بقلم: ياوز أجار
القاهرة (زمان التركية) – نشرت مجلة الأهرام العربي في عددها الـ1174 مقالاً للكاتب والمحلل السياسي التركي محمد عبيد الله (وهو الاسم المستعار الذي كنت أستخدمه سابقا لأسباب أمنية) بعنوان “حروب صنعها أردوغان لاستعادة السلطة”، تناول الحروب التي اختلقها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من أجل استعادة السلطة والشرعية بنوعيها السياسي والأخلاقي بعدما فقدهما عقب فضائح الفساد والرشوة في عام 2013 وانتخابات 7 يونيو 2015.
نقدم إليكم المقال كاملاً:
حروب صنعها أردوغان لاستعادة السلطة
هناك ثلاث حروب رئيسية “صنعها” الرئيس التركي رجب طيب أردوغان للتغطية على فشله والنهوض بعد سقوطه في كل مرة. حربه الأولى استهدفت ما أسماه “الكيان الموازي”، والثانية “أكراد تركيا”، والثالثة “منظمة فتح الله جولن…”. وقد خرج من جميع هذه الحروب منتصرًا، ليخوض اليوم في غمار حرب رابعة ضد “أكراد سوريا” لعلها تعيد له شعبيته المتدهورة.
يتفق المحللون على أن أردوغان قد يحقق من خلال حربه الرابعة انتصارًا محصورًا في السياسة الداخلية، لكنهم يؤكدون على أنه سيكون الخاسر الأكبر على المديين المتوسط والبعيد، وقد يؤدي إلى سقوط حكمه في أول استحقاق انتخابي مبكّر.
الحرب على الكيان الموازي
بعدما فقد شرعيته الأخلاقية عقب انكشاف الستار عن فضائح قضايا الفساد والرشوة في 2013 والمتورط فيها رجال حكومته وأفراد أسرته، دخل أردوغان مصنع “الدولة العميقة” الزاخر بمخططات المؤامرات والمكائد، فخرج منه بمنظمة اسمها “الكيان الموازي”، فأعلنه “العدو” الذي يريد الإطاحة بحكمه، ثم شنّ “حربًا” عليه، فنجح بفضلها في استرداد شرعيته الأخلاقية في عيون مؤيديه على الأقل، وتصفية “الجهاز البيروقراطي الوطني” (المؤسسة الأمنية والقضائية) وإعادة تصميمه حسب هواه، باستبدال قادة تلك المؤسسات بعناصر من حزب العدالة والتنمية.
شكّلت تحقيقات الفساد والرشوة فى 17 ديسمبر عام 2013، منعطفًا تاريخيًّا فصل بين حكومة أردوغان والقوى الديمقراطية في البلاد، وعلى رأسها حركة الخدمة، التي أصبحت بعد هذا التاريخ “شَمَّاعة” يعلق عليها أردوغان كل فشل يتعرض له في سياسته الداخلية والخارجية.
الحرب على أكراد تركيا
إلا أن التنويم المغناطيسي الجماعي الذي مارسه أردوغان على مؤيديه لم يستمرّ طويلاً، حيث كان يجري مفاوضات مع حزب العمال الكردستاني منذ 2011 بدعوى إقامة “السلام الكردي”، رغم أنه كان يعتبره “إرهابيًّا”، وزعيمَه عبد الله أوجلان “رأس الإرهابيين”. وقام الإعلام بتصوير أردوغان على أنه الزعيم الذي سيوحّد من خلال هذا السلامِ الأتراك والأكراد، على غرار حركة توحيد ألمانيا التي حققها رئيس الوزراء الألماني آنذاك أوتو فون بسمارك!
لكن ما مضى وقت حتى تبين أنه يهدف من وراء هذه المفاوضات إلى تحقيق مكاسب سياسية عابرة كنقل تركيا من النظام البرلماني إلى الرئاسي بـ”النكهة التركية”، في إطار “اتفاقية سرية” بينه وبين أوجلان تحقِّق للطرفين مصالح شخصية وحزبية فقط بدلاً من تحقيق المصلحة للشعبين. مع ذلك فإن مفاوضات السلام ملأت أشرعة الأكراد بالرياح، وأعادت الثقة إلى حزب الشعوب الديمقراطي الكردي بقيادة صلاح الدين دميرتاش الذي تحداه قائلاً: “لن نسمح لك يا أردوغان بفرض النظام الرئاسي”، وبالفعل تمكن حزب “دميرتاش” من الدخول إلى البرلمان بـ80 برلمانيًّا في انتخابات 7 يونيو 2015، حارمًا الحزب الحاكم من تشكيل الحكومة بمفرده. عندها قرّر أردوغان معاقبة الأكراد من خلال “حرب” أيضًا، وهذه المرة بدعوى مكافحة حزب العمال الكردستاني الذي كان يتفاوض معه لتحقيق السلام!
توظيف الإرهاب
وبعدما فقد الحكومة المنفردة عقب انتخابات يونيو 2015، عزم أردوغان على الإطاحة بمفاوضات السلام الكردي التي كان يجريها مع عبد الله أوجلان، الذي مدّ دائمًا أطواق النجاة للمسيطرين على الحكم في تركيا طيلة تاريخه الطويل المشبوه. فعقب هدوءٍ دام حوالي 4 سنوات، تحوّلت البلاد بين ليلة وضحاها إلى ساحة حرب بسبب الهجمات الإرهابية المتبادلة بين تنظيم داعش، ذراع أردوغان اليُمنى، وبين العمال الكردستاني، ذراعه اليسرى، حتى تشكلت الذريعة اللازمة لإعلان حرب موسعة على “المنظمة الإرهابية” في المدن الكردية المأهولة بدلاً من الجبال والمناطق الريفية لتنتهي مفاوضات السلام الكردي في 28 يوليو 2015.
عرقلة جهود داود أوغلو
وفي الوقت ذاته منع أردوغان جهود رئيس حزب العدالة والتنمية في ذلك الوقت أحمد داود أوغلو من تشكيل حكومة ائتلافية مع أي من الأحزاب المعارضة؛ لأنه لم يكن يرغب في مشاركة السلطة مع أي حزب، معتبرًا ذلك تهديدًا موجهًا إلى نظامه الذي يسعى لتأسيسه، بل إنه لم يرضَ بمشاركة السلطة حتى مع أي من رفقاء دربه، بما فيهم عبد الله جول وداود أوغلو. ومن جانب آخر، عقد تحالفًا جديدًا مع زعيم الحركة القومية دولت بهجلي بعد ما تحالف مع الدولة العميقة بذراعيها التركية والكردية عقب فضائح الفساد في 2013. ومن ثم أعلن انتخابات مبكرة في 1 نوفمبر 2015، ليقدم إلى حزبه الحكومة المنفردة مجددًا على “طبق من ذهب”، بفضل “الحرب على الأكراد” التي أثارت الموجات “الإسلامية” و”الدولجية” و”القومية” وملأت أشرعة حزبه بالرياح.
رغم هذا الانتصار الظاهري، إلا أنه فقد شرعيته السياسية أيضًا بعدما فقد شرعيته الأخلاقية، وكل حكومة أسسها بعد ذلك قامت على الفساد والتلاعب والغش لا إرادة الناخبين. فضلاً عن ذلك فإنه لم يهدئ من روعه، حيث كان داود أوغلو من يرأس حزبه ونجح في الحصول على دعم نصف الشعب. وبغضّ النظر عن خطأ أو صوابية سياسات داود أوغلو الخارجية، إلا أن الرأي العام لم يسمع عن تورطه في فساد مالي أو أخلاقي، بل كان سياسيًّا نزيهًا، بالإضافة إلى أنه كان يخطط لإحالة “وزراء الفساد” إلى المحكمة العليا، ومطالبة المرشحين السياسيين بالكشف عن ممتلكاتهم الشخصية، وهو الأمر الذي كان كافيًا ليفكّر أردوغان في التخلص منه. فحرّك ما يسمى بـ”مجموعة البجع” الإعلامية الخاضعة له لتشنّ حملة دعاية سوداء ضد داود أوغلو لقتله معنويا بتوجيه عديد من الاتهامات، بينها العمالة لدول أجنبية، لتنتهي هذه المرحلة باستقالته من رئاسة الحكومة وحزب العدالة والتنمية على حد سواء.
الحرب على “منظمة فتح الله جولن”
ولما حطّم الأكراد حلمه في تطبيق النظام الرئاسي واستحال ذلك بالطرق السياسية السلمية، أدرك أردوغان أنه يجب عليه أن يجد “حلاً دائمًا” لضمان وإنقاذ مستقبل شخصهو نظامه. إذ أصبح لا يستطيع العيش بدون سلطة “أبدية”، نظرًا لأن سقوطه بشكل أو بآخر يعني مواجهته مباشرة شبح المحاكمة والمعاقبة على الجرائم والانتهاكات التي ارتكبها منذ عام 2011 على وجه الخصوص، حيث تمكن من السلطة بعد فوزه بالانتخابات البرلمانية للمرة الثالثة على التوالي.
لذا دبر مع حلفائه الإسلاميين والدولجيين والقوميين “انقلابًا صوريًّا” على حكومته، محكوم عليه مسبقا بالفشل، ليركب رياحه، ويقوم بتخوين المعارضة السياسية والمدنية في آن واحد، ثم يعلنَ حربًا ثالثة ضد ما أسماه “منظمة فتح الله جولن” التي أخرجها من بطن الكيان الموازي بعدما أخرج هذا الأخير من بطن حركة الخدمة، استطاع من خلالها تطويع المؤسسة العسكرية أيضًا بعدما ظلت حتى 15 يوليو 2016 بعيدة عن عمليات النقل والتشريد والفصل والاعتقال التي بدأت اعتبارًا من 2013 وقضت على جهازي الأمن والقضاء.
بفضل هذه الحرب أو “الهدية الإلهية”، على حد تعبيره، أفلح أردوغان في تصفية المعارضة السياسية التي تمثلت في حزب الشعوب الديمقراطي، باعتقال زعيمه صلاح الدين دميرتاش، والمعارضة المدينة، التي تمثلت في حركة الخدمة بشكل أساسي، وتصنيفهما في خانة “الخونة والأعداء”، من جانب، وجمع كل ما تبقى من الأحزاب السياسية والمجتمع المدني تحت مظلة ل”الوطن” من جانب آخر، ليأتي بعد ذلك بكل سهولة تثبيت أركان النظام الرئاسي في تركيا، عقب ركوبه الموجات الإسلامية والدولجية والقومية، وتوسيعه من نطاق حروبه ليشمل الأراضي السورية أيضًا، من خلال عمليتي “درع الفرات” و”غصن الزيتون”.
لكن كلما ترسخت أركان نظام أردوغان زادت جرائمه في الداخل التركي والسوري والمنطقة عموما بحيث بدأت سلطنته تواجه الخطر مجددا. مثله في ذلك كمثل الذي يقود دراجة على طريق ضيّقٍ جداً محفوفٍ بالمخاطر من جانبيه، لذلك يشعر بضرورة الضغط على دواستها بصورة مستمرة ومتزايدة حتى لا تتوقفَ عجلتها فيَقَع ويهلكَ. ولما انضمت كل من الأزمة الاقتصادية ومشكلة “جيش الضحايا” لحالة طوارئ أردوغان التي حولت تركيا إلى سجن مفتوح، إلى هذه الجرائم، لاح في الأفق مرة أخرى أمل .. أمل النجاة من هذا الورم الذي تسلط على أبناء “الأناضول” بكل شعوبها.
القشة الأخيرة: خسارة البلديات الكبرى
أعتقد أن حزب الشعوب الديمقراطي أصبح العنوان المشترك لمجموعة كبيرة من الديمقراطيين والليبراليين، إلى جانب الأكراد، بعدما يئسوا من الأحزاب المعارضة الأخرى، خاصة عقب تسليم محرم إينجه، المرشح الرئاسي من حزب الشعب الجمهوري، أكبر أحزاب المعارضة، منصب الرئاسة إلى أردوغان في طبق من ذهب أيضًا عقب انتخابات 24 يونيو 2018، سواء كان راغبًا أم راغمًا. ومن ثم أسفرت الانتخابات المحلية الأخيرة في 31 مارس 2019 عن اختطاف “تحالف الشعب” المعارض بلديات المدن الكبرى من الحزب الحاكم. وجل المحللين يجمعون على أن الحزب الكردي هو الذي لعب الدور المحوري في هذا الانتصارِ لأول مرة منذ 17 عامًا مظهرًا تراجُع شعبية أردوغان وزعزعة شرعيته مرة أخرى.
هذا الانتصار العظيم شجع شخصيات من داخل الكتلة الحاكمة لعبت دورًا حاسمًا في العقد الأخير من تاريخ تركيا، من أمثال أحمد داود أوغلو وعلي باباجان وعبد الله جول، على إزاحة الستار عن خلفية الأحداث التي قادت تركيا إلى شفا جرف هارٍ بكل معنى الكلمة ولو كان على استحياء وخوف.
التصريحات التي أدلى بها أحمد داود أوغلو بعد قرار إعادة انتخابات بلدية إسطنبول مهمة للغاية، وساهمت في الكشف عن الماهية الحقيقية للنظام الذي أسسه أردوغان في تركيا. ولا شك أنه لو كان تسود في تركيا حرية التفكير والتعبير، بل لو كان الأمن على الحياة، لكان السياسيون تكلموا أكثر، وكشفوا للقاصي والداني عن الوجه الحقيقي لأردوغان ونظامه.
داود أوغلو يفضح أردوغان
كشف داود أوغلو في يوليو 2019 أن أردوغان طلب منه أن يبدو في صورة “رئيس الوزراء دون أن يمارس سلطاته وصلاحياته”، بمعنى أنه خيّره بين أن يكون م”دية” ينفذ فقط الأوامر الصادرة منه أو الإقالة من رئاسة الحكومة والحزب معًا. وذكر أنه كان يدعم نظامًا برلمانيًّا قويًّا يمثّل كل التيارات السياسية، ويحمل تركيا إلى آفاق المستقبل، وأنه عرض على أردوغان ترسيخ وتدعيم هذا النظام بدلاً من البحث عن أنظمة أخرى. ثم كشف عن السبب الحقيقي الذي دفع أردوغان وحلفائه إلى إقالته من رئاسة الوزراء قائلا: “كان يجب إبعادي من رئاسة الوزراء وحزب العدالة والتنمية من أجل تنفيذ سيناريوهات من قبيل انقلاب 15 تموز 2016، والدفع بالبلاد إلى انتخابات متتالية، وتحقيق نقل تركيا من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي المغلوط. وجرّ البلاد في نهاية المطاف إلى أحضان تحالفات علنية وسرية”، في إشارة منه إلى التحالف الذي عقده أردوغان مع كل من الحركة القومية والدولة العميقة.
ومن اللافت أن رئيس تحرير موقع خبردار، الصحفي المخضرم، سعيد صفا، الذي يتمتع بعلاقات وطيدة مع ممثلي التيار الإسلامي في تركيا، ويطلع على كواليس حزب العدالة والتنمية، نشر تغريدات مثيرة في 2017، قال فيها: “عندما نتمكن يومًا من الحديث عن خلفيات خطة انقلاب 15 تموز 2016 بحرية، ونكشف أنه كان انقلابًا مدبرًا، فإننا سنعتبر تاريخ إقالة أحمد داود أوغلو من منصب رئاسة الوزراء ميلادًا لهذا الانقلاب. فلو كان داود أوغلو ظلّ بمنصب رئيس الوزراء لاطّلع بشكل أو بآخر على خطة الانقلاب المدبر ومنع تنفيذها مهما كلف الأمر. لكن أردوغان كان بحاجة إلى رئيس وزراء مثل بن علي يلدريم، الذي لا يفهم من مجريات الأحداث، وإن علم بالخطة فيما بعد لا يستاء من ذلك، من أجل تنفيذ هذا الانقلاب”.
والأخطر من ذلك أن داود أوغلو فضح أردوغان -على استحياء وخوف- في أغسطس 2019 من خلال تصريحات جاءت ردًّا على اتهامات أردوغان له بـ”الخيانة”، لاعتزامه تأسيس حزب مستقل، حيث قال: “إن فُتحت ملفات مكافحة الإرهاب سيكون هناك كثيرون لا يمكنهم النظر في وجه الناس. في المستقبل سيذكر التاريخ أن الفترة بين انتخابات 7 يونيو 2015 و1 نوفمبر 2015 أخطر وأصعب الفترات السياسية في تاريخ تركيا”، في تلميح منه إلى استعادة أردوغان الحكومة المنفردة بتوظيف الإرهاب.
وكذلك كشف نائب رئيس حزب الشعب الجمهوري خلوق كوتش في يوليو 2019 أن الفترة التالية للانتخابات البرلمانية التي عقدت في يونيو 2015 شهدت لقاءات سرية بين رئيس الوزراء السابق أحمد داود أوغلو ورئيس الشعب الجمهوري كمال كليجدار أوغلو لتشكيل حكومة ائتلافية، بهدف تكوين حكومة تحالف موسعة تقضي على اختلافات الرأي ووجهات النظر بين القاعدتين الشعبيتين للحزبين المنحدر أحدهما من التيار الإسلامي والآخر من التيار العلماني، الأمر الذي كان سيؤدي إلى مصالحة مجتمعية وزيادة مستوى الرفاهية المجتمعية، على حد تعبيره. لكنه عاد وأكد أن أردوغان منع هذا التحالف.
ذلك لأنه كان يريد الحرب لا السلم والصلح!
لا شكّ أن الأسرار الخاصة بتاريخ تركيا القريب، التي بدأت تتكشّف يومًا بعد يوم، بفضل تصريحات داود أوغلو وأمثاله، بعد فقدان أردوغان قوته عقب الانتخابات المحلية الأخيرة، تدلّ على أن أردوغان كما أحدث “انقلابًا مضادًّا” في اليوم التالي من بدء تحقيقات الفساد والرشوة نسف به أجهزة الأمن والقضاء من ألفها إلى يائها، بفضل لافتة “جريمة الانتماء إلى الكيان الموازي”، وأنشأ مكانها أجهزة أمن وقضاء جديدة من أنصاره وحلفائه أقدم كذلك على “انقلاب مضاد” في صبيحة ليلة الانقلاب المدبر والمسيطر عليه ليطيح بكل القادة العسكريين وأعضاء مجلس القضاء الأعلى المنتمين إلى تيارات مختلفة، بفضل اللافتة ذاتها، سواء شاركوا في الأحداث أم لم يشاركوا، وسواء كانوا منتمين إلى حركة الخدمة أو لم تكن لهم أي صلة بها، وذلك للإطاحة بكل من يعتقد أنه يقف عائقًا أمام تنفيذ مشاريعه وطموحاته المحلية والإقليمية.
أردوغان بحاجة إلى حرب جديدة
ظهور الأكراد إلى الساحة السياسية بشكل أقوى من السابق، ومحاولة حزب الشعوب الديمقراطي الخروج من كونه حزبا خاصا بالأكراد ليضم تحت مظلته كل ألوان تركيا، وكذلك عودة الثقة إلى حزب الشعب الجمهوري، خصوصًا بعد ضمّ أكرم إمام أوغلو، المنحدر من أصول محافظة، إلى صفوفه، ونجاحه في اختطاف إسطنبول من قبضة أردوغان بعد نحو 25 عاما من بقائها تحت إدارة حزبه، بالإضافة إلى المعارضة الداخلية في حزب العدالة والتنمية والتوجه لتأسيس أحزاب جديدة منشقة عنه.. كل ذلك أدى إلى تراجع غير مسبوق في شعبية أردوغان وتأييد نظامه الرئاسي، الأمر الذي أقضّ على أردوغان مضجعه من جديد ودفعه إلى البحث عن مخرج من هذا المأزق الحقيقي، فوجد ضالته في حرب جديدة على الأكراد، لكن هذه المرة على أكراد سوريا.
بعد القشة الأخيرة التي قصمت ظهر البعير، شرع أردوغان في التمهيد للحرب عن طريق الهجمات الصاروخية “المفتعلة” التي استهدفت الأراضي التركية من أجل تبرير الحرب وإقناع الرأي العام بضرورتها للرد على التهديد الكردي. ومع أنه زعم أن وحدات حماية الشعب الكردي هي التي قصفت تلك الصواريخ من الجانب السوري، إلا أن مخفر الشرطة في بلدة نصيبين بولاية هاتاي الحدودية مع سوريا أخبر الأهالي أن الصواريخ تركية أطلقت من أجل اختبارها!
لكن الحرب في أرض أجنبية ليست مثل الحرب في الداخل التركي، بل من شأنها أن تحرّك كل دول المنطقة والعالم. وهذا هو ما حدث، حيث اجتمعت جامعة الدول العربية -ما عدا قطر بطبيعة الحال- بشكل عاجل بدعوة من القيادة المصرية لتتخذ قرارًا مشتركًا يدين “العدوان التركي” على أراضي دولة عربية، معتبرة إياه مهددًا للأمن القومي العربي. وذلك بالإضافة إلى قرارات إدانة أمريكية وأوروبية تضمنت تهديدات بحيث اضطر أردوغان أخيرًا إلى الجلوس مع الولايات المتحدة على الطاولة ذاتها والاتفاق على وقف إطلاق النار أولاً، ثم أعقب ذلك اتفاق مع روسيا ستنسحب بموجبه جميع القوات التركية من الأراضي السورية في نهاية المطاف. وهكذا عاد أردوغان إلى بيته خاوي الوفاض وجارًّا معه أذيال الخزي والعار مرة أخرى.
هل سيعود أردوغان بالحرب مرة أخرى؟
لكن مهما واجه أردوغان هزيمة خارجية في سوريا، إلا أنه ليس من الواضح بعدُ إذا ما سيستطيع أردوغان في استرداد شعبيته في الداخل التركي بفضل هذه الحرب أم لا. فمع أن أحزاب المعارضة –ما عدا الحزب الكردي- أعلنت موافقتها على عملية نبع السلام و”قلوبهم تدمي”، لكن بالتزامن مع هدوء الرياح الإسلامية والدولجية والقومية التي أثارتها الحرب الثانية على الأكراد، فإن أحزاب المعارضة بدأت تعود إلى مواقفها السابقة الرافضة لنظام أردوغان، مما يوحي أن مواقفها أثناء الحرب كانت مؤقتة بهدف منع هروب أنصارهم من “القوميين” وخشية التخوين من قبل أردوغان. وقد أعلن حزب الخير القومي مؤخرا أن استطلاعات الرأي التي أجراها كشفت استمرار تراجع شعبية التحالف الجمهوري المكون من حزبي أردوغان وبهجلي.
من السابق لأوانه التكهن بما إذا كان أردوغان سينهض مرة أخرى بحربه الأخيرة على أكراد سوريا بعدما سقط كما في الحروب السابقة التي انتهت كلها بفوز أردوغان وخسارة تركيا. لكن إذا أخذنا بنظر الاعتبار الحفرة العميقة التي وقع فيها أردوغان بعد وقفه الحرب بـ”رسالة من ترامب”، وقرار تضييق دائرة الوجود العسكري التركي في سوريا بـ”إشارة من بوتين”، دون أن يحقق الأهداف التي أعلنها مسبقًا كإعادة اللاجئين السوريين إلى المنطقة الآمنة، وكسر شوكة الأكراد، بالإضافة إلى مقتل زعيم داعش أبي بكر البغدادي في منطقة خاضعة لسيطرته، والتداعيات الاقتصادية والاجتماعية لهذه الحرب، فإنه من الصعوبة بمكان أن ينجح أردوغان هذه المرة في تسويق نفسه “بطلاً” حتى لأنصاره.