بقلم: ياوز أجار
إسطنبول (زمان التركية) – مع أن نجم الدين أربكان الملقب بـ “أبو الإسلام السياسي في تركيا” حصل على الدكتوراه من جامعة “آخن” الألمانية في هندسة المحركات عام 1956، إلا أنه انخرط في السلك السياسي عندما انتخب عضوا برلمانيا مستقلا عن مدينة قونيا وسط تركيا في 1969.
في 17 يناير 1970، شكل أربكان “حزب النظام الوطني” مع 17 من زملائه، ليصبح أول حزب ذي توجه إسلامي منذ تأسيس الجمهورية التركية العلمانية في عام 1923 على يد مصطفى كمال أتاتورك. لكن قبل أن يمضي على تأسيس الحزب عامٌ حتى بادرت المحكمة الدستورية في 20 مايو 1971 إلى حله، بدعوى مزاولته أنشطة مخالفة للعلمانية، بعد إنذار قائد القوات الجوية في ذلك الوقت محسن باتور.
أربكان غادر تركيا إلى سويسرا بعد إغلاق حزبه، ثم عاد مرة أخرى إلى البلاد قبل إجراء الانتخابات العامة في 1973. وسيقت عديد من الادعاءات فيما يتعلق بقرار عودته إلى تركيا، منها أن الجنرالين محسن باتور وطرغوت سونالب من أعضاء شعبة التعبئة التكتيكية / شعبة العمليات الخاصة أقنعاه بالرجوع إلى تركيا بهدف تقسيم أصوات حزب العدالة بقيادة سليمان ديميريل وإقامة توازن بين الأحزاب السائدة في البلاد.
الكاتب والصحفي المعروف بمؤلفاته حول الدولة العميقة / أرجنكون، فاروق أرسلان زعم أن الجنرال سونالب أجبر أربكان على العودة إلى تركيا بطائرة خاصة، بعدما كان يدرّس في إحدى الجامعات السويسرية، وكلفه بقيادة “الإسلام السياسي” وتأسيس الرؤية الوطنية (ملي جوريش)، من أجل السيطرة على الطرق الصوفية والجماعات الإسلامية في البلاد.
بعد العودة أسس أربكان في 11 أكتوبر 1972 “حزب السلامة الوطني” مع الكوادر ذاتها التي أسست حزب النظام الوطني السابق، وحصل على 12% من أصوات الناخبين ليتمكن من إرسال 48 مرشحًا إلى البرلمان في انتخابات 1973، ويصبح شريك الحكومة الائتلافية مع حزب الشعب الجمهوري برئاسة بولند أجاويد في مطلع عام 1974.
حاول أربكان فرض أجندته الإسلامية على هذه الحكومة، حيث نجد أنه تقدم إلى البرلمان بمشروع ينص على تحريم الماسونية في تركيا وإغلاق محافلها، وأسهم في تطوير العلاقات مع العالم العربي، وأظهر مواقف مؤيدة للشعب الفلسطيني ومعادية لإسرائيل، غير أن ذلك اقتصر على المستوى الخطابي في كثير من الأحيان، واستمرت العلاقات الإستراتيجية معها في عهده دون أي انقطاع.
إلا أن هذه الحكومة تلاشت في 17 سبتمبر 1974 بسبب الخلاف بين أربكان وأجاويد حول عملية جزيرة قبرص، التي جاءت ردًا على دعم المجلس العسكري اليوناني للانقلاب على نظام الحكم في قبرص، وانتهت بانتصار القوات التركية، بعد استقرار حوالي 35 أو 40 ألف جندي تركي في شمال الجزيرة، الأمر الذي أدى إلى سقوط المجلس العسكري اليوناني بعد ثلاثة أيام، ومن ثم إعلان استقلال جمهورية شمال قبرص التركية الحالية في 15 نوفمبر 1983. فقد كان أربكان يدافع عن ضرورة السيطرة على الجزيرة كلها؛ بينما احتاط أجاويد في ذلك خشية اعتراضات دولية. وقد وصفت كل من جمهورية قبرص اليونانية واليونان والأمم المتحدة والمجلس الأوروبي هذه العملية بالاحتلال، فضلاً عن أن الولايات المتحدة اتخذت قرارا بحظر بيع السلاح لتركيا في فبراير 1975.
انضم حزب السلامة الوطني في مارس 1975 إلى حكومة الجبهة القومية الأولى التي شكلها “حزب الحركة القومية” و”حزب الثقة الجمهوري”، ليصبح أربكان نائب رئيس الوزراء مجددًا. وكذلك احتفظ بمنصبه هذا في حكومة الجبهة القومية الثانية التي تشكلت في يوليو 1977 بين أحزاب “العدالة” و”الحركة القومية” والسلامة الوطني.
ومن ثم قدم حزب السلامة الوطني دعمًا من الخارج لحكومة الأقلية التي شكلها حزب العدالة في 1979. وكان الصراع بين اليمين واليسار في الثمانينات وصل إلى أوجه، وقد أخذت المليشيات شبه المسلحة المتكونة من التشكيلة الشبابية التابعة لحزب السلامة الوطني دورًا كبيرًا في الصراع المسلح بالشوارع ضد الشيوعيين، وساهمت بذلك في انتشار الفوضى والشغب في البلاد. واتهمته اليسارية الكردية بالسعي للحصول على رضا جنرالات انقلاب 12 مارس 1971، بسبب مشاركته في حكومتي الجبهة القومية الأولى والثانية.
في عام 1980 قدم أربكان مشروع قانون لمجلس النواب يطالب الحكومة بقطع علاقاتها مع إسرائيل، ومن ثم نظم حزبه في 6 سبتمبر 1980 مظاهرة كبيرة ضد القرار الإسرائيلي بضم مدينة القدس. وهو الأمر الذي اعتبره الجيش، حامي النظام التقليدي في البلاد، القشة الأخيرة التي قصمت ظهر البعير، واستغلها رئيس الأركان العامة في ذلك الوقت كنعان أفرين كذريعة لإجراء انقلاب عسكري والإطاحة بالحكومة واتخاذ قرار بتعطيل الدستور وحل الأحزاب واعتقال الإسلاميين إلى جانب اليساريين. وكان أربكان دخل السجن مع 21 من زملائه في 15 أكتوبر 1980 بتهمة “أنشطة رجعية مخالفة للعلمانية” و”السعي لإقامة دولة الشريعة”.
ثم خرج أربكان من السجن في 24 يوليو 1981 في عهد حكومة طرغوت أوزال، وواصل حياته السياسية هذه المرة من خلال “حزب الرفاه” الذي أسسه في 19 يوليو 1983 وترأسه المحامي علي توركمان، لينتخب أربكان رئيسًا عامًّا للحزب في 11 أكتوبر 1987 بعد رفع حظر ممارسة السياسة المفروض عليه، وعضوًا برلمانيًّا من مدينة قونيا مرة أخرى في انتخابات 1991.
ومن اللافت أن حزب الرفاه، بالتزامن مع إقامة مؤتمره العام الرابع في 1993، بدأ يضمّ أعضاءً من ضباط وجنرالات سبق أن توظفوا في شعبة التعبئة التكتيكية / دائرة الحرب الخاصة / شعبة العمليات الخاصة أو المخابرات الوطنية. وقد فسر بعض أعضاء الحزب هذا التطور بأن تنظيم “كونتر غريلا”، الاسم الذي كان يطلق على الدولة العميقة آنذاك، بدأ يسيطر على حزب الرفاه أيضًا.
حركة ملّي جوريش بقيادة أربكان حققت أكبر انتصار لها طيلة تاريخها السياسي عندما تبوأ حزب الرفاه المرتبة الأولى بين الأحزاب في انتخابات ديسمبر 1995، بعدما حصد أصوات 21.37 بالمئة من الناخبين، وحصل على 158 مقعداً من أصل 550 مقعدًا في البرلمان. مع ذلك فإن أربكان لم يستطع تأسيس الحكومة في البداية، بسبب ضغوطات العسكر والأطراف العلمانية المتطرفة، ليتولى حزبا الطريق القويم والوطن الأم مهمة تشكيل حكومة ائتلافية. لكن عمر هذه الحكومة لم يستمر طويلاً، فتحالف أربكان في يونيو 1996 مع حزب الطريق القويم برئاسة تانسو تشيلر، وشكل حكومة ائتلافية معها ليصبح لأول مرة رئيس الوزراء في 28 يونيو 1996، وتصبح تشيلر نائبته ووزيرة الخارجية في الوقت ذاته.
من أهم الأحداث التي شهدتها تركيا في عهد أربكان، تلك التي سميت بـ”فضيحة سوسورلوك” التي تكشفت فيها لأول مرة الدولةُ العميقة للرأي العام بعد حادثة مرور في نوفمبر 1996 تعرضت لها سيارة كانت على متنها شخصيات مهمة من رجال الدولة وعالم السياسة والمافيا. لكن أربكان تعرض لانتقادات شديدة، خاصة من قبل الأكراد والليبراليين، لمحاولته الحد من أهمية الحدث، ووصْفه الادعاءات المتعلقة بالدولة العميقة بـ”القيل والقال”، و”الإشاعات” و”الكلام التافه”، وعدم أخذ زمام المبادرة للكشف عن ذلك التنظيم، بالإضافة إلى استهزاء وزير العدل شوكت كازان من المواطنين الذين شاركوا في تظاهرة “دقيقة ظلام من أجل نور دائم” من خلال إطفاء الأنوار في منازلهم كل مساء بعد فضيحة سوسورلوك مطالبين بإجراء تحقيق شامل يزيح الستار عن كل أبعاد هذه الدولة العميقة وعلاقاتها.
حكومة أربكان قدمت أداء جيدًا في السنة الأولى بحيث حققت تركيا خلال عام واحد (1996 – 1997) نموًّا اقتصاديًّا بلغت نسبته 7.5%. وطغى على حكم أربكان خلال أقل من عامٍ النزعة الإسلامية كما هو منتظر، بحكم أنه يعتبر الأب الروحي للإسلام السياسي في تركيا. إذ نرى أنه حاول الانفتاح بعمق على العالم الإسلامي، من خلال زيارات مثيرة بدأها بليبيا وإيران. واستقباله من قبل الرئيس الليبي معمر القذافي في مخيمه المعروف أثار ضجة كبيرة بين الأوساط العلمانية في تركيا، واتهموه بتحويل مسار البلاد من “العالم المتحضر” إلى “دول المخيمات” أو “دول الأعراب”، على حد تعبيرهم. كما أن الإعلام العلماني والإسلامي أشعلا نقاشًا حادَا بين المبادئ العلمانية الأتاتوركية للدولة وبين الشريعة الإسلامية، وشهدت تركيا من حين لآخر تظاهرات ضد الحكومة استخدمت خلالها هتافات من قبيل: “لن تصبح تركيا إيران؛ لن تتحول تركيا إلى نظام الملالي”.
ومن الإنجازات المهمة التي حققها أربكان وأثارت حفيظة العلمانيين المتشددين أيضًا تشكيله في 1997 “مجموعة الدول الثماني الإسلامية النامية” التي ضمّت -إلى جانب تركيا- أكبر سبع دول إسلامية: إيران وباكستان وإندونيسيا ومصر ونيجيريا وبنغلاديش وماليزيا، التي يبلغ عدد سكانها مليار نسمة، أى ما يوازي 14% من سكان العالم.
وعلى الرغم من أن أربكان حاول عدم استفزاز المؤسسة العسكرية الحساسة في قضية العلمانية والسياسة الخارجية، وسعى للتماشي معها بالحفاظ على العلاقات مع إسرائيل، إلا أن ذلك لم يشفع له في حماية حكومته من مواجهة الحرب النفسية التي قادها الجنرالات العلمانيون، خاصة أولئك الذين على صلة بالدولة العميقة / أرجنكون لتبدأ بعدها مرحلة استمرت حوالي خمس سنوات وسميت بـ”مرحلة 28 فبراير 1997 الانقلابية”.
ومن الأحداث التي استفزّت العسكر “أمسية القدس” التي نظّمها رئيس بلدية “سنجان” في العاصمة أنقرة التابعة لحزب الرفاه بكر يلديز، بخضور السفير الإيراني في تركيا، مما أشعل نقاشًا حول تحول حكومة أربكان إلى بؤرة لأنشطة رجعية تسعى إلى تقويض أساس الدولة العلمانية، وفقًا لرؤية المؤسسة العسكرية والمسيطرين على الجهاز البيروقراطي التقليدي.
وقد اعترف كثير من الأسماء الوازنة في حزب الرفاه في وقت لاحق أن تنظيم هذه الأمسية رغم تكهرب الأجواء في البلاد لم يكن تصرفًا حكيمًا، وأن رئيس البلدية انساق وراء تحريض شخصيات مرتبطة بإيران.
وفي 4 فبراير 1997، طافت 15 دبابة و20 عربة ومدرعة عسكرية في بلدة سنجان بالعاصمة أنقرة، ردًا على أمسية القدس، في مشهد اعتُبر “تحذيراً عسكرياً” للحكومة. وفي 21 فبراير 1997، علق نائب رئيس الأركان العامة جفيك بير على طواف الدبابات في شوارع أنقرة بقوله: “قمنا بضبط موازنة الديمقراطية في البلاد”.
في مارس 1997 دعت تشيلر، شريكة أربكان في الحكومة، إلى تنفيذ مطالب العسكر، وبناء على ذلك شكّل أربكان “لجنة تنفيذية” من عدة وزراء من حزبه لمتابعة القرارات التي أصدرها مجلس الأمن القومي حول مكافحة الرجعية. إلا أن كل هذه التنازلات لم تمنع النائب العام لدى المحكمة العليا من إصدار قرار بحل حزب الرفاه بشكل دائم في 21 مايو 1997، بدعوى “تحوله إلى مركز للفعاليات والأنشطة المعادية للدستور ومبادئ العلمانية للجمهورية التركية”.
واضطر أربكان في نهاية المطاف إلى التوقيع على ما سمي “قوانين مكافحة الرجعية” التي ادعى زعيم حزب العمال اليساري آنذاك دوغو برينجك أنه من حرر 10 من نصوص تلك القرارات وأن أربكان وقع عليها طواعية، للحد من مظاهر الدين في القطاع العام، خاصة الجامعات، ومن ثم أعلن عن استقالته من منصبه في 18 يونيو 1997 للحيلولة دون تطور الأحداث إلى أسوأ.
ومع أن المحكمة الدستورية قضت في عام 1998 بحظر حزب الرفاه وفتح تحقيق مع أربكان بتهمة انتهاك مبادئ الدولة العلمانية، ومنعه من مزاولة النشاط السياسي لخمس سنوات قادمة، إلا أنه عاد إلى الحياة السياسية بحزبه الرابع تحت اسم “حزب الفضيلة” وأداره من خلف الستار حتى إغلاق هذا الحزب أيضًا في عام 2000 للحجج ذاتها.
لكن أربكان لم ييأس وعاد مرة خامسة بعد انتهاء مدة الحظر ليؤسس هذه المرة حزبه الأخير “حزب السعادة” في عام 2003، غير أن السلطات القضائية طاردته في العام ذاته وهذه المرة بتهمة اختلاس أموال حزب الرفاه المنحل البالغة 1 تريليون ليرة، وقضت عليه بالسجن سنتين، غير أن الرئيس عبد الله جول أصدر عفوا رئاسيا عنه في 18 أغسطس 2008 بسبب تقدم عمره وتدهور حالته الصحية.
وقد توفي الزعيم السياسي المخضرم، أبو الإسلام السياسي في تركيا، في 27 فبراير 2011، عن عمر ناهز 84 عاماً، وحضر حفل تشييع جثمانه كبار الدولة من الساسة والمؤسسة العسكرية، إلى جانب زعماء إسلاميين، منهم المرشد العام السابع لجماعة الإخوان المسلمين محمد مهدي عاكف، ورئيس حركة النهضة في تونس راشد الغنوشي، وممثلون عن حركة حماس وغيرهم.
–