بقلم: ياوز أجار
إسطنبول (زمان التركية) – يساور الرأي العام في تركيا فضول من جهة وقلق من جهة أخرى حول التداعيات التي ستشهدها الساحة السياسية والحياة المدنية بعد خروج عدد من زعماء المافيا التركية من السجون بفضل تعديلات أجرتها حكومة حزب العدالة والتنمية بقيادة رجب طيب أردوغان مع حليفه حزب الحركة القومية على قوانين العقوبات، في إطار العفو الذي طال السجناء الجنائيين دون السياسيين.
سبب الفضول والقلق يعود إلى أن قادة المافيا في تركيا عرفوا منذ عقود طويلة بتنفيذ الأعمال القذرة للدولة العميقة وأجنحتها المختلفة التي نجحت أن تكون “الحكومة السرية” أو “الدولة داخل الدولة” بما كل ما تحمله الكلمة من معنى، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار الصراع بين نظام أردوغان وتنظيم أرجنكون، النسخة المحدثة للدولة العميقة، والذي ظهر إلى السطح مجددا بعد أزمة وزير الداخلية سليمان صويلو.
وكان وزير العدل التركي السابق والحقوقي المخضرم حكمت سامي ترك قد حذر قبل إقرار قانون العفو من سلبيات الإفراج عن المسجونيين الجنائيين قائلاً: “العفو العام في 1999 العام أثار ضجة كبيرة بعدما عاود من غادروا السجن ارتكاب الجرائم وقتل زوجاتهم والتورط في جرائم عنيفة. وهذه الاحتمالية قائمة أيضا في الوضع الحالي. فتعديلات هذه القوانين ستسفر في النهاية عن عفو المدانين -بجرائم جنائية-. والواقع يتطلب بعض الاستثناءات من العفو، لكن المحكمة الدستورية العليا تعتبر هذا مخالفًا لمبدأ المساواة، لما ينتج عن ذلك الإفراجُ عن المدانين الذين لا يستسيغهم الضمير المجتمعي”.
أردوغان يتلقى تهديدًا من زعيم مافيا أفرج عنه
وما مضى وقت كثير على عودة قادة المافيا إلى الواجهة حتى بدأت معارك كلامية بين علاء الدين تشاكجي، أحد قادة المافيا المدانين، المعروف بعلاقاته الوثيقة مع زعيم حزب الحركة القومية دولت بهجلي، الذي زاره في سجنه عام 2018، وبين زعيم مافيا آخر منافسه له “سدات بكر” الذي خطف الأضواء في السنوات الأخيرة بمواقفه الداعمة للرئيس رجب طيب أردوغان.
أنصار تشاكيجي شنوا هجومًا شرسًا على سدات بكر عبر وسائل الإعلام الاجتماعي وهددوه بالانتقام والثأر، في حين أن سدات بكر رد عليهم من خلال فيديو نشره في حساباته الشخصية على الإعلام الاجتماعي متحديًا إياهم بأنه لا يخاف أحدًا، مستخدمًا عبارات غليظة تضمنت السب والشتم.
وكذلك أمسى الأتراك هذا اليوم (الخميس) على وقع فيديو انتشر في مواقع الإعلام الاجتماعي أيضًا ويضم تصريحات سابقة لزعيم المفايا علاء الدين تشاكيجي، يقول فيها موجهًا خطابه إلى الرئيس أردوغان: “إن هذا السلطان المزور استخدم الأصوات التي حصل عليها من الشعب في غير محلها وأهدرها. إن هؤلاء هم خونة الوطن الحقيقيون. إن هذا السلطان الجائر سيضطر في نهاية المطاف إلى رد الاعتبار إلى أعضاء الأمن والقضاء والجيش الذين سجنهم بشتى الذرائع”.
السلطات القضائية في تركيا وجهت لعلاء الدين تشاكيجي عديدًا من التهم، بينها تشكيل وزعامة عصابة إجرامية، بالإضافة إلى استئجار شخص لقتل زوجته أمام ابنهما في عام 1995، لكنه تمكن من الهروب إلى الخارج، إلى أن سلمته فرنسا إلى تركيا في عام 1998 ودخل السجن على ذمة تحقيقات حول الاعتداء على إحدى أندية كرة القدم التركية.
وفي عام 2002 خرج تشاكجي من السجن واستطاع مرة أخرى الفرار من تركيا إلى النمسا بصورة غير قانونية إلى أن أعادته السلطات النمساوية إلى تركيا في 2004 ودخل السجن مرة أخرى، وواجه عديدًا من التهم، بينها تنظيم وقيادة منظمة إجرامية، والتحريض على القتل، وإهانة الرئيس أردوغان.
وقد كشفت تقارير استخباراتية تسربت إلى الصحافة في وقت سابق أن بعض البؤر داخل الاستخبارات التركية استخدمت تشاكجي، المنتمي إلى الذراع اليمينية المتطرفة الأطلسية لـ”الدولة العميقة”، لتنفيذ أعمال وعمليات قذرة لا يمكن تنفيذها بشكل قانوني ضد يساريين صنفتهم الدولة إرهابيين.
واعترف تشاكيجي نفسه في المحكمة التي استمعت إلى أقواله بصفته “شاهدًا” في قضية تنظيم أرجنكون التي بدأت في عام 2008 بأنه قدم خدمات كثيرة لـ”الدولة”.
أذرع أخطبوط الدولة العميقة
يقول معظم المؤرخين إن ما يسمى في تركيا “الدولة العميقة” تولدت من رحم المنظمات السرية التي نشأت وترعرعت في أواخر الدولة العثمانية. وهي شكلت نفسها في البداية ضمن “جمعية الاتحاد والترقي” و”تركيا الفتاة” في العهد العثماني، ثم في “مجموعة التعبئة التكتيكية” (Tactical Mobilisation Group)، التي شكّلها حلف شمال الأطلسي الناتو ضمن وحدة القوات الخاصة للجيش التركي بشكل سري، مثلما شكل نظائرها في جميع الدول الأعضاء أثناء الحرب الباردة (1947 -1991) لتكون سدًّا منيعًا أمام أطماع الاتحاد السوفيتي التوسعية. وتحول اسم هذه المجموعة في وقت لاحق إلى “شعبة الحرب الخاصة”، ثم استقر على “وحدة العمليات الخاصة”. ثم اتخذ الناتو قرارًا بتصفية هذه المجموعة أو الوحدة وأمثالها في الدول الأعضاء في سبعينات القرن الماضي، لكن الدولة العميقة في تركيا قاومت تصفية هذه الوحدة لتلقي بنفسها في أحضان المعسكر الأوراسي، وجعلت من عناصر تلك الوحدة المغلقة المدربين على الحرب غير النظامية وأموالها ونفوذها عصابة أو تنظيمًا سريًّا لتمسك من خلاله بزمام الأمور من وراء الحجب.
ومع أن مجموعة التعبئة التكتيكية شُكّلت أساسًا في مواجهة الاتحاد السوفيتي الشيوعي، إلا أن الأمر انقلب رأسًا على عقب بالكلية حينما قطعت الولايات المتحدة مساعداتها السنوية عنها وسَعَتْ إلى حلّها وتصفيتها منذ ثمانينات القرن المنصرم، حيث تدخل “الكيان الأعلى” للدولة العميقة ومنعت تصفية الوحدة بشكل كامل، مع تغيير في أيديولوجيتها ومفهوم عدوها، فأصبحت “روسيا” المأوى والحامي الجديد، فيما صارت “أمريكا” العدو والمستهدف الجديد، كما أن أيديولوجيتها أو هويتها تحولت من “القومية المحافظة المتطرفة” إلى “القومية الطورانية العلمانية المتطرفة”.
الجنرال المقدم “شنول أوزبك” المتقاعد من مجموعة التعبئة التكتيكية / وحدة العمليات الخاصة في الجيش قال في تصريحاته لصحيفة “طرف” التركية عام 2010 إن هناك فَرْقًا جوهريًّا بين الطريقة التنظيمية لهذه المجموعة قبل الانقلاب العسكري في 12 سبتمبر 1980 وتلك التي اتبعتها بعد انهيار الاتحاد السوفيتي إلى يومنا هذا. فهذه الفترة شهدت ثورة “إسلامية” في إيران عام 1979، وحدث بعدها بعام واحد انقلاب عسكري في تركيا، وتلت ذلك عاصفة التغيير في الاتحاد السوفيتي أيضًا. كل هذه التطورات أدت إلى تغير مفهوم التهديد لوحدة العمليات الخاصة. فقد زال تهديد الشيوعية ليحل محله تهديد جديد تحت مسمى “الرجعية الدينية” أو “الخطر الإسلامي”. أو يمكن أن تكون تلك الوحدة اعتبرتهما سابقًا تهديدين في آن واحد، لكن الأولى كانت التهديد الأكبر والأقرب. ونظرًا لأنني عملت ضمن هذه الوحدة فترة من الزمن، فإني أتذكر أنها كانت تروّج للطورانية، أي القومية التركية المتطرفة المفصومة عن الإسلام والمتافيزقيا، بعد أن كانت تختار عناصرها من المجموعات القومية المحافظة / المتدينة المعارضة للفكرة الشيوعية”.
وسلط المقدم أوزبك مزيدًا من الأضواء على التغير الحاصل في مفهوم التهديد لوحدة العمليات الخاصة قائلاً: “الوحدة التي كانت تختار عناصرها من مجموعات قومية محافظة بصورة أساسية تركت مفهوم القتال المسلح ضد الشيوعية و”الجيش الأحمر”، لتتشبث بمفهوم الكفاح غير المسلح الذي تقوده في الوقت الراهن المجموعات الطورانية القومية المتطرفة البعيدة عن الدين. واليساريون القدماء والماركسيون الذين تحولوا إلى الخط الكمالي أو الأيديولوجية الكمالية، ومجموعة “دوغو برينجك”، داخلون في هذا الصنف. فراحت العناصر القوية جسمًا ليأتي مكانها صحفيون وأرباب الكتاب والقلم وتنظيمات مدنية بقيادة زعماء غارقين في السن.. وهذه الوتيرة التي تطرَّقنا إليها هي التي تقودنا إلى معرفة ما يسمى بـ”تنظيم أرجنكون”، على حد تعبيره.
يمكن أن نستنتج من هذه التصريحات أن للدولة العميقة ذراعين رئيستين، وهما الذراع اليمينية الأطلسية الغربية والذراع اليسارية الأوراسية (الروسية الصينية الإيرانية)، وإن كانت لها أذرع أخرى تتفرع منهما. ويمثل وزير الداخلية الأسبق محمد أغار ورجاله الذراع اليمينية؛ في حين أن دوغو برينجك، زعيم حزب الوطن، وفريقه يمثلون الذراع اليسارية.
لكن بعد حملة الدمقرطة واللَّبْرَلة التي قادها الرئيس الأسبق طرغوت أوزال، والحكومتان الأولى والثانية لحزب العدالة والتنمية بقيادة أردوغان في مؤسسات الدولة، تمكنت أجهزة الأمن والقضاء والجيش من الكشف عن الذراع اليمينية للدولة العميقة وإرسال محمد أغار ورجاله خلف القضبان فيما بين الفترة من 1996، حيث بدأت قضية “سوسورلوك”، حتى بدايات الألفية الثالثة؛ وعن ذراعها اليسارية في الفترة من 2007 حتى 2012، حيث شهدت البلاد تحقيقات أرجنكون.
ومع أن هاتين الذراعين خاضتا في غمار صراع داخلي بينهما من تسعينات القرن الماضي حتى بدايات الألفية الثالثة، إلا أنهما دخلتا في تحالف وتضامن بعدما بدأت عمليات وقضايا تنظيم “أرجنكون” في 2007 في ظل حكم أردوغان، والتي أسفرت عن اعتقال أبرز أسماء الذراعين، في مقدمتهم محمد أغار ودوغو برينجك؛ لكن الأول خرج من السجن في 29 أبريل 2013، بعدما دخله في 25 أبريل 2012، قبل اكتمال عقوبته حتى 25 أبريل 2014، والثاني خرج في 10 مارس 2014، رغم حكم المؤبد الصادر في حقه، بعدما دخل السجن في 24 مارس 2008، وذلك بفضل تعديلات قضائية أجرتها حكومة أردوغان.
لقد تمكنت الذراع اليمينية الأطلسية واليسارية الأوراسية للدولة العميقة من إخراج قادتها وأعضائها من السجون بعد الاتفاق مع حكومة أردوغان مقابل إغلاق ملفات وفضائح الفساد التي طفت إلى السطح في نهاية عام 2013. ومنذ ذلك الحين يحكم تركيا تحالف يتكون من ثلاثة أطراف، كما اعترف به كتاب موالون للأطراف الثلاثة، وهم:
1) أردوغان ورجاله؛
2) اليمينيون المتطرفون بقيادة كل من محمد أغار وزعيم حزب الحركة القومية دولت بهجلي ووزير الداخلية سليمان صويلو؛
3) اليساريون المتطرفون بقيادة دوغو برينجك ورجاله.
نحو الشوط الأخير لمباراة أردوغان والدولة العميقة
الكاتب الصحفي المخضرم آدام ياوز أرسلان نشر يوم الأربعاء مقالا بعنوان “الأهداف الثلاثة التي سددتها الدولة العميقة إلى مرمى أردوغان”، زعم فيها أن مشروع القانون الذي مرره البرلمان مؤخرًا وخرج بموجبه كل المعتقلين الجنائيين، بمن فيهم زعماء المافيا من أمثال علاء الدين تشاكيجي، ما عدا سجناء الرأي مثل الكاتب والروائي المعروف أحمد ألتان، ورجال الأعمال مثل عثمان كافالا، والسياسيين مثل الزعيم الكردي صلاح الدين ديمرتاش، كان أحد الأهداف الثلاثة التي سددتها الدولة العميقة إلى مرمى أردوغان، على حد تعبيره.
وفصل الكاتب أن حليف أردوغان دولت بهجلي، الذي ينتمي إلى الذراع اليمينية الأطلسية للدولة العميقة، هو الذي يقف أساسًا وراء قانون العفو، وأراد به أن يخرج ما تبقى من القوميين المتطرفين من السجون، وعلى رأسهم علاء الدين تشاكيجي الذي سبق أن زاره في سجنه عام 2018، مشيرًا إلى أن الدولة العميقة أظهرت لأردوغان قوتها مجددًا من خلال إجباره على رفض استقالة وزير الداخلية سليمان صويلو الذي يمثل الدولة العميقة في الحكومة.
كل هذه التطورات تدل على أن التحالف بين أردوغان والدولة العميقة بذراعيها اليمينية الأطلسية واليسارية الأوراسية حول القضاء على الجهاز الأمني والقضائي العسكري الملتزم بالقانون والدستور لكشفه عن جرائم هذه الكيانات الثلاثة وصل إلى النهاية وستشهد الأيام القادمة صراعًا داخليًّا من أجل تصفية حسابات مؤجلة بينهم والتفرد في السيطرة على الدولة. ويبدو أن الدولة العميقة ستوظف زعماء المافيا الذين أخرجتهم من السجون في تنفيذ أعمالها القذرة بواقع تجربتها السابقة؛ في حين أن أردوغان سيلجأ إلى استخدام المليشيات شبه المسلحة التي دربتها شركة “صدات” الأمنية بقيادة مستشار أردوغان السابق الجنرال المتقاعد عدنان تانري كولو.
يبدو أن أردوغان سيبقى في الأيام القادمة وحيدًا بين أذرع أخطبوط الدولة العميقة بعد أن ألقى جميع حلفائه من الديمقراطيين والليبراليين لقمة سائغة أمام هذا الوحش ليلتهمهم بتهمة انتمائهم إلى منظمة فتح الله كولن “المختلقة”.