القاهرة (زمان التركية)ــ يعتبر البحث العلمي في العصر الحديث مصدر قوة الدول وسر نهضتها؛ عن هذه الحقيقة نشر الكاتب نبيل نجم الدين، مقالا حول عوائد الاستثمار في الأبحاث والعلوم، جاء فيه:
لاشك أن المشهد الدولي يحمل علامات واضحة عن أهمية العلم والعلماء، ويظل الاستثمار في البحث والتطوير مؤشرا رئيسيا للقوة الاقتصادية للدولة على المدى الطويل.
فالدول التي تتمتع بنفوذ وتأثير في عالم اليوم هي تلك الدول التي جاد عليها علماؤها ومراكز البحث فيها بمنتجات واختراعات لا تملكها دول أخرى.
وفي مقارنة بسيطة وسريعة عن تأثير العلم والعلماء، وعن عائد الاستثمار في مراكز الأبحاث العلمية نجد أن الدولة العظمى الأولى في العالم وهي الولايات المتحدة الأمريكية تخصص ما يقرب من نصف تريليون تقريبا من الدولارات للتعليم والعلم والعلماء ومراكز البحث العلمي.
في ذات السياق نجد أن الدولة العظمى الثانية في عالم اليوم وهي الصين والتي تحتل المرتبة الثانية في الاستثمار على مراكز البحث العلمي، تنفق ما يقرب من 400 مليار دولار على التعليم وبرامج البحث العلمي وهكذا تتوالى الدول المتقدمة في ميزان التفوق النسبي، فتحتل مراكز في جدول النفوذ والقوة والتأثير الدولي تتفق بشكل كبير مع حجم إنفاقها على التعليم والعلم والعلماء ومراكز البحوث.
وبالرغم من أن الإنفاق والاستثمار في مجالات التعليم والبحث والتطوير قد يكون من الصعب معرفة ما إذا كان سينتهي إلى نجاح في كل مرة ينفق فيها أم لا، وأحيانًا قد تستغرق النتائج المرجوة عقودا قبل بلوغها،
إلا أن الشيء المؤكد أنه كلما أنفقت الدولة على التعليم والعلم والعلماء ومراكز البحث العلمي، كلما حازت على مكانة متقدمة بين الدول تتفق نسبياً مع استثماراتها في هذا المجال، كما تتفق هذه المكانة مع حجم إنفاق هذه الدولة بالنسبة للدول الأخرى، فإذا كان ترتيب أول عشر دول نفوذا في العالم يتفق مع إنفاقها على التعليم والعلم والعلماء، تنطبق ذات القاعدة على الدول العربية،
ووفقًا لبيانات معهد اليونيسكو للإحصاء، فإن أربع من دول العالم هي : الولايات المتحدة والصين واليابان وألمانيا تنفق ما يصل إلى تريليون دولار سنويًا على البحث والتطوير، وهي الدول التي تستحوذ بقدر كبير من النفوذ والتأثير الدوليين..
وتشير ذات الإحصاءات إلى أن في الولايات المتحدة 4295 باحثًا لكل مليون نسمة، مقابل 1096 باحثًا في الصين لكل مليون نسمة الأمر الذي يؤكد بوضوح هيمنة أمريكا على سوق البحث والتطوير، فهي تنفق ما نسبته 27% من إجمالي الإنفاق العالمي في مجال التعليم والعلم والعلماء ومراكز البحث العلمي، وهو الإنفاق الاستثماري الذي يفوق بكثير ما تنفقه مائة دولة أخرى مجتمعة.
في الحقيقة ينبغي علينا قبل أن نسهب في سرد الأرقام والإحصائيات والنسب المئوية أن نتعرض بالشرح والتحليل لموقف الدول العربية من هذه القضية، وعلينا قبل أن نتحدث عن الاستثمار والإنفاق السنوي بين الدول العربية على مراكز البحث العلمي والعلماء، أن نتأمل قليلاً في حجم الإنفاق السنوي على التعليم بمراحله المختلفة، ابتداء من التعليم الأساسي فالثانوي حتى التعليم الجامعي.
فليس من المنطق أن نتكلم عن قمة الهرم قبل أن نتناول بالشرح والتفسير ما يجري في القاعدة، وقبل أن نضع الأساس المتين حتى نتمكن من تشييد الطوابق الأولى لهذا الهرم المجتمعي.
في هذا السياق وفي إطار هذه الرؤية يمكن القول إن الإنفاق المالي ليس فقط هو العنصر الحاسم لإحداث النهضة العلمية والمجتمعية.
فكم من دول لا تمتلك ثروات طبيعية بحجم الثروات التي تزخر بها بلادنا استطاعت خلال عقدين أو ثلاثة عقود، وفيما يشبه أعمال السحر، أن تتحول مجتمعاتها ودولها من حال إلى حال، وأكبر مثال على ذلك ماليزيا وسنغافورة وكوريا الجنوبية، وقبلهما الصين واليابان والهند، فقد اهتمت هذه الدول جميعا بالتعليم، وأعادت النظر في برامجها التعليمية، واستثمرت في العنصر البشري وهو المعلم فكرمته وأكرمته، ودربته وهيأته للمهمة المقدسة ألا وهي مهمة بناء الأجيال.
فالإنفاق على العلم والعلماء وحدهما لا يكفيان، بل علينا أن نبدأ من التعليم الأساسي، وأن نجعله فرضا على كل أسرة عربية، ويُعاقبُ كل أب لا يهتم ويحرص على إرسال وانتظام أبنائه إلى المدارس، مهما كانت الحالة الاجتماعية للأب أو الأم.
ويجب أن تستثمر الحكومات العربية في مراحل التعليم الابتدائية والإعدادية والثانوية، فتنفق على كل مكوناته من فصل صحي، ومقعد صحي، ومعلم مؤهل أمين، وبيئة تعليمية جاذبة للتلاميذ، وليست كما البيئات الطاردة لهم في مدارس بعض بلداننا، تلك التي تخلو من المعايير الدولية اللازمة لنجاح العملية التعليمية، وأبسطها توفير مساحات خضراء في المدارس وتوفير أماكن لممارسة الأنشطة الرياضية، وتزويد المدارس بمعامل تسمح للتلاميذ قبل الطلاب الاقتراب من النظريات والابتكارات والآفاق العلمية الرحبة.
إن وجود المعامل المزودة بوسائل التجارب العلمية وتشجيع الطالبات والطلبة على فكرة التجريب هي الخطوة الأولي في طريق البحث العلمي،
ويبدو أننا في العالم العربي في أمس الحاجة لإعادة النظر في مفاهيم التربية والتعليم، وفي رؤية الإعلام والفن للعلم والتعليم والعلماء.
ولا أبالغ إن أشرت إلى أن توفير وجبة مجانية للأطفال في مدارس التعليم الأساسي هو من أكبر الاستثمارات في مهمة بناء وتأمين الوطن، فهذه المكونات تحبب الناس وتجذب أولادهم وبناتهم إلى التعليم والعلم.
بالطبع لن يكون كل خريجي الجامعات علماء، لكن الاستثمار في تعليم وتنمية القدرات البشرية هو الذي يخلق البيئة المواتية لازدهار مفهوم العلم والنهضة في المجتمع.
هكذا فإن قضية التعليم والعلم في بلادنا هي «قضية أمن معرفي» يضاف لمفاهيم الأمن القومي، فالدولة التي تستورد منتجات العلم والعلماء هي دولة تابعة، ولا نبالغ إذا قلنا إن استقلالها لم يكتمل بعد، وهذا بعد آخر مهم جدا في قضية الاستثمار في العلم والعلماء ومراكز البحوث.
فالصين تمكنت من خلال الاهتمام ببرامج التعليم والبحث العلمي، أن تحقق الاكتفاء من احتياجات شعبها، ثم أعادة النظر في هيكلية ورؤية وإستراتيجية الدولة والمجتمع فيما يسمى بالثورة الثقافية.. وذلك لكسر الحصار الذي فرض عليها.. فنجحت في ذلك ثم انطلقت ترد الصاع صاعين وثلاثة لمن أرادوا تجويعها وحصارها.
ويحضرني في هذا المقام الصراع الكبير الشرس الدائر بين شركة هاواوي الصينية والرئيس الأمريكي ترامب، وهذا الهلع الذي تسببه شركة صينية واحدة متخصصة في تكنولوجيا الاتصالات لكل دول الرأسمالية الغربية العتيدة.
إذن على الحكومات العربية أن تعيد ترتيب الأولويات في ميزانياتها.. فالمواطن العربي يمتلك كل ما تحتاجه مسألة الإبداع والابتكار، فقط يحتاج في الأساس إلى النسق التعليمي، والنسق التربوي، والنسق الثقافي، والنسق المجتمعي العام الذي يفرض ويعظم ويهتم ويشجع ويحتفي بالتعليم والعلم والعلماء التعليم والتطور والبحث العلمي الذي محطته الأخيرة هي الإبداع والابتكار.
ثم يأتي قضية إعادة النظر في مسألة تقدير الحكومات العربية للمعلم ابتداء من معلم رياض الأطفال حتى أستاذ الجامعة، فلا يمكن أن يكون راتب المعلم أقل من نظيره في أي دائرة حكومية أخرى كما يحدث في عدد من بلداننا العربية، بل يجب أن يكون أعلى وأكبر لأن المدرس يبنى إنسانا، وهذا المنتج البشري إما أن يكون عالما مبدعاً مضيفاً للقيمة الإجمالية للوطن أو يصير شخصاً غير مفيد.
وفي هذه الأيام التي سيطر العلم فيها بابتكاراته ومنتجاته المتميزة على كل مجالات الحياة.
لا يوجد خيار أمام الدول والمجتمعات سوى الاهتمام بالتعليم والمعلم ومراكز الأبحاث العلمي والعلم والعلماء هذا إن كانت تنوي حجز مقعد في قطار الحياة والبقاء في القرن الحادي والعشرين الذي انطلق منذ عشرين عاماً.
فأما أن نلحق بهذا القطار المنطلق بسرعة مذهلة، أو يفوتنا هذا القطار الذي لا وسيلة غيره للوصول.. ويا لتعاسة من لا يعمل على اللحاق به.
–