 1996 مع رجاله وحلفائه العاملين ضمن مشروع الإسلام المعتدل.
ج) مشروع الشرق الأوسط الكبير
المعلومات التي نحوزها تشير إلى أن أردوغان يرضى بالتعامل مع الولايات المتحدة في إطار مشروع الشرق الأوسط الكبير إلى “أجل مسمى”، أي إلى أن يتمكن من السلطة ويعود إلى أجندته السرية التي وضعت على باله منذ البداية. لقد طلب أردوغان من محسن يازجي أوغلو، زعيم حزب الاتحاد الكبير القومي، الذي لقي مصرعه في حادث طائرة مروحية أثناء حملة الانتخابات المحلية التي أجريت عام 2009 بصورة مثيرة للشبهات، أن ينضم إلى حزبه في المشروع الأمريكي الخاص بتركيا والمنطقة، وهو ردّ عليه قائلاً: “يا أخي العزيز، إن الخبرة التي اكتسبتها خلال عملي السياسي والأحداث التي شهدتُها خلال هذه الفترة علمتني أن الخطة السياسية المبنية على الدعم الأمريكي لا تثمر نتائج مرجوة. إذا اعتمدْتَ في سياساتك المحلية والإقليمية والدولية على الشعب فستجدني إلى جانبك. وإلا فاعلم أن الأمريكيين لا يراعون في سياساتهم التي ينفذونها عبر حلفائهم إلا مصالحهم الشخصية فقط”. عندها قال أردوغان: “إننا سننفذ ما يطلبه الأمريكيون منا في البداية، ثم نتبع سياساتنا الذاتية التي تحقق مصلحة الشعب التركي. وإذا حاول الأمريكيون منعنا لن نبالي بهم ونمضي في طريقنا”. وهذه المرة أجاب يازيجي أوغلو قائلاً: “إن الولايات المتحدة ليست من بين القوى التي يمكن خداعها وعدم المبالاة بها، ولا تنس أن مَن يدخل الحلبة مع الفيل يخرج منها مسحوقًا!”
مشروع الشرق الأوسط الجديد وشمال أفريقيا الذي يعتبر إستراتيجية تغيير الجغرافيا الإسلامية الشاملة الممتدة من المغرب غربًا إلى منغوليا شرقًا والشيشان شمالاً واليمن جنوبًا، خُطط لأن يكون مشروع الشرق الأوسط الجديد والعنصر الأساسي لمشروع القرن الأمريكي المعد في عام 1997. وعندما بدأ الرئيس الأمريكي جورج بوش بتنفيذ المشروع قالت وزيرة خارجيته كوندوليزا رايس: “هذا المشروع يقتضي تغيير حدود 22 دولة في المنطقة واحتلال أفغانستان والعراق هو الخطوة الأولى في هذا المشروع”. كما تحدث العقيد المتقاعد رالف بيتيرس، أحد أهم شخصيات المحافظين الجدد، في مقالة نشرتها صحيفة القوات المسلحة الأمريكية بعنوان “الحدود الدموية” قائلاً: “يجب إعادة ترسيم الحدود في الشرق الأوسط، فلقد أدت هذه الحدود المصطنعة، التي تعتبر إرثًا من تشرشل، إلى حالة عدم الاستقرار في المنطقة، ولذلك يجب إعادة ترسيم هذه الحدود على المحورين الديني والعرقي”. ومع أن أردوغان يرضى بأن يكون أحد رؤساء هذا المشروع في البداية إلا أنه سيتخلى عن ذلك في وسط الطريق لينفذ أجندته الخاصة به.
ومن اللافت أن فتح الله كولن تناول بتاريخ 16 نوفمبر 2004 ماهية مشروع الشرق الأوسط وكشف عن مخاطر الانجرار وراء مشاريع الآخرين مؤكدًا ضرورة الاعتماد على المقومات الذاتية في خدمة الوطن والأمة، خلال إجابته على سؤال حول الموضوع، إذ قال: “قد يكون هذا أهداف مشروع الغرب، وقد تكون هناك مشروعات وأهداف أخرى لدول ومحاور أخرى.. بحسب رأيي، ليس من الصحيح مجرد الاعتراض على مثل هذه المخططات، سواء كانت مشروع الشرق الأوسط أو مشروع شمال وجنوب أفريقيا، بشكله القديم أو الجديد، أو مشروع الشرق الأقصى –إن وجد-. ذلك أن المهمّ والمطلوب هنا هو معرفة الأشخاص أو الجهات التي تقوم بوضع وطرح هذه المشروعات، والاطلاع على التصورات التي ينطلقون منها ويعتمدون عليها. فإن لم تكن دول الشرق الأوسط مَن وضعت هذا المشروع بل وضعته قوى عظمى ترغب في السيطرة على المنطقة كالولايات المتحدة أو أوروبا أو روسيا أو الصين أو الهند، فإنه ليس من الصائب أن نتبنى هذا المشروع وندعمه، نظرًا لأننا لا نعلم أهدافه الأولية والنهائية ولم نكن أحد أطرافه منذ البداية. والانضمام إلى المشروع وتبنيه في مرحلة معينة من تنفيذه قد يبدو اليوم وكأنه في صالحنا، غير أن ذلك قد يسفر عن نتائج سيئة وعواقب وخيمة للغاية قد تحملنا المسؤولية أمام التاريخ؛ لأننا لم نكن طرفًا مع من وضعوا وحددوا قواعد اللعبة. يا ليت كانت تركيا من أعدت هذا المشروع عن طريق مراكز الدراسات والبحوث الاستراتيجية المختلفة، بمشاركة دول الشرق الأوسط، ومن ثم عرضته على تلك القوى العظمى، وذلك نظرًا لأنها (تركيا) لا تزال تمتلك رصيدًا قويًا وسمعة طيبة في لاوعي شعوب المنطقة. يا ليتها قالت للأوروبيين: “لدينا هذا المشروع، أنتم تخافون من الإرهاب، ولديكم مخاوف من الشرق الأوسط. أما نحن فمصدر للثقة والضمان والأمان. لذا إذا تمكنا من التعاون مع دول المنطقة بالصورة المنشودة فإنكم لن تواجهوا أي خطر منها ولن يمسكم أحد بالسوء”.
مهما كان الأمر فإن أردوغان مع حلول عام 2007 قطع شوطًا كبيرًا في توطيد حكومته ونظامه بعد تغلبه على محاولات الانقلاب وإغلاق حزبه، ثم شرع في تقليم أظافر الكماليين الأوراسيين من خلال تحقيقات “تنظيم أرجنكون الإرهابي” من جهة، واستمر في توسيع نطاق مشروعه الشخصي ودولته العميقة من جهة ثانية، وتوجه إلى إحياء الإسلام السياسي في كل العالم الإسلامي وربطه بمشروعه الإقليمي من جهة ثالثة.
وقد قال فهمي كورو، الكاتب الصحفي المخضرم المقرب من أردوغان وجول على حد سواء، والمطلع على أسرار السياسة الداخلية والدولية، في مقاله بصحيفة “يني شفق” الموالية لأردوغان: “إنني أعتقد بوجود علاقة بين الاجتماع الذي عقده أردوغان مع جورج بوش في البيت الأبيض في 5 نوفمبر 2007 وانطلاق تحقيقات أرجنكون”. بمعنى أن رغبة أردوغان في التخلص من دولة الأوراسيين العميقة تقاطعت مع هدف الولايات المتحدة أو الناتو في هذا الصدد. وانتهت التحقيقات الخاصة بتنظيم أرجنكون باعتقال حوالي 250 شخصًا من رموز الأوراسيين في الجيش وشتى أجهزة الدولة، وإقصاء كوادرهم بشكل أو بآخر وإحلال رجاله من الإسلام السياسي.
وكذلك اتجه أردوغان في هذا العام أيضًا لتطوير علاقاته مع ممثلي الإسلام السياسي في العالم الإسلامي كله، خاصة مع جماعة الإخوان المسلمين المنتشرين أساسًا في مصر وتونس وقطر وغيرها، وكذلك مع إيران بصفة خاصة. وتطورت العلاقات مع إيران بقدوم الإيراني رضا زراب إلى تركيا، وحصوله على الجنسية التركية على يد أردوغان، وشروعه في تأسيس شركاته اعتبارًا من عام 2006، إلى أن صنع ثروة هائلة حصل بفضلها على لقب “إمبراطور الذهب”، وتحول إلى أكبر مصدر لتمويل مشاريع أردوغان الداخلية والخارجية خلال مدة قصيرة.
ح) القطيعة بين أردوغان وأمريكا
والذي قصم ظهر البعير هو أن الولايات المتحدة تمكنت من خلال المتابعة التقنية والتسجيلات المصورة من الكشف عن خرق أردوغان العقوبات الأمريكية والأممية المفروضة على إيران عن طريق شبكة فساد وغسيل أموال دولية أسسها بالتعاون مع زراب، وذلك قبل بدء تحقيقات الفساد في 2013 بكثير، وهو الأمر الذي أحدث نفورًا متقابلاً بين الطرفين أدى في نهاية المطاف إلى إعلان أردوغان استقلاليته عن بعض حلفائه المحليين والدوليين وتركيزه على مشروعه الذاتي. ولما لاحظ عبد الله جول وفريقه، في الداخل، خروج أردوغان ورجاله على القانون المحلي والدولي بدأوا في الابتعاد عنه واحدًا تلو الآخر، مثل حلفائه الغربيين من أمريكا وبريطانيا في الخارج.
ومع أن أردوغان استعان بالموظفين الليبراليين والديمقراطيين والمحافظين والمتدينين في الجهاز البيروقراطي لكسر شوكة العلمانيين الأوراسيين، إلا أنه في الوقت ذاته اتبع أسلوبًا خبيثًا سمح له في المستقبل بتقديم حركة الخدمة “قربانًا” أمام الأوراسيين باعتبارها مسؤولة عن تحقيقات أرجنكون. بمعنى أنه وظف هؤلاء البيروقراطيين في تصفية الأوراسيين، وفي الوقت ذاته زرع بذور صراع بين الطرفين وشغل بعضهم ببعض ليصفّيهم جميعًا في وقت لاحق وتبقى الدولة بكل أجهزتها له ورجاله.
وقد لاحظ ملهم حركة الخدمة فتح الله كولن هذه الخطة والنية الخبيثة في وقت مبكر وحذر البيروقراطيين المتعاطفين معه إزاء ذلك قائلاً: “إن (الأوراسيين) الذين وجهوا لطمات ولكمات لهذا الشعب، وتورطوا في أعمال غير قانونية في وقت سابق يخضعون اليوم للتحقيق والمحاسبة. لكن لسنا من نقف وراء هذا الأمر. بل إنني لما أرى هؤلاء الأشخاص الغارقين في السن وهم يخضعون للمحاسبة في المحكمة يتفطر لهم كبدي. لو كان بيدي لأطلقت سراح جميعهم، وقلت لهم كما قال سيدنا عليه الصلاة والسلام بعد فتح مكة: اذهبوا، أنتم الطلقاء! «لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» (يوسف: 92). إلا أن البعض (أردوغان) من يخططون هذه الأمور وينفذونها.. ومن ثم يقولون خلف الأبواب المغلقة (لأنصارهم): لقد صمدنا أمامهم، (الأوراسيين الانقلابيين) (كالأبطال)، ومن جانب آخر يهمسون في أذنهم (الأوراسيين) بأن حركة الخدمة من يفعل هذه الأمور من خلال بعض عناصرها، في خطوة نفاقية يستهدفون من ورائها ضرب عصفورين بحجر واحد”.
خ) شركة صادات الأمنية
عام 2012 يعتبر منعطفًا تاريخيًّا من حيث تمدد مشروع أردوغان داخليًّا وخارجيًّا وعلاقاته مع حركة الخدمة. فبعد عام من تعيين فيدان رئيسًا للاستخبارات، توجه تانري فردي مع مجموعة من العسكريين القدامى لتأسيس كل من مركز الدراسات الاستراتيجية للمدافعين عن العدالة (ASSAM) في 2012، ليكون العقل المدبر أو الأب الروحي لشركة “صادات” الأمنية التي أسسها على غرار شركة “بلاك ووتر” الأمريكية، و”فاغنر” الروسية، والتي يمكن وصفها بـ”وريثة منظمة غلاديو الأطلسية” القديمة، ويطور أفكارًا ومشاريع وإستراتيجيات لترسيخ أركان دولة أردوغان العميقة. وبدأ المركز يقيم مؤتمرات محلية ودولية تناقش قضايا تخصّ تأسيس اتحاد إسلامي عالمي أو إحياء الخلافة الإسلامية، من جانب؛ وأخذت شركة صادات تدرب قوات تنفيذ القانون، أي القوات الأمنية والعسكرية في العالم الإسلامي، على الحرب غير النظامية، خصوصًا في قطر والسودان وتونس وليبيا والجزائر والعراق وسوريا، من جانب آخر. ولا شكّ أن توجهات وتحركات تانري فردي هذه توافقت تمامًا مع مسار وأفكار فيدان حول ضرورة الانفتاح على المنطقة وإجراء فعاليات استخباراتية خارجية.
د) كولن يرفض طلب أردوغان بالمبايعة
من جانب آخر، اعترف نائب رئيس الوزراء الأسبق بولند أرينج وفهمي كورو بأن هاكان فيدان زار كولن مرتين في أمريكا بتكليف رسمي من طرف أردوغان، قبل بدء تحقيقات الفساد والرشوة في عام 2013، وكشف الكاتب الصحفي أمر الله أوسلو أنه، أي فيدان، عرض على كولن أثناء زيارته له في 2012 أن يبايع أردوغان كما بايعته الأغلبية الساحقة من كوادر حزب الرفاه الإسلامي والجماعات الإسلامية الأخرى، لكي يستخدم نفوذ وسمعة مؤسسات حركة الخدمة التعليمية والاقتصادية المنتشرة في كل أنحاء العالم في عرض وتلميع مشروعه الذاتي، لكنه رفض ذلك رفضًا باتًّا وفضل الاستقلاليلة بدلاً من التبعية، وهو الأمر الذي جعل أردوغان يكنّ له كراهية شديدة ويعتبره عائقًا كبيرًا أمام مشروعه يجب التخلص منه مثل مخلفات الأطلسيين والأوراسيين.
أردوغان أدرك جيدًا أنه لن يستطيع تسخير حركة الخدمة لصالح مشروعه مثل جل الجماعات الإسلامية في البلاد. لكن هذا الإدراك لم يكن جديدًا بل كان تأكيدًا لقناعته السابقة التي أبداها لزميله بعد زيارة أجراها لفتح الله كولن في إسطنبول منتصف التسعينات قائلاً: “لو تمكّنت يومًا من السلطة فسأقضي على هؤلاء أولاً”.
أردوغان كان يرى حركة الخدمة أخطر على مشروعه من الأطلسيين والأوراسيين، نظرًا لأن هاتين الطائفتين لم تكن لهما قاعدة شعبية عريضة، وإنما مهارتهما كانت تكمن في قابليتهما في توجيه الجمهور وتوظيف الأحداث في صالحها؛ أما الحركة فكانت تتبنى رؤية إسلامية تتسم بـ”الاعتدال”.. الاعتدال الذي يأخذ أسسه من الكتاب والسنة لا من المشاريع المطروحة في السوق، وبالتالي كان لها مؤيدون ومتعاطفون معها من كل أطياف تركيا.
وكل المشاريع التي طورتها في إطار هذه الرؤية كانت لصالح “الإنسان” و”الوطن” و”العالم”. فمشروع الحوار الوطني والديني الذي طورته وطبقته بشكل ناجح بين كل أبناء الوطن وأصحاب الديانات والعقائد مهما كات حظي بقبول المعتدلين من القوميين اليمينيين والعلمانيين اليساريين المخلصين على حد سواء بحيث تحولت فكرة الخدمة منذ الثمانينات إلى ثقافة عامة يتبناها أو يتعايش معها كل وطني وصاحب فكر حر.
كما أنها طورت مشروعًا تعليميًا يقوم على الجمع بين العلوم الحديثة والأخلاق الإسلامية، وكرست كل جهودها لإنشاء وإخراج أجيال من مؤسساتها التعليمية الناجحة على الثقافة المذكروة بدلاً من صرف طاقاتها في سبيل أهداف وصراعات سياسية يومية عابرة، اعتقادًا منها أن الاستثمار في الإنسان والوطن سيؤتي ثماره عاجلاً أم آجلاً وسيحل النور في البلاد لينهار الظلام تلقائيًّا، بمعنى أنها لم تنشغل بالباطل وإنما حاولت نشر الحق عبر الطرق المشروعة فقط دون اللجوء إلى طرق ملتوية. لذلك كان أردوغان مصمّمًا منذ البداية على محاربة هذه الحركة، لمعرفته الجيدة بعدم انقيادها لمشروعه، لكنه انتظر الفرصة السانحة لذلك.
ونظراً لأن فيدان حذر أردوغان من خلال تقرير رسمي أرسله له قبل ظهور فضائح الفساد من أن علاقاته مع الإيراني زراب من الممكن أن تلحق به أضرارًا في المستقبل، فإنه يقرّر أن الوقت قد حان للتخلص من حركة الخدمة أيضًا مثل مخلفات الأطلسيين والأوراسيين، ويشرع في حياكة سيناريوهات لتحقيق ذلك، منها أزمة استدعاء فيدان للاستجواب في 7 فبراير 2012، حيث اتهم الحركةَ بالوقوف وراءها من أجل اعتقال فيدان ومن ثم أردوغان، رغم أن ذلك لم يكن ممكنًا من الناحية القانونية. كما أن أردوغان توجه إلى إغلاق المراكز التمهيدية لدخول الجامعات التابعة لحركة الخدمة قُبيل بدء تحقيقات الفساد لكي يقدم رد فعل الحركة كدليل على مسؤوليتها في تلك التحقيقات التي كان على علم بها ويتهمَها بالسعي إلى الانقلاب والإطاحة بحكومته، وهذا ما حدث بالفعل.
ولما انقطعت الصلات الدولية لمشروع الحزام الأخضر أو الإسلام السياسي الأمريكي البريطاني والإسلام المعتدل تمامًا، بعد بدء تحقيقات الفساد والرشوة في 17 ديسمبر 2013، توجه أردوغان ورجاله إلى الحديث عن مشروعهم أو حلمهم الخاص بتأسيس دولة الخلافة وجمع كل المسلمين تحت رايتها بشكل علني ودون خوف من أحد بعد أن أضمروا ذلك أكثر من 15 عامًا ولم يصرحوا به إلا لمن كانوا من شيعتهم.
ومع أن أردوغان لم يكن يرغب في التحالف مع مخلفات الأطلسيين (متمثلين في حزب الحركة القومية والأوراسيين (المتمثلين في حزب الوطن)، وإعطاء قبلة الحياة لهم، إلا أنه اضطر إلى ذلك عندما ضبطه أعضاء الجهاز البيروقراطي الأمني والقضائي متلبسًا بجريمة الفساد والرشوة، فأخرج جميعهم من السجون ليسلطهم عليهم ويقوم –بالتعاون معهم- بتصفية جميع هؤلاء البيروقراطيين بتهمة واحدة ألا وهي: الانتماء إلى منظمة فتح الله كولن!
ذ) أنشطة صادات لإحياء الخلافة
هذا في الداخل، أما في الخارج، فقد شرع أردوغان ورجاله في تدريب الكيانات القديمة التابعة للناتو من الجهاديين في كل العالم الإسلامي، على عمليات المداهمة والقنص وغلق الطرق والتخريب والإنقاذ والخطف، والعلوم الاستخباراتية، وحرب العصابات، وعمليات القوات الخاصة، والحروب النفسية، والعمليات البرية، والحماية، والتخريب، وطرق الاستجواب، ونقل أسلحة ومعدات عسكرية إليهم، لكي ينشؤوا منهم جيوشًا موازية تحت مظلة شركة صادات الأمنية بقيادة تانري فردي وكوادره المتقاعدة من الجيش، ويوظفوها في إسقاط الأنظمة الحاكمة وتأسيس جمهوريات إسلامية تابعة لدولة الخلافة، عاصمتها إسطنبول، وزعيمها أردوغان، كما رأينا في العراق ومصر وتونس وسوريا وليبيا وغيرها من خلال ما سموه ثورات “الربيع العربي”.
ومن أكبر المؤسسات التي سخرها أردوغان لمشروعه هي مؤسسة الشؤون الدينية برئاسة علي أرباش الذي أعاد تصميم المؤسسة على مبادئ الإسلام السياسي الأردوغاني وشارك في المؤتمر العام الثالث لمركز الدراسات الاستراتيجية للمدافعين عن العدالة التابع لتانري فردي وتحدث فيه عن ضرورة تأسيس الاتحاد الإسلامي وسنّ الدستور الإسلامي الذي أعده المركز. كما استغل أردوغان المؤسسة الدينية، سواء تحت رئاسة علي أرباس الحالي أو سلفه محمد جورمَزْ، في إضفاء الشرعية على إجراءاته من جهة؛ وتضليل وتفسيق وتكفير المنظمات والجماعات الإسلامية المعارضة له أو المختلفة عنه من جهة أخرى، كحركة الخدمة وجماعة الفرقان بقيادة الشيخ ألب أرسلان كويتول.
وقد عقد أردوغان علاقة إستراتيجية مع جماعة الإخوان المسلمين في العالم الإسلامي، لكي يستخدم تجربتها الطويلة في مشروعه. وهو يستضيف اليوم على الأراضي التركية حوالي 5 آلاف عضو بارز في الإخوان ويحظون بعناية وحماية خاصة، بحسب مصادر الكاتب والمحلل المعروف سعيد صفاء، وذلك عقب إعلان الجماعة منظمة إرهابية من قبل مصر ودول الخليج بعد ظهور توجهات راديكالية لديها. ومن ناحية ثانية بدأ أردوغان يتعاون بصورة علنية مع كل الجماعات الإسلامية المقاتلة في سوريا والعراق، وفي مقدمها تنظيم داعش وهيئة تحرير الشام.
ومع أن أردوغان تمكن من تصفية أجهزة الاستخبارات والأمن والقضاء من الموظفين غير المرغوبين فيهم، وإحلال كوادره فيها، بتوظيف أزمة استدعاء فيدان (2012) وتحقيقات الفساد (2013) أو الحملات المضادة التي أطلقها بحجة “الكيان الموازي”، إلا أنه لم يستطع أن يحقق الشيء نفسه في المؤسسة العسكرية، وكان بحاجة إلى ذريعة قوية لا يعترض عليها أحد لكي يزيل العائق الأخير أمام استكماله مشروع الخلافة الإسلامية. فقرر أن يلعب أكبر مقامراته أو أن ينصب أكبر مؤامراته، بل أكبر المؤامرات التي شهدها تاريخ الأتراك، عن طريق منظمة صادات العميقة وحلفائها من مخلفات الأطلسيين والأوراسيين ألا وهو: الانقلاب المدبر في 15 يوليو 2016! وقد ظهر الوجه المرعب لمنظمة صادات وعناصرها في جسر البوسفور بمدينة إسطنبول أثناء محاولة الانقلاب المزعومة عندما قطعوا رؤوس الطلاب العسكريين المخدوعين وألقوا بعضهم في مياه البحر لإشاعة الخوف وتفخيم المشهد لكي يكون رد فعل الشعب قويًا بما يكفي إجراء حركة التصفية الشاملة المخطط لها مسبقًا وتأسيس الجيش الموازي دون اعتراض أحد.
ومع أننا لا نعلم على وجه التحديد الدور الذي لعبه كل من فيدان وأكار في هذا الانقلاب إلا أن لقائهما ساعات طويلة قبل يوم من المبادرة، وسكوتهما وفرارهما من الاستجواب البرلماني، يثير شبهات حول تدبيره بتواطؤ وتنسيق مشترك بينهما. ورغم أن أكار أعلن قبل شهور من الانقلاب أن الجيش التركي لن يدخل في سوريا بدون قرار دولي إلا أنه من قاد العمليات العسكرية الثلاث في سوريا بالتعاون مع الجيش السوري الحر والتنسيق مع الاستخبارات التركية وشركة صادات، بالإضافة إلى التدخل العسكري الحالي في ليبيا.
د – توظيف المافيا لصالح المشروع
والموضوع الآخر الذي يجب ذكره هنا أيضًا أن أردوغان لم يتجنب استغلال عصابات المافيا، إلى جانب رجال أعماله، في السيطرة على تجارة المخدرات وبيع أسلحة ومعدات عسكرية للجيوش الموازية التي أسسها في العالم الإسلامي، بل كل المجموعات المقاتلة في المنطقة، بغض النظر عن انتماءاتها، وبصفة خاصة منطقة البلقان. من بين هؤلاء قائد المافيا المنتمي إلى التيار المحافظ (!) سدات بكر الذي أرسل مئات السيارات المكتوب عليها اسمه إلى الجيش السوري الحر، والذي يهدد المعارضين من وقت لآخر بشنقهم على أعمدة الإضاءة وسفك دمائهم أنهارًا!
يؤكد الكاتب سعيد صفاء أن سدات بكر يقوم بتجارة الأسلحة مع نظرائه الشيشان نيابة عن أردوغان، ويقوم بغسيل الأموال التي يكسبها بهذه الطريقة من خلال بعض أندية كرة القدم، مثل نادي “سيليك زينيكا” البوسني الذي اشتراه المدعو أولجون آيدين، ابنه المعنوي وأحد رجاله. ويشير إلى أنه هرب مؤخرًا إلى الجبل الأسود (كاراداغ) في منطقة البلقان لما وثقت روسيا قيامه بتجارة الأسلحة.
كما أن رجل الأعمال التركي أوكتاي أرجان، من رجال أردوغان، تصنع شركاته أسلحة ومعدات عسكرية في الدول الأفريقية، ومركزها في السودان، افتتحه الرئيس السوداني السابق عمر البشير المعروف بعلاقاته الوطيدة مع أردوغان، ويتم إرسالها إلى دول المنطقة بعد غسيلها عبر أندية كرة القدم.
فهذه هي عناصر دولة أردوغان الموازية أو العميقة! وهي صورة طبق الأصل من الدولة العميقة بذراعيها الأطلسية والأوراسية بفلسفتها ومظاهرها وأسالبيها عينها مع الفارق في الأيديولوجية فقط.. فالأولى تبنت القومية المحافظة؛ والثانية القومية العلمانية، أما الأخيرة فجمعت بين كل صور وأشكال الإسلام السياسي بالإضافة إلى “صوص” العثمانية والقومية!
ذ – استلال السيوف بين أجنحة الدولة العميقة
اليوم في تركيا ثلاثُ طوائف يشكلون أجزاء الدولة العميقة في غياب أي نفحة من الديمقراطية.. الأطلسيون والأوراسيون والإسلامويون.. وهم يقدمون صورة للرأي العام توهم وكأنهم “جميعًا” ولكن “قلوبهم شتى” في الحقيقة.. أهدافهم شتى.. مصالحهم شتى.. أيديولوجياتهم شتى.. فمع أنهم تمحوروا حول طاولة واحدة في قصر أردوغان ويحسب الناظر إليهم أنهم جميعًا لكن كل من هؤلاء الفرق الثلاث يوجهون بعضهم بعضًا ركلات من تحت الطاولة، أو يقدمون صورة جماعية للشارع في حديقة القصر لكنهم يتصارعون بينهم في غرف هذا القصر. يتصارعون على تقاسم نعم السلطة والدولة ومن سيكون لهم النصيب الأكبر من حطام هذه الدنيا.
الإسلامويون في عجلة من أمرهم، حيث يريدون الانتقال بشكل عاجل إلى جمهورية قائمة على المبادئ الإسلامية أو الخلافة الإسلامية قبل انتهاء مواردهم المالية وزوال التأييد السياسي للشعب بفعل الأزمة الاقتصادية والانشقاقات الداخلية التي يقودها عبد الله جول وأحمد داود أوغلو وعلي باباجان. يقولون فيما بينهم خلف الأبواب المغلقة: علينا أن نفعل ذلك اليوم ونؤسس دولتنا الإسلامية ونحن في موقع العزة والقوة سياسيًّا واقتصاديًّا، وإلا لن نحقق ذلك أبدا فيما بعد، وسينهار هذا الكيان الذي نؤسسه منذ أكثر من ثلاثة عقود. في حين أن الأطلسيين والأوراسيين يتوجسون منهم خيفة ويتخذون تدابير مضادة لكي لا يصبحوا ضحايا جدد لمؤامرة جديدة يحيكها أردوغان اليوم من خلال شائعات الانقلاب، تمامًا كما فعل في انقلاب 2016 المدبر.
أما المشهد الدولي فالجناح البريطاني للناتو يعتقد بأن العلمانيين لن يسمحوا لأردوغان بتأسيس دولة إسلامية ويستمر التواصل من وراء الستار مع كل من فيدان وأكار ورجال أردوغان الآخرين؛ ويتواصل الجناح الأوراسي مع روسيا، والجناح الأمريكي مع امتداداته المختلفة في الداخل التركي. فهذه القوى الكبرى تنتظر اندلاع هذا الصراع المرتقب، بل المحقق، بين الطوائف الثلاث لكي تتخذ موقفها وفقًا لنتاجه وتحقق الأهداف التي تريدها.
أما الجماهير العريضة في تركيا فينتظرون “الفارس” أو “الفرسان” الذين سينقذونهم من براثن هؤلاء الطوائف الثلاث الذين جعلوهم شِيعًا ضعفاء ليحكموا عليهم بسهولة.. ينقذونهم ويقودونهم إلى قوة الوحدة والاتحاد والتضامن حول القيم الإنسانية العالمية في ظل دولة ديقراطية حقيقية، معتمدين على مقوماتهم الذاتية بدلاً من الانسياق خلف المشاريع الغربية أو الشرقية.