بقلم: علي بولاج
أشرتُ في هذا العمود إلى ساحات الصراع التي تهزّ منطقتنا بشكل عميق (8 مايو / أيار 2014).
واجتمعت كلها في ثمانية أنواع، وهي الأديان، المذاهب، الأقوام، الطبقات، الإدارات مع الشعوب، الأجناس، أنماط العيش العلمانية والمضادة للعلمانية، والجماعات. ويمكننا أن نضيف للمجموعة الأخيرة أيضًا منظمات المجتمع المدني.
هناك سببان للتوتر الحاصل بين الجماعات أو منظمات المجتمع المدني: أحدهما المنافسة النابعة من طبيعتها. والسبب الآخر هو تدخل الدولة في عملها. تكون الجماعات دائمًا في سباق محدد. وهذه المنافسة طبيعية إذا ما بقيت في حدودها الطبيعية. حتى إنها مقبولة ومحمودة في إطار مبدأ “التسابق في الخيرات”: “وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ” (البقرة – 148). وما يقع على عاتق الدولة إذا سعت جماعة للتحكمِ في سائر الجماعات وانتهاكِ حقوقها، أن تمنع ذلك، مع الالتزام بالقانون. وإذا اتخذت الدولة موقفًا مؤيدًا لهذه الجماعة أو تلك، تفقد حينها صفتها العادلة وغير المتحيزة.
إن أحدَ “الأساليب الانقلابية” الذي استخدمته الدولة وهي تحاول ترميم نفسها مرة أخرى عقب الكشف عن قضية الفساد والرشوة بتاريخ 17 – 25 ديسمبر / كانون الأول الماضي كان السعي لاستغلال التوتر القائم بين الجماعات أو منظمات المجتمع المدني، مما تسبّب في فقْدها لصفة العدل.
إن اتهام حركة الخدمة بحياكة مؤامرة ضد حكومة حزب العدالة والتنمية، من خلال عملية خلق تصور واسعة النطاق، أسهم في انضمام سائر الجماعات الأخرى بغريزة الحماية لديها إلى جانب الحكومة. وعلى الرغم من أنه ليس هناك أي شيء سوى اتهام بدون إثبات في هذه القضية، ومع أن “الاتهام ليس إثباتًا”، فإن الدولة التقليدية تحركت لتحصين نفسها مرة أخرى بشكل يتوافق مع الفلسفة التي تأسّست عليها. كما جعلت الجماعات أدوات صامتة توفر لها الدعم اللوجستي فقط، وذلك عن طريق زيادة مخاوفها.
لكن الجميع بدأ يفهم الآن أن انقلاب الدولة ليس موجهًا لحركة الخدمة وحدها. وتُظهر بعض الإجراءات التي أقدمت عليها الحكومة أن هذا الانقلاب واسع النطاق، منها محاولة تأميم مجموعةٍ أصلُها وروحُها مَدَنِيّة مثل رسائل النور، وكذلك إلغاء تراخيص بناء نزل الطلاب للجماعات التابعة للشيخ “سليمان طوناخان” من الذين منحوا أصواتهم لأحزابٍ غير الحزب الحاكم في الانتخابات المحلية التي أجريت في 30 مارس / آذار الماضي.
لا تكفي أن تفقد الجماعات التابعة للقطاع العام خصائصها المدنية، فهي تكون قد قبلت إجبارها على أن تبقى داخل الإطار الذي حددته لها الدولة. وقد أعاقت الحكومة الشيخ “محمود أوسطا أوغلو” من الرد على طلب معلّمين ومرشدين دينيين من قبل الشيشانيين الذين يحتاجون إلى أبعاد الرحمة والأخوة والغنى المعنوي والكمال الأخلاقي والتضامن الاجتماعي والاستقرار الداخلي وجمال العبادات والتعلم للدين بعيداً عن العنف والصراع المسلح. وإن معيار التزام أي مجتمع بالحريات والقانون مرهون بقضية مَن يقول الكلمة الأخيرة. ويتألف المجتمع من الجماعات والمنظمات المدنية، فإذا كانت السلطة هي التي تقول الكلمة الأخيرة انطلاقًا من “الإرادة الوطنية” أو الأغلبية – التي لم يعُد معمولاً بها – كما أشار الكاتب “أرجون أوزبودون”؛ فإن أول من يُهضَم حقه هي الجماعات.
لقد أظهرت الوتيرة المتواصلة منذ ديسمبر / كانون الأول 2013 إلى الآن كم أن الجماعات جُعلت مرتبطة وتابعة للقطاع العام وأيديولوجية الدولة. لكن من الخطأ أن نحصر هذا الأمر على الأشهر الستة الماضية فقط؛ إذ شهدنا قبل ذلك بكثير كيف أن الذين فكّروا بتحويل فصيل من فصائل المجتمع وفق تنبؤاتهم من خلال معادلة السلطة صاحبة الإرادة الوطنية والأغلبية، عمدوا إلى وضع المخططات لتصفية الجماعات التي لم تخضع لهم، وربط الجماعات التي خضعت لهم بالدولة. وهناك ركيزتان لهذه المخططات: إحداهما تضييق الخناق على الجماعات من خلال التشريعات المساء استغلالها. وثانيهما “تشكيل جماعة في مواجهة الجماعات”.
إن فكرة تشكيل جماعة ضد الجماعات هي فكرة فئة ترغب في اتخاذ الرؤية العالمية وتفسير الدين ومشروع الدولة أساسًا لها من أجل إعادة هيكلة القطاع العام. وليس لهذه الفئة أدنى قرابة بحركة الفكر الوطني التي أسسها المرحوم “نجم الدين أربكان”. ولأنه لم يسبق أن كان لهم حضور قوي في هذا المجال من قبلُ فهم يعتبرون هذه السلطة فرصة كبيرة لهم للظهور والبروز. ومثلما خرّب الاتحاديون (نسبة إلى جمعية الاتحاد والترقي) السياسة الخارجية، فإن هذه الفئة المهمّشة تبدر منها أخطاءٌ جسيمة في مجال السياسات الاجتماعية الداخلية من خلال المقترحات التي تقدمها للحكومة. وترى هذه الفئة أو الجماعة أنه ينبغي عليها أن تفعل الشيء نفسه الذي تفعله الجماعات المؤثرة معتمدةً على قوة السلطة. وبينما تفعل هذه الفئة ذلك ستبادر السلطة الحاكمة إلى تصفية “الجماعات السلبية”، وستدعم الفئة التي تصفها بـ”الإيجابية”، والتي هي ليست بجماعة في حد ذاتها. ولا شكّ أن هذه الفكرة أو العقيدة ليست بصحيحة ولا تتوافق مع مبادئ الإسلامي، فضلاً عن أنها تتضمّن الكثير من المخاطر.