سادات لاتشينار
أصبح تاريخ 17 ديسمبر/ كانون الأول 2013 بمثابة ميلاد حقيقي للحياة السياسية التركية… فقد تغيرت الموازين بشكل يصعب معه العودة إلى حالتها الأولى؛ إذ شهدت تركيا ما يشبه “الزلزال السياسي” بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ… وانتهى التحالف القوي الذي كان قائمًا بين حزب العدالة والتنمية وحركة الخدمة بالكامل يوم 17 ديسمبر، ناهيك عن مناقشة مسألة مَن كان محقًا ومن كان مخطئا… وفي الوقت الذي اتسعت وقويت فيه رقعة الجبهة المعارضة لحكومة حزب العدالة والتنمية، زاد شعور الحكومة بأنها محاصرة من كل جانب.
أطلقت المعارضة وجماعة الخدمة على ما حدث في تركيا يوم 17 ديسمبر “عملية الفساد والرشوة”، فيما وصفتها الحكومة ومؤيدوها بـ”محاولة الانقلاب”، وبدأ الطرفان يكيلان لبعضهما التهم بارتكاب الجرائم… واليوم يتواصل الصراع بين وجهات النظر المتعارضة نفسها…
وكما قلتُ، فإن النقاش حول مَن كان محقًا ومن كان مخطئا سيستمر طويلًا. أما ما يهمني في هذا المقام فهو تصرفات الحكومة والدولة وأخطاؤهما في هذه العملية. ذلك أننا في الوقت الذي يمكن أن نواجه فيه أخطاء جماعة الخدمة، ليس هناك أية جهة أخرى يمكن أن نشتكي إليها الدولةَ إذا ارتكبت الدولة ذاتها أخطاء كبيرة. أي إنني هنا لن أنضم إلى بعض المثقفين الذين يقفون على “جبل الأعراف” مِن الذين يرون الدولة التي تخطئ هي “أهون الشر” ويقولون “نؤثر الدولة على الجماعة”. ولن تبقى هناك أية جهة تستقبل شكوانا إذا ما أخطأت الدولة عمدًا فإلى مَن ستشتكون في ظل بيئة تحولت فيها الدولة إلى طرف من أطراف النزاع؟
ولهذا، فإنني لا أنظر إلى القضية على أنها واقعة تخص جماعة الخدمة أو محاولة للانقلاب على الحكومة، بل أنظر إليها من وجهة نظر لزوم بقاء الدولة عادلة وديمقراطية. وإذا كان مَن تكافحونه هو الجماعة أو أكبر مجرم في البلاد، فإذا كنتم تعلّقون الحريات ولا تستخدمون القانون بطريقة صحيحة وتقمعون حريات التعبير والصحافة في سبيل تحقيق القصد والقضاء على المستهدف بسبب جسامة عدوكم فإن سلبيات هذا الأمر تكون أكبر بكثير من إيجابياته.
ليس هناك أي شيء أخطر من دولة أصبحت طرفًا في قضية وعقدت العزم على الانتقام. ولهذا السبب، إن خيرتموني بين جماعة حاولت الانقلاب (لو فرضنا المحال) على الحكومة وبين دولة استغلت كل الطرق (الشرعية منها وغير الشرعية) للانتقام من تلك الجماعة وسعت بشتى الأساليب للقضاء عليها، فسأقول لكم إنه ليس هناك أي شيئ أخطر من الدولة الفاسدة. فإذا تغيرت طبيعة الدولة وأضحت طرفًا في صراعات القوة، فإنكم تفسدون أنفسكم وتصلون إلى نقطة لا تستطيعون العودة عنها، بينما كنتم تطمحون للقضاء على خطر كبير مزعوم أو متوهم.
الصراع مع الجماعة يضر بالمبادئ الأساسية
قناعتي الشخصية تقول إن ما حدث عقب الكشف عن فضيحة الفساد والرشوة الكبرى يوم 17 ديسمبر 2013 هو أن حكومة حزب العدالة والتنمية انتقلت إلى وضعية الدفاع. وبادرت إلى مهاجمة الطرف المقابل بكل ما وقع تحت يديها. وكانت تظن وهي تقوم بذلك أن هناك محاولة انقلاب ضدها مع إيمانها بأن عليها فعل كل ما يلزم من أجل الحيلولة دون إنجاح هذه المحاولة ووقوع الانقلاب فعلا.
وفي الواقع، كانت المشاعر نفسها تسيطر على جماعة الخدمة التي لم تدخر أي شيئ مما أتيح أمامها من إمكانيات. لكن كما قلت في السابق، فإن أكثر ما يهمني هنا هو ما فعلته الدولة، وليس ما فعلته الجماعة. فإذا تعدّى القاضي على حقوقي، فما هي الجهة التي سأشتكيه إليها؟ وإذا انتهكت الدولة القانون مرة واحدة في حق أحد الناس ولم أدافع عن حقه، فمن سيضمن حقي حينما يحين الدور عليّ؟
إذا كانت الدولة تنتهك مبادئ حصانة الملكية الشخصية، التي تعتبر أحد أهم مبادئ الاقتصاد الليبرالي، وسائر مبادئ السوق الحرة الأخرى، تحت دعوى “القضاء على الجماعة”، فما الذي تنتظرون أن يبقى في بلد إذا قضيتم حتى ولو على ألف جماعة؟
وفي هذا الإطار، أعتقد أن أهم المبادئ القانونية انتهكت في تركيا في سياق دعوى “الانتقام من الجماعة” و”القضاء عليها”. وأذكر بعض الوقائع كمثال على انتهاك القانون الذي تحدثت عنه، ومنها الإجراءات التعسفية التي فرضتها السلطات على شركة كوزا لتشغيل المعادن لسبب وحيد هو أن صاحبها يميل إلى جماعة الخدمة. والمعاملة السيئة التي يلقاها كل شخص أو شركة مقربة من الجماعة. لم أرَ صاحب ذلك المنجم، ولو مرة واحدة في حياتي، كما لا تجمعني به صلة قرابة من قريب أو بعيد، لكن إذا كان هناك منجم في بلد كتركيا يستطيع أن يعمل وفق القواعد السياسية، وليس القواعد الاقتصادية، فيعني ذلك أن البلد قد أوشك على مواجهة مشاكل أكبر من جماعة تخطّت حدودها. وأعتقد أن هذه الوضعية مخالفة للمبادئ الأساسية التي يتبناها حزب العدالة والتنمية بصفته حزبًا ليبراليًا يمينيًا.
إذا أصبح رجال الأعمال والتجار غير قادرين على مزاولة أنشطتهم التجارية بسبب الصراعات السياسية في دولة ما، فإن الاقتصاد والسياسة في تلك الدولة يتداخلان مع بعضهما البعض، ويصير الخروج من هذا المأزق مستحيلًا…
نرى أن حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا خلال الفترة الأخيرة بأحداثها المتلاحقة، تسيطر عليه مشاعر الخوف والهلع ويبادر إلى اتخاذ إجراءات تتجاوز قصده تحت تأثير هذا الخوف.
شهدت تركيا في الفترة الأخيرة أحداثًا مهمة مثل احتجاجات منتزه جيزي بارك، والكشف عن فضيحة الفساد والرشوة يومي 17 و25 ديسمبر / كانون الأول 2013، وكارثة منجم سوما وغيرها من الكوارث الاجتماعية.كما وقعت اشتباكات مع الأنظمة الحاكمة في دول قريبة من تركيا كمصر وأوكرانيا، الأمر الذي ولّد شعورًا لدى السلطة الحاكمة باحتمالية وقوع انقلابات ضدها، ولذلك بدت لايستطيع التمييز بين المعارضة الحادة والانقلاب على الحريات والديمقراطية وتخطئ في رسم الحدود بينهما (الانقلاب والمعارضة الحادة).
إن بعض منظّري الحزب الحاكم الذين بدأوا يرون أن كل حادثة في البلاد تقف وراءها قوة خارجية سرية اجتازوا الخط المعقول في هذه الفرضية الارتيابية. ووجّه بعض المسؤولين في الحزب، بين الحين والآخر، تهمة”الخيانة والتحالف مع القوى الخارجية” إلى أحزاب سياسية قانونية مثل حزب الشعب الجمهوري، والحركة القومية، والسلام والديمقراطية. وبالطريقة نفسها، عمدت الحكومة إلى البحث عن يد جماعة الخدمة وراء كل سيئة أو مشكلة تحدث في البلاد…
ألصقوا بالجماعة تهمة الوقوف وراء الأحداث الدامية التي شهدتها تركيا مطلع أكتوبر/ تشرين الأول الماضي تضامنًا مع حصار مدينة كوباني (عين العرب) السورية. واتهموها بالتعاون مع منظمة حزب العمال الكردستاني، في وقت تتواصل فيه اللقاءات والمفاوضات بين الحكومة التركية وزعيم المنظمة عبد الله أوجلان المسجون في إيمرالي غرب تركيا ومع قادته في جبال قنديل بشمال العراق، الأمر الذي يشير إلى أن ما نسمعه إنما هو نتيجة للمخاوف وحس الارتياب التي ذكرناها.
ولعلكم تذكرون أنهم ألصقوا بجماعة الخدمة تهمة إنزال العلم التركي من السارية في قاعدة عسكرية بولاية ديار بكر في وقت سابق من العام الجاري. بيد أن السلطات الأمنية ألقت القبض على مرتكب تلك الجريمة ليظهر أن حزب العمال الكردستاني كان هو المنفذ لها. وهذا يبرهن لنا على أن المشكلة تجاوزت جميع الخطوط المعقولة، ووصلت إلى مستوى جنون الارتياب (بارانويا) أو أنهم ينقلون كل مسألة إلى النقطة نفسها عن عمد…
هناك مجموعة من الناس يعتقدون أن الحكومة يمكن الانقلاب عليها في أية لحظة. وربما يتصرف هؤلاء الناس بنية حسنة لكنهم يتحكم فيهم الخوف والهلع ويستبيحون كل شيء من أجل إيقاع الضرر والأذى بحركة الخدمة، بل للتمكن من القضاء عليها. بيد أن ردود أفعال حادة كهذه تضر ضررا أكثر بصاحبها وبالبلاد كذلك بطبيعة الحال.
والأسوأ في هذه الوتيرة هو أننا بدأنا نشهد أنهم (الحكومة وأردوغان) يهجمون أيضا على مَن يحذّرهم والذين يقولون لهم “توقفوا عما تفعلونه، فهذه ليست الطريقة الصحيحة للتعامل مع الوضع القائم”… فأصحاب الأقلام المنصفة والموضوعية والحيادية يجدون صعوبة في التعبير عما يشعرون ويرون من الحقائق بسبب خوفهم على مستقبلهم إن عارضوا أصحاب السلطة…
لقد وصل الاستقطاب في تركيا إلى مستوى خطير لدرجة أن القضية أصبحت عبارة عن دعم طرف في مواجهة الطرف المقابل ولم يعد قول الحق والحقيقة مهما… فلو خرج علينا جلال الدين الرومي أو يونس أمره أو حتى أحد الخلفاء الراشدين العظام، ربما لم يستطعوا شرح خواطرهم أو مشاعرهم لأنهم أيضا قد يتعرضون للرجم بين الأقطاب المتنازعة في هذه الأجواء المضببة…
عملية 14 ديسمبر
إذا انتقلنا للحديث عن العملية التي شنتها الشرطة التركية يوم 14 ديسمبر/ كانون الأول الجاري. سنجد أن قسمًا كبيرًا من المعتقلين هم صحفيون وكتّاب ومنتجو ومخرجو أفلام وكتّاب سيناريوهات بل إن من بينهم مصممو رسومات جرافيك لمسلسل تليفزيوني والمتدرّبين في هذه المهنة وممثلون أدّوا أدوارًا في ذلك المسلسل…
إذا نظرنا إلى الادعاءات، نستطيع أن نرى أن الاتهامات الموجَّهة ضد المعتقلين والأدلة التي تستند عليها ليست خطيرة أو قوية كي تستوجب على الشرطة شن عملية كبيرة بهذا الحجم وإثارة كل هذه الضجة. ويبدو أنه من الصعب علينا أن نفهم مغزى اعتقال الأشخاص الذين ذكرناهم أعلاه من قِبل فرق مكافحة الإرهاب ونقْلهم إلى مديرية الأمن في جو يوحي للإنسان بأن هناك عملية كبيرة وخطيرة للغاية…
إضافة إلى ذلك أن التحدث عن”الشبهة المعقولة” أثناء عملية الاعتقال هذه يضر كثيرًا بالقضاء والحكومة بل بسمعة تركيا أيضا. فما الذي سيخطر على بال مَن يتابع هذه التطورات في الوضع الراهن من الخارج، ربما يقولون: “إذا كان هؤلاء الأشخاص مجرمين خطيرين إلى هذه الدرجة وإنهم حاولوا الانقلاب على الحكومة فلماذا تعتقلهم الشرطة بعد عام كامل من بدء التحقيق في فضيحة الفساد والرشوة الكبرى؟ ولماذا لم نشهد هذه العملية في شهر مارس/ آذار أو أغسطس / آب الماضيين مثلا وشهدناها مع اقتراب حلول الذكرى الأولى للكشف عن فضيحة الفساد؟”
لاشك في أن أجوبة هذه الأسئلة كافية لإشعارنا بالقلق البالغ فيما يتعلق بنهاية الصراع القائم حاليًا في تركيا: يقول فريق الدفاع إن السبب الأول لشنّ هذه العملية في هذا التوقيت بالذات هو الانتقام من حركة الخدمة (لأن الحكومة وأردوغان يريانها كمنفذ لعملية الكشف عن فضيحة الفساد والرشوة) ومحاولة التستر على ادعاءات الفساد.. أما الإجابة الثانية على هذا السؤال فتقول إن هذه العملية جرت عقب إتمام التعديلات المطلوبة في جهاز القضاء أي تحوُّل هذا الجهاز إلى أداة تأييد لسياسة لحكومة.
أقولها صراحة إن الجوابين خطيران للغاية، ولا يضران بمبادئ القضاء العادل والمستقل فقط، بل يضران أيضا وبالقدر الأكثر بمبادئ حزب العدالة والتنمية وقيمه…
كان حزب العدالة والتنمية قد بدأ رحلته السياسية بوعد تطهير الدولة من الفساد وإعلاء كلمة القانون والنهوض بمستوى الحريات. لكني أرى أن ما تشهده تركيا منذ عام يضر بهذه القيم، والأسوأ من ذلك هو أن هذه التصرفات السلبية التي تسجل في ميزان الحزب الحاكم تجعل بعض الشخصيات المعروفة بالفضيلة والنبل يتعرضون لظنون سيئة ولاداعي لها من قبل الرأي العام.
*من موقع internethaber