بقلم: ماهر المهدي
القاهرة (زمان التركية)ـــ استقبلني الزملاء في شركتنا التي تعاقدت معها بالترحاب مهنئين بسلامة الوصول إلى العاصمة الجميلة بغداد، بينما انخرط جمع منا في إعداد مائدة العشاء. فقد كانت اقامة العاملين في الشركة جماعية في فيلات أو بيوت، ولم تكن الظروف تسمح باقامات فردية لأحد، ولو كان كبير القامة أو حصيف المكانة.
أعجبتني هذه الروح الجماعية اللطيفة التي تقودها المودة والالتزام، فلم أتوقف كثيرا عند أسباب عدم الاقامة في منازل أو شقق منفردة – مراعاة لخصوصية الناس – واندمجت مع الزملاء في سمر طويل في تلك الليلة، حتى غلبننا التعب وآوى كل إلى غرفته استعدادا ليوم جديد.
غلبني النوم والتعب، فنمت من فوري غير عابء بما سرى إلى قلبي من قلق بسيط، لأستيقظ في صباح الغد أكثر نشاطا وتركيزا، فصليت ثم خرجت إلى الزملاء وإلى ساحة البيت حيث يجتمعون على الشاي والإفطار. وقد لاحظت أن جو العراق يكاد يطابق الجو في مصر بشكل غريب. فاذا كان بردا في القاهرة كان بردا في بغداد، واذا كان حارا في القاهرة كان حارا في بغداد. وقد اسعدني ذلك وأراحني نفسيا وساعدني على التركيز فيما حولي. فلم أرى عمائرا تقريبا فيما حولنا، ولكن بيوتا أو فيلات فقط من دور أو دورين تتوسط فناء أو ساحة. فلما ذكرت للزملاء ملاحظتى هذه، قالوا نعم : فسكنى البيوت في العراق أساس وكرامة، أما سكنى الشقق في العمائر فسكنى غير محببة إلى العراقيين ولا يرحب بها كثيرون أو يرون فيها سكنى لائقة. ولذا، فلكل بيته أو فيلته الخاصة ومأوى أسرته وعنوانه. وقد استحسنت هذا الفكر، لكونه مريحا، غير أنه يتعلق برخاء المجتمع وسخائه وقد لا يتاح هذا الفكر – عمليا – في بلاد أخرى تعوزها الإمكانات.
تجمع الزملاء لتقلنا سيارات الشركة معا وأنصرفنا إلى أعمالنا مقبلين على مهامنا في حبور. ولم يكن مقر الشركة بعيدا. كان النهار مشرقا مشمسا، كأنه يقبل الناس والمدينة ويأخذ الجميع في حضنه الدافىء رغم أنه يوم من أيام الشتاء. وكانت السيارة تسير ببطء ريثما تتخطى الحواجز الأمنية العديدة التي سيطرت على الطريق، حتى خرجت السيارة إلى الشارع العمومي المزدحم بالسيارات والباعة والمحلات التجارية في الاتجاهين. كان الشارع يعرف باسم شارع المنصور على ما أذكر. وبعد قليل ظهرت طائرة هليوكوبتر حربية فجأة من حيث لا ندري، وراحت تطير على مستوى منخفض، حتى لكأنها تهم بأن تترك الطيران لتسير على الطريق كسائر السيارات. وكم هو غريب هذا الشعور، والمرء يسير وهو يرى طائرة حربية على بعد أمتار فوق رأسه، بينما الناس جميعا يقودون سياراتهم ناظرين إلى الأمام، كأن ما تعلونا من طائرة حربية لا وجود لها، أو لكون الناس اعتادوا الطائرات فوق رؤوسهم فلم يعودوا يبالون.
وصلت السيارة سريعًا إلى مقر الشركة، فقفزت أنا والزملاء إلى المبنى نشيطين وانخرط كل في عمله حتى اقتربت الساعة من الثانية والنصف بعد الظهر، حيث دعا مدير فرع الشركة العاملين جميعا إلى غداء بأحد المطاعم المنتشرة في شارع جعفر المنصور. فلما سألت عن السبب، عرفت أن دعوة الغذاء هى دعوة مستمرة يتناوبها كبار المسؤولين في الشركة لاضفاء روح من الود على العاملين جميعا ورفع روحهم المعنوية وإذكاء وتيرة العمل. فكان غداء كل يوم في مطعم مختلف نقابل فيه بالترحاب والكرم العراقي والأطباق العراقية الشهية ونقضي ساعات عدة من السمر على طاولة الغداء الممتد. فلم يكن أحد ينكر ما يحيط بالحياة في المدينة من مخاطر وظروف حرجة في ذلك الوقت، حتى أن الشركة ضاعفت أجور جميع العاملين – من كافة الفئات والمستويات – ليرضوا بمواصلة العمل ولا يطالبوا بمغادرة العراق. وكان الجميع – رغم الضحك والسمر – يخفي قلقا وخوفا مما قد يأتي به الغد. ولذا، كانت محاولات وجهود الترفيه وتنمية الثقة والثبات بين العاملين جميعا مستمرة وهامة، خاصة وأن صوت طلقات الرصاص المتقطع لا يدع مجالا واسعا لأحد لينسى أين هو. فقد يحتاج المرء إلى بعض الوقت لتعتاد أذنه على صوت طلقات الرصاص وتمميزها، ولكنه سرعان ما يعتاد على ذلك، فهو صوت خطير ويحمل معان لا تقبل الهزل.