بقلم: محمد أبو سبحة
القاهرة (زمان التركية) – بإصرار عجيب حول أردوغان كل حلفائه في تركيا خلال سنوات قليلة إلى أعداء؛ إصرار أردوغان على خسارة رفقاء الأمس، كان مبتغاه أن لا يبقى سواه على رأس الهرم، لا يسمح لأحد أن ينافسه الزعامة ولا يشاركه الرأي ولا يتقاسم معه السلطة، رافضًا توريث زعامته الروحية والسياسية لأحد.
يرى في نفسه الزعيم والقائد والسياسي المحنك والاقتصادي الفذّ، من غير المقبول أن يعارضه عبد الله جول ولا أن يناقشه أحمد داود أوغلو ولا أن يقترح عليه على باباجان ولا أن ينصحه فتح الله جولن ولا أن يحلم بمنافسته أكرم إمام أوغلو أو صلاح الدين دميرتاش… كل هولاء وغيرهم بما قدموا لأردوغان ليصنع مجده، حولهم الرئيس التركي إلى أعداء خونة مارقين متآمرين على الأمة.
اعتبر أردوغان أن كل من خالفه الرأي من رفاقه اختار أن ينزل من القطار في منتصف الطريق، وفي الحقيقة أنه هو من أفرغ قطاره المسرع نحو الهاوية، من جميع المخلصين، ومنع أن يتقرب إليه أحد آخر خشية أن يدهسه بتسلطه.
ضحى أردوغان بتحالفه القوي مع حركة الخدمة، واختار الانقلاب عليها خوفًا من أن تقاسمه السلطة، مستبدلا ذلك بالتحالف مع كيان الدولة العميقة، وبدلا من أن يحافظ على موقف صلب منح عدوه القديم صانع الانقلابات فرصة طعنه بالخنجر الذي طعن به حليفه حركة الخدمة التي صنفها منظمة إرهابية، لتلاحق حزب العدالة والتنمية الآن تهمة أنه كان في السابق “الذراع السياسي لحركة إرهابية” أي أن السحر انقلب على الساحر.
بعدما تراجعت شعبية الحزب الحاكم، على إثر القمع الواسع الذي تبع محاولة انقلاب 2016 والتي فاق عدد المعتقلين بسببها 30 ألف شخص، فيما يزيد المفصولون عن العمل للسبب ذاته 130 ألف شخص، اختار أردوغان أن يتحالف مع القوميين حتى لا يخسر أغلبية البرلمان، فخسر في عام واحد العشرات من كوادر العدالة والتنمية الذين احتجوا على انسياق أردوغان وراء انحرافات حزب الحركة القومية، فاستقال عدد من مؤسسي الحزب البارزين أمثال أحمد داود أوغلو وعلى باباجان وعبد اللطيف شنار، وتبعهم المئات، متهمين أردوغان بالانحراف بشكل كبير عن قيم ومبادئ العدالة والتنمية التي بدأ بها مشواره السياسي في 2001.
مُني حزب العدالة والتنمية بخسارة فادحة في الانتخابات البلدية عام 2019، بعدما أصر أردوغان على تحويلها إلى معركة يستفتي فيها على شعبية الحزب الحاكم، رغم كونها مجرد انتخابات محلية، راح يهدد ويتوعد حزب الشعب الجمهوري والحزب الكردي المعارضين ليذيقه الحليفان مرارة الهزيمة في البلديات الكُبرى والبلديات الكردية بانتخابات 31 مارس/ آذار، وأصر أردوغان مجددا على إهانة تاريخه السياسي وتاريخ رئيس البرلمان المستقيل للترشح على منصب عمدة بلدية إسطنبول بن علي يلدريم متحديًا أكرم إمام أوغلو، الذي فاز رغمًا عنه بأصوات أهالي إسطنبول مرتين وبتقدير وتعاطف محلي ودولي.
لايزال صلاح الدين دميرتاش قابعًا في سجن أدرنة منذ ثلاث سنوات مع نوب أكراد سابقين، بعد أن كان حزبه الشعوب الديمقراطي يقود بجدية عام 2015 الوساطة بين حكومة العدالة والتنمية وحزب العمال الكردستاني لإنهاء حالة العداء المندلعة بينهما منذ 30 عامًا، لكن رفض دميرتاش وحزبه القبول بفكرة تحول تركيا إلى نظام الحكم الرئاسي، ومزاحمتهم العدالة والتنمية في البرلمان فتح عليهم تهم الإرهاب ودعم العمال الكردستاني والسعي للانفصال عن الدولة.
الشعب التركي فوض أردوغان لتقليص نفوذ الجيش والدولة العميقة، فصمم لهم بعد سنوات نظام حكم ديكتاتوري كما في سوريا التي دخلها رافعًا راية تخليص السوريين من ديكتاتورية بشار الأسد، فتحالف فيها مع روسيا وإيران الأشد ديكتاتورية، وبات الشعب التركي يرى أنه في ظل نظام الحكم الرئاسي، وحالة القمع الأمني الواسعة ومصادرة حرية الرأي يعيش أوضاعًا لا تختلف عن انقلاب 1997، بسبب رغبة أردوغان في الانتقام من كل معارضيه على اختلاف أطيافهم، بزعم مكافحة مدبري انقلاب 2016 أو من أسماهم “الكيان الموازي”.
في الحقيقة أن خسارة أردوغان لم تعد داخلية فقط، وإنما تخطت حدود تركيا، إذ إن قسمًا كبيرًا من السوريين، على سبيل المثال، باتوا يرون أن الرئيس التركي الذي أغلق حدود بلاده في وجههم منذ 2016 ولا يزال يتفاخر بإيوائه اللاجئين السوريين بينما يفكر في ترحيل ثلثيهم، خدعهم بقوله إنه سيسقط بشار الأسد ويحرر سوريا ويصلي معهم في المسجد الأموي الذي زاره مؤخرا فلاديمير بوتين مع بشار، إذ إن الرجل المتحالف مع روسيا وإيران اللتين تدعمان بقوة بقاء الأسد في السلطة، منذ أن وجه مسلحي المعارضة السورية، لقتال الأكراد في سوريا وورطهم بهذه القضية ذات البعد القومي لتركيا، خسرت المعارضة جميع الأراض التي سيطرت عليها لسنوات في انهيار متسارع بدأ من غوطة دمشق الشرقية في 2018، في ظل الانشغال بمعركة عفرين ضد وحدات حماية الشعب الكردية، وما تبعها في شرق الفرات.
الأمر كذلك فيما يتعلق بالأيغور الذين بعدما تصدر أردوغان قضية الدفاع عنهم، تراجع تحت تهديدات الصين الاقتصادية معلنا من بكين العام الماضي أمام الرئيس الصيني أن الأيغور ذوي الأصول التركية يعيشون في سعادة بإقليم شينجيانج! وسيتكرر الأمر أيضا مع مسلمي كشمير الذين أعاد أردوغان قضيتهم إلى الواجهة مجددا عقب زيارته هذا الشهر باكستان.
إن الحفاظ على صورة الرجل الأوحد أو زعيم العالم الإسلامي التي في مخيلة أردوغان، تتحكم في إنهاء علاقاته وتحالفاته مع كل من يحاول المساس بهذه الصورة، داخليًا على سبيل المثال إذا أراد أحد الحديث معه عن العودة إلى الديمقراطية والكف عن إلقاء الأخطاء على شماعة المؤامرات، أو خارجيا عند التصدي لتدخلاته العابرة للحدود ورفض التجسس على معارضيه وتسليمهم.
_____________
*محمد أبو سبحة
كاتب صحفي، باحث في سياسة جنوب غرب آسيا