مراد ياتكين
إن كان الهدف الرئيس وراء عمليات الاعتقال التي شنتها السلطات الأمنية التركية يوم الأحد الماضي (14 ديسمبر/ كانون الأول) ضد مجموعة من الصحفيين والكتّاب التستّرَ على أعمال الفساد التي تكشفت وقائعها في 17 ديسمبر/ كانون الأول 2013 وإبعادَها عن أذهان الرأي العام فإن هذه العملية لم تكلل بالنجاح المأمول.
والمتأمل لتصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تعقيبًا على انتقادات الاتحاد الأوروبي لهذه الاعتقالات وقوله: “إنه ليس من حق الاتحاد التدخل في أمور تخص القضاء في تركيا وإن عليهم أن يركزوا فى شؤونهم الخاصة” يمكنه أن يدرك جيدًا أن أردوغان يقطع الغصن الذي يستند إليه.
وإذا كان الهدف من عملية 14 ديسمبر التي طالت صحيفة “زمان” التابعة لحركة الخدمة ورئيس تحريرها أكرم دومانلي ورئيس مجموعة “سامان يولو” الإعلامية هدايت كاراجا، هو مسح عملية الفساد والرشوة في 17 ديسمبر من الأذهان.. – أردد على أسماعكم مرة أخرى إذا كان الهدف من العملية الأولى محو الثانية من أذهاننا – فأقول إن هذا المخطط باء بالفشل الذريع.
بالأمس كانت الذكرى السنوية الأولى لفتح تحقيقات أكبر قضية فساد شهدتها الجمهورية التركية في تاريخها والمتهم فيها أربعة وزراء وابناء وزراء ورجال أعمال مقربين من حكومة حزب العدالة والتنمية.
إن ملفات تحقيق قضية الفساد أغلقت بالفعل في مثل هذا اليوم (أمس) من العام الماضي أي بعد مرور 365 يوماً على فتحها. وتم إغلاق هذه الملفات من قبل المدعين العموم والقضاة المعيّنين في محاكم الصلح والجزاء التي شكّلها أردوغان خصيصًا للتستر على هذه الأعمال. وذلك عقب إجراء سلسلة من التعديلات في جهاز القضاء.
لكن ثمة سؤال يمكن طرحه في هذا المقام وهو: “هل هذه الادعاءات والملفات التي أغلقت في دار العدل (المحكمة) أغلقت أيضًا في ضمير الشعب؟ لا يمكن الإجابة عن هذا السؤال في ضوء نتائج الانتخابات التي خاضها أردوغان وفاز أولا في الانتخابات المحلية في 30 مارس/ آذار الماضي ثم في رئاسة الجمهورية في 10 أغسطس/ آب. ذلك لأن ضمير الشعب لا يحدد بفترات الانتخاب.
وثمة مسألة أخرى تتعلق بهذا الموضوع؛ هل تتذكرون الوزراء الأربعة الذين أبقاهم أردوغان خارج التشكيل الوزاري الجديد لاتهامهم بالفساد والرشوة في ملف 17 ديسمبر، قبل أن يلصق أردوغان بحركة الخدمة تهمة الانقلاب على الحكومة وتشكيل كيان موازٍ. وهم معمر جولار وزير الداخلية السابق، وظفر تشاغلايان وزير الصناعة والتجارة السابق، وأردوغان بيرقدار وزير البيئة والتخطيط العمراني السابق، وأجمان باغيش وزير الدولة السابق المسؤول عن شؤون المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي.
وكما تعلمون، فإنه بفضل مبادرة رئيس اللجنة القانونية بالبرلمان التركي التابع لحزب العدالة والتنمية حقي كويلو وقرار القضاء التركي المستقل صدر قرار بحظر النشر والكتابة عن الأنشطة التي تقوم بها اللجنة البرلمانية لتقصي الحقائق للمرة الأولى.
إلا أن بعض المجموعات الإعلامية الرافضة لمحاولات إسكات الصحافة وتكميم أفواهها من قبل الحكومة لم تعترف بهذا الحظر- الذي أزعج حتى شخصيات مهمة في صفوف العدالة التنمية – وبادرت إلى نشر محاضر استجواب الوزراء المتهمين. وكلما واصلت نشر تلك المحاضر بدأ الشارع التركي يطلع على الأقوال التي أدلى بها الوزراء السابقون بخصوص الاتهامات الموجهة إليهم والتي يُفهم منها أنهم اعترفوا ببعضٍ من تلك الاتهامات.
لا تنسوا أن أعمال اللجنة ستنتهي في 26 ديسمبر المقبل
لكن هل ياتُرى يأمل البعض في أن تتم تبرئة الوزراء الأربعة بأصوات حزب العدالة والتنمية بحجة أنهم ضحايا أبرياء للكيان الموازي من خلال عملية 14 ديسمبر يوم الأحد الماضي ضد الصحفيين؟ أو حتى هل هناك من يخطّط لذلك؟
بالمناسبة، رفع رجل الأعمال التركي من أصل إيراني رضا ضراب، دعوى قضائية ضد زعيم حزب الحركة القومية دولت بهتشلي على خلفية وصفه بـ”الدجال والمشعوذ”. وكان بهتشلي قد طالب المحكمة بإحضار ملف بابك زنجاني – زعيم ضراب حسب الادعاءات – الذي تجري محاكمته في إيران بسبب تورطه في أعمال فساد ورشوة. وبحسب الخبر الصادر في صحيفة “حريت” التركية، فإن ضراب سحب دعواه لدى المحكمة. حسنا، ولكن لماذا سحب ضراب هذه الدعوى يا ترى بحسب رأيكم؟
حرب تصريحات نارية مع الاتحاد الأوروبي
أردوغان يقول إن عمليات اعتقال 14 ديسمبر ليست لها صلة بحرية الصحافة إنما هي تحقيق حول مكيدة مدبرة ضد مجموعة “تحشية” ومؤامرة انقلابية. ويصرح في أحد لقاءاته، موجهاً كلمته للاتحاد الأوروبي “إنه ليس من حق الاتحاد التدخل في أمور تخص القضاء في تركيا وإن عليهم أن يركزوا في شؤونهم الخاصة”.
لاغرابة في ذلك لا سيما وأن الحكومة سبق أن رفعت الشعارات نفسها بحق الصحفيين والكتّاب الذين تم اعتقالهم في إطار قضيتي تنظيم أرجينيكون واتحاد المجتمعات الكردستانية، وقالت “إنه لاتتم محاكمتهم جرّاء ما يكتبونه أو يتحدثون عنه، بل لتخطيطهم للقيام بانقلاب على لحكومة والإطاحة بها”. وفي الحقيقة كان كتّاب صحيفة” زمان” يقبلون ادعاءات الحكومة هذه، إلا أن هذا المقام ليس مقام الحديث عن هذا الموضوع. ولعلهم يريدون أن يُحاسبوا على مشاركتهم في تلك الادعاءات فيما بعد.
وقال رئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو خلال كلمته ما مضمونه إن التحقيقات لا تتعلق بمزاولتهم مهنة الصحافة وإنما تتعلق بمخططات الانقلاب على الحكومة. في الواقع ليست هناك دولة في العالم تقول صراحة إنها تزج بالصحفيين والكتّاب في السجون لأنهم يمارسون مهنة الصحافة. فلتنظروا إلى روسيا والصين؛ فجل اتهاماتهم للصحفيين إما التجسس أو الإرهاب أو التخريب. أما في تركيا فأصبحت تهمة محاولة الانقلاب على الحكم من الوقائع العادية جدًا.
انظروا، لقد مَثَلَ أول من أمس 35 مشجعًا من رابطة مشجعي نادي بشيكتاش، المعروفة باسم “تشارشي الذي يفوق عدد أنصارها جماهير النادي نفسه أمام القاضي بتهمة محاولة الانقلاب على حكومة حزب العدالة والتنمية. وبصراحة أحببت كثيرًا، بصفتي مشجعاً لنادي بشيكتاش، دفاعهم عن أنفسهم قائلين: “لو كانت لدينا كل هذه القوّة لكنّا جعلنا نادينا يحصل على بطولة الدوري”.
وأعربت المفوض الأعلى لشؤون السياسة الخارجية والأمنية للاتحاد الأوروبي فيدريكا موغيريني عن دهشتها الشديدة إزاء اعتقالات الصحفيين والكتّاب الأتراك. إذ قامت في الأسبوع الماضي بزيارة إلى أنقرة. وقال لها أحد المسؤولين البارزين بالحكومة التركية إنهم أعلنوا هذا العام “عام أوروبا” وإنهم يتطلعون لعضوية الاتحاد الأوروبي والمستويين الديمقراطي والاقتصادي لأوروبا وإنه سيكون مناسبا ورائعا إذا قام الاتحاد بفتح باب المفاوضات مرة أخرى.
لكن الأمر بدأ يأخذ منحى مختلفا بتصريحات أردوغان حيث قال إنه ليس من حق الاتحاد التدخل في أمور تخص القضاء في تركيا وعليه أن يحتفظ بنصائحه لنفسه. ولأن فيدريكا موغيريني ليس لديها باع طويل في فهم أردوغان تندهش لأنها لاتزال في المرحلة الأولى من “مدرسة مبادئ أردوغان في بداية مشواره السياسي”. غير أن تحدّي الاتحاد الأوروبي والمواجهة معه إلى هذا الحدّ يعني أن أردوغان يقطع الغصن الذي يستند إليه.
وربما يكون هدف أردوغان، بصفته رئيس الجمهورية من تحدياته هذه “للعقلية الصليبية” هو استعراض عضلاته ليحصل على أصوات الناخبين في الانتخابات البرلمانية في 2015 خاصة إن لم يثمر الحوار الكردي عن نتائج إيجابية إلا أن ذلك يعتبر قطعاً للغصن الذي يستند إليه أردوغان على المدى البعيد.
لماذا؟ لنحاول الآن شرح ذلك.
عندما قام كل من أردوغان وعبد الله جول وبولنت آرينتش وباقي رفاق الدرب بتأسيس حزب العدالة والتنمية في عام 2000، كان الحزب يختلف عن حركة “الرؤية الوطنية” لمؤسسها نجم الدين أربكان في نقطتين أساسيتين من الناحية السياسية. كان أربكان ينحاز إلى فكرة “النظام العادل” في الاقتصاد. وفي الواقع كان هذا النظام عبارة عن خليط من الدولتية الاشتراكية العربية والتشاركية الوهمية الطوباوية، وكان يرى الدفاع عن اقتصاد السوق مشاركة في الأخطاء القاسية للرأسمالية. وأربكان كان يعارض الاتحاد الأوروبي. وكان ينظر إلى الاتحاد على أنه “نادٍ مسيحي” وامتداد للعقلية الصليبية. وكان ينوي أن يؤسس سوقاً مشتركاً مع الدول الإسلامية. ودعا إلى ضرورة تأسيس سوق إسلامية مشتركة على أن يكون الدينار الإسلامي عملة موحدة بدلا عن اليورو.
أما أردوغان ورفاق دربه فاتخذوا من المعايير السياسية والاقتصادية للاتحاد الأوروبي أساسًا وقاعدة لهم وانفصلوا عن أربكان والإسلام السياسي. وأطلقوا على أنفسهم “الديمقراطيون المحافظون”؛ أو على الأقل نحن اعتبرناهم هكذا. فكان من المفترض أن يكسر اقتصادُ السوق الدولتيةَ في الاقتصاد ويخفض تدخلات السياسة فيه إلى مستويات أدنى، وأن تكون المبادئ الديمقراطية للاتحاد الأوروبي دواء ناجعاً لمعضلة الانقلابات العسكرية التي عانت منها البلاد كثيراً لعقود طويلة.
أما النقطة التي وصلنا إليها فهي: أن الحكومة توزّع اليوم المناقصات العامة على الشركات المؤيدة لها على نحو لا يمكن مشاهدته حتى في حكومات ائتلافية، بعد إجراء تعديلات على قانون المناقصات أكثر من مائة مرة؛ وصارت المحسوبية والتمييز المعيار الوحيد في توظيف الكوادر بدلاً عن امتحان اختيار الموظفين للقطاع العام؛ وازداد التلاعب بجهاز القضاء من خلال تنفيذ تغييرات فيه من أجل إغلاق ملفات الفساد بينما المطلوب سنّ قوانين جديدة للكشف عن ممارسات الفساد.
والآن يستعدّ أردوغان لخوض الانتخابات المقبلة بتحدّيه الاتحاد الأوروبي بعد تحدّيه واشنطن بوصفه “زعيماً يتحدّى العالم أجمع”.
نعم إن رئيس حزب الشعب الجمهوري كمال كيلتشدار أوغلو يقول على سبيل التهكّم والاستهزاء “إن عين أردوغان على مجموعة شنغهاي الخماسية”، إلا أن حال روسيا التي تتزعّمها ظاهر للجميع.
ولهذا السبب أقول إن أردوغان يقطع الغصن الذي يستند إليه.