بقلم: عبد الحميد بيليجي، رئيس تحرير صحيفة زمان التركية سابقًا
(زمان التركية)- حينما بدأ حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا الخروج عن المسار الديمقراطي، وسلك طريق التحول إلى نظام رجل واحد يجمع بين الإسلام السياسي والفاشية، تعرفت على بروفيسور سوداني متخصص في العلوم السياسية عايش هذه التجربة من قبلُ.
لقد حرص الأستاذ الدكتور حسن مكي على المشاركة بنفسه في حراك تيار الإسلام السياسي في بلاده السودان، وبذل جهودًا كبيرة من أجل تحقيق النجاح المنشود؛ إلا أنه سرعان ما أصيب بخيبة أمل واتخذ سبيلًا مختلفًا إذ رأى إجراءات التيار بعد وصوله إلى سدَّة الحكم. يلخص الدكتور مكي تلك الأيدولوجية في بضعة أسطر على ضوء التجربة التي عايشها قائلًا:
“إن الإسلام السياسي هو أيدولوجية معارضة، يردد دائمًا الحديث عن الحقوق والقانون والديمقراطية حين كان في صفوف المعارضة. لا يمتلك أي نظرية أو أي فكر عن كيفية تصرفه تجاه الأفكار المختلفة عنه في حال وصوله إلى سدة الحكم. حيث يضع المختلفين مع أو معارضيه بين شقي الرحى ويقدم لهم خيارين لا ثالث لهما: إما أن تبايعوني وتنقذوا أنفسكم أو تعارضونا وتكونوا من الأعداء والخونة والإرهابيين، وتدفعوا ثمن عدم بيعتكم”.
أليس حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا هو من يصف تحالف الجمهور المكون من أحزاب المعارضة بأنه “تحالف الذل”، ويملأ سجونه بمن لا يبايعونه حتى وإن كانوا من الإسلاميين المحافظين؟ ألم يلغِ انتخابات بلدية إسطنبول التي فاز فيها مرشح المعارضة؟ هذه الأيدولوجية تقدَّم كوصفة النجاة للعالم الإسلامي أجمع الذي يعيش أزمات كبيرة في الأخلاق والعلوم والقانون والاقتصاد، وليس في تركيا وحدها. تتميز هذه الأيدولوجية بالسيطرة على اهتمام القطاع الديني المحافظ في المجتمعات، خاصة وأنها تقدم نفسها في إطار مزخرف ببعض التعبيرات والمقدسات الدينية من أجل كسب قلوب المسلمين وتوظيفهم في مشروعهم الإسلامي، على حد تعبيرهم.. لذلك يجب التعامل مع الأمر بجدية، وإعمال العقل لإحاطة وإدراك أبعاد هذه الأيدولوجية بصورة شاملة.
نحن اليوم نمتلك نماذج وآليات أفضل لتتقييم تلك الأيدولوجية التي تستغل الدين في لعبتها السياسية، وتقول: “إن القرآن هو دستورنا”، وتتحدث دائمًا عن فتح بيت المقدس، وأنها مخلص العالم الإسلامي، وتحلم بزعامته. لماذا؟ لأن المسألة لم تعد عبارة عن شعارات الوعود بالجنة في الدنيا حينما كان تيار الإسلام السياسي في صفوف المعارضة. إذ تمكنت هذه الأيدولوجية من الوصول إلى سدَّة الحكم سواء في إيران أو السودان أو تركيا أو أفغانستان، بطرق وأساليب مختلفة، تظهر تارة على أنها جاءت من خلال ثورة شعبية، أو انتخابات، وتارة أخرى تأتي بانقلابات عسكرية. لذا لم يعد بين أيدينا وعود وشعارات وأحلام فقط، وإنما أصبحنا أيضًا أمام نتائج فعلية وإجراءات حقيقية وسياسات على أرض الواقع تعكس ذلك الفكر.
من الممكن أن ننظر إلى النموذج الإيراني، ولكنه قد يقابل بالرفض نظرًا لسيطرة العنصر الشيعي على المشهد. وكذلك الأمر بالنسبة لتركيا، قد يعترض البعض على الاستشهاد بالنموذج التركي، بزعم أن تيار الإسلام السياسي في تركيا، بالرغم من قوته، لم يتمكن من القضاء على الإرث العلماني للجمهورية حتى الآن، ولم يستطع تنفيذ مشروعه الذاتي. ولكن ما تمكنت تلك الأيدولوجية من تحقيقه حتى الآن في مجالات الديمقراطية والقانون والاقتصاد وحرية الإعلام والتعليم والدين والأخلاق وحقوق الإنسان، واضح وضوح الشمس، ويعطي معطيات كافية للحكم عليه.
حسنًا، لنفترض مؤقتًا أن الاعتراض الخاص بأن تيار الإسلام السياسي في تركيا لم يحكم سيطرته الكاملة صحيح! ولكن ما هو مصير الدول التي أحكم فيها تيار الإسلام السياسي السيطرة على المجتمع وجميع المؤسسات، وأعاد هيكلتها وفقًا لأيدولوجيته؟ هل تسير أوضاعها على ما يرام؟ أم أنها تزداد سوءًا؟ هل يقومون باتخاذ خطوات في الموضوعات التي تهمّ الرأي العام العالمي من عدالة وحرية واقتصاد وتعليم أم أن الأوضاع تزداد سوءًا في الدول التي يسيطرون عليها؟
تحتوي التجربة السودانية، التي أدارها تيار الإسلام السياسي، على دروس حياتية تغنينا عن البحث عن حججٍ أخرى لنشاهد مصير الدول التي يسيطرون عليها. خاصة أن تلك التجربة لم تستمر لمدة 3-5 سنوات فقط، وإنما بدأت منذ نهاية ثمانينات القرض الماضي (1989)، وانتهت بالإطاحة بالرئيس عمر البشير في نهاية المطاف، بعد تدخل الجيش للسيطرة على الأوضاع المشتعلة نتيجة نزول الشعب إلى الشوارع منذ 5 أشهر. بل وحبس البشير بعد أن لاصق عرش الحكم لمدة 30 عامًا.
أقيم النظام في السودان على أفكار حسن الترابي المعروف بأنه الأب الروحي والفكري للنظام الإسلامي. حسنًا، ما هي الوعود التي قدمها عمر البشير ليكون على رأس الدولة الأكبر في أفريقيا؟ وماذا فعل على مدار 30 عامًا؟ وكيف كانت نهاية نظامه؟ وكيف أصبح مصير البلاد من بعده؟
ولكن قبل البحث عن إجابات لهذه الأسئلة، يجب تسليط الضوء على شخصية حسن الترابي الذي يعتبر أحد أهم أسماء تيار الإسلام السياسي على مستوى العالم، وكذلك وضع تاريخه السياسي في الفترة الأخيرة تحت المجهر.
فتح حسن الترابي عينيه على الدينا ليجد نفسه ابنًا لأحد شيوخ الطرق الصوفية، وتأثَّر بجماعة الإخوان المسلمين التي ظهرت في مصر. بدأ دراسة القانون في العاصمة السودانية الخرطوم، وأكمل تعليمه في العاصمة الإنجليزية لندن. وحصل على الدكتوراه في القانون الدستوري من جامعة السوربون في فرنسا. كانت لديه معلومات عن القانون الإسلامي، كما كان واضحًا في كتابه “السياسة والحكومة”.
وفي عام 1954 أسس فرع جماعة الإخوان المسلمين في السودان. وبعد عامين من هذا التاريخ، حصل السودان على استقلاله عن إنجلترا، إلا أن تلك الحكومات لم تتمكن من النجاح، مما أدى إلى اندلاع حرب أهلية دموية في عام 1962. وفي عام 1964 أنهى الترابي تعليمه وعاد إلى بلده المتناحر، وعمل عميدًا لكلية الحقوق التابعة لجامعة الخرطوم. كان وقته مكتظًا بالعمل؛ فمن ناحية كان يقدّم خدماته في مجال التعليم، ومن ناحية أخرى كان يشجع الشباب على الوقوف في وجه النظام العسكري بزعامة الجنرال إبراهيم عبود الذي استجاب في النهاية للضغط الشعبي على تسليم البلاد لسلطة انتقالية، بسبب الضغوط الكبيرة التي تعرض لها على يد التيارات المعارضة بمشاركة كافة النقابات والأحزاب. تمتعت البلاد بفترة من الديمقراطية إلى أن قام اللواء جعفر النميري بانقلاب على الحكم في عام 1969. في تلك الفترة كان الترابي يتألَّق كأبرز نجوم تيار الإسلام السياسي؛ لذلك لجأ نظام النميري العسكري إلى اعتقال الترابي، كما فعل مع غيره من السياسيين. قبع الترابي داخل السجن لمدة 6 سنوات. بعدها نفي لمدة 3 سنوات إلى ليبيا. بعد فترة بدأ النميري اتباع سياسة مختلفة، وقرر تعيين الترابي في أرفع موقع في الجهاز القضائي في عام 1978. لم يستطع وصول زعيمه على رأس الحكم بانقلاب عسكري أن يمنع الترابي قبوله بهذا المنصب. كان الترابي سيقوم بأسلمة القوانين السارية في البلاد. شارك مع شخصين آخرين في حفلات سكب براميل الخمر والويسكي في نهر النيل. وكان مصير من يعترض على تلك الخطوات تكميم فمه بالأساليب القمعية التقليدية للنظام العسكري. كان البعض يدفع حياته مقابل معارضته للنظام.
انتهي حكم النميري في عام 1985 بعد أن تحولت الاضطرابات التي شهدتها البلاد إلى تظاهرات عارمة. وهنا بدأ الترابي ينشط، إذ أسس حزبًا جديدًا باسم جبهة الإسلام القومي (NIF)، وأصبح وزيرًا في حكومة الوفاق التي ترأسها صهره الصادق المهدي. وفي عام 1989 انقلب المشير عمر البشير، الذي كان يحمل الفكر الإسلامي نفسه للترابي، على حكومة المهدي؛ إلا أنه اعتقل الترابي كغيره من الرموز السياسية. ولكن سرعان ما ظهرت الحقيقة أمام الجميع، حيث لم يكن اعتقاله إلا عملية مراوغة وتكتيك؛ لأن حسن الترابي كان سيظهر بعد ذلك في منصب الأمين العام لحزب المؤتمر الوطني الذي أسسه عمر البشر، بالإضافة إلى توليه العديد من المناصب، من بينها رئاسة البرلمان. وهناك تظهر جليًا أبرز خصائص أيدولوجية الإسلام السياسي وهو: التناقض بين القول والفعل. إذ كانت الحريات والحقوق والقانون وغيرها من القيم والمبادئ أبرز وألمع الشعارات التي استخدمها هذا التيار. كانت تلك المكانة السياسية لحسن الترابي مرحلة مهمة في حياته، وفرصة كبيرة لاستكمال مشروع سياسات الأسلمة الذي بدأه ولم يكمله.
وهنا قد نجد أن بعض الموهومين بخطابات قادة حزب العدالة والتنمية المعارضين حول أحداث محاولة انقلاب 15 يوليو/ تموز 2026 قد يقنعون بأن تيار الإسلام السياسي عامة يقدس الديمقراطية ويعارض الحركات الانقلابية. لكن ها هو حسن الترابي الذي يعتبر الأب الفكري للإسلام السياسي في كل العالم قد استولى على الحكم في السودان من خلال انقلاب عسكري. لأن الهدف المقدس الوحيد لتلك الأيدولوجية هو الاستيلاء على السلطة السياسية بأي طريقة كانت. فكانوا أمام طريقين لا ثالث لهما: الأول الوصول إلى السلطة عن طريق الانتخابات والصناديق، والثاني عن طريق الانقلاب. لهذا السبب ظل السودان يحتفل لسنوات بعيدها القومي يوم 30 من يونيو/ حزيران من كل عامٍ إحياءً لذكرى الانقلاب الذي قام به المشير عمر البشير، الذي يتبنى فكر الإسلام السياسي نفسه.
كانت طموحات وأحلام الإسلاميين المسيطرين على الحكم كبيرة جدًا. كانت أبرز المصطلحات التي يستخدمها الترابي ومن معه في التيار نفسه هو “الحضارة”. فقد كان يطلق على برامجه السياسية أيضًا اسم “مشروع الحضارة”.
كان يخطط لإقامة أول خلافة في العصر الحديث. كان المشروع الذي يروج له في مواجهة مصطلح “النظام العالمي الجديد” الذي أضحى مشهورًا عقب الحرب الباردة، أكبر من أن يكون مقتصرًا على السودان فقط. نعم، لقد كان من المخطط أن يكون السودان نقطة البداية والانطلاق، على أن ينتشر ويتوسع في كل الدول ذات الأغلبية المسلمة، وكذلك الدول الأخرى التي يعتبر المسلمون فيها أقلية.
لم يكن بإمكانه تحقيق ذلك إلا من خلال إحكام قبضته على كافة نواحي الحياة في البلاد، بدءًا من الأمن والسياسة وانتهاء بالاقتصاد والثقافة. لذلك كانت أول خطواتهم في هذا الصدد هي تأسيس وزارة التخطيط الاجتماعي. بالإضافة إلى إعادة إعداد الكتب الدراسية والدروس التي سيتم تدرسيها للطلاب في كافة المراحل التعليمية من البداية، حتى يتسنى لهم تنشئة أجيال جديدة بهذا الفكر الإسلامي. كان من الضروري أيضًا أن تكون جميع وسائل الإعلام في أيدي ذلك التيار، وهذا ما حدث بالفعل. فقد كممت الأفواه المعارضة في وسائل الإعلام. لم يقتصر التغيير والتحويل على قطاعي التعليم والإعلام فقط، وإنما أعدت برامج تدريبية إجبارية للعاملين في أجهزة الدولة وقطاعاتها المختلفة، وبدأ تنفيذها فورًا من أجل تحويلهم إلى ترس في ذلك التيار المتسرطن في البلاد.
لم تكتفِ هذه الأيدولوجية بالوصول إلى سدة الحكم وإدارة البلاد لمدة معينة، بل لأنها كانت تستهدف إعادة تصميم المجتمع بكل فصائله والدولة بكل مؤسساتها عن طريق السياسة، فإنه بات من المستحيل الفصل بين الحزب والدولة، وهذا ما حدث. إذ حظرت الأحزاب السياسية وكذلك النقابات، وأغلق البرلمان. كذلك أغلقت جمعيات حقوق الإنسان التي لعبت أدوارًا مهمة في الكفاح والنضال الديمقراطي في السودان؛ وألقي بممثليها في السجون، وصودرت الأبنية الخاصة بها. وأسست بدلًا منها جمعيات أخرى بالأسماء نفسها لتقوم بدور المتحدث الرسمي للنظام. واعتقلت الرموز السياسية واحدًا تلو الآخر، حتى أن الترابي اعتقل في البداية من أجل إخفاء صبغة الإسلام السياسي على الانقلاب العسكري. بل وصل الأمر إلى تعليق العمل بالدستور، وبدأت البلاد تدار بحزم بالمراسيم والقرارات. كذلك أعلنت حالة الطوارئ في البلاد؛ وشنت حملات من القمع ضد الجامعات والأكاديميين والطلاب، وأغلقت الجمعيات في ربوع البلاد.
في كلمته في عام 1989، قدَّم عمر البشير وعدًا بتصفية كل ما سماه “أعداء الشعب والعملاء المأجورين وخونة الوطن” داخل مؤسسات الدولة، بما في ذلك الجيش. تبع ذلك إطلاق حملة “أمنية وقائية” شاملة من أجل تصفية الأصوات المختلفة داخل وحدات الاستخبارات والأجهزة الأمنية وفي صفوف النظام الجديد، من أجل تحقيق هذا الوعد. بدأت حملة تنظيف وتطهير ضد جميع “الأعداء” و”الخونة” الموجودين في القضاء والشرطة والجيش. بعدها عين أعضاء جبهة الإسلام القومي التي أسسها الترابي في تلك الأماكن الشاغرة، دون مراعاة ما إذا كانوا مناسبين لتلك المناسب.
اكتظت السجون بكل ناشط ومسؤول نقابي ومفكر كان له دور في نجاح الإطاحة بالنظام العسكري مرتين قبل ذلك. خلفت الأحداث مغادرة الآلاف لبلادهم. وجُمعت بعض الرموز السياسية المعارضة في أماكن سرية، أطلق عليها اسم “بيوت الأشباح”، بعيدًا عن السجون التقليدية، وتعرضوا للتعذيب. استمرت حالة الطوارئ في 7 ولايات من أصل 18 ولاية في البلاد.
لم تكن المنظمات الدولية غافلة عما يجري في السودان، إذا تحدثت منظمة مراقبة حقوق الإنسان (HRW) في تقريرها عن انتهاكات حقوق الإنسان في السودان عام 1991، أي بعد الانقلاب مباشرة، عن تلك الوقائع الدرامية التي أصبحت نموذجًا مألوفًا ومتعارفًا عليه، قائلة:
“احتجز المُعلم عبد المؤمن سالم المعتقل في فبراير/ شباط 1990 داخل سجن “شالا” وسط أوضاع سيئة لمدة 6 أشهر، بالرغم من تدهور حالته الصحية، وتحذيرات الأطباء من ضرورة نقله إلى المستشفى. وفي النهاية نقل إلى المستشفى، ولكن كانت حالته الصحية قد تدهورت لدرجة تجعله لا يمكنه التعافي، إلى أن توفي مطلع عام 1991″.
تصفية 73 ألف موظف من الجهات الحكومية
تمت تصفية 500 قائد رفيع المستوى عقب الانقلاب مباشرة. بينما تجاوز عدد الضباط الذين تمت تصفيتهم في الفترة بين عامي 1989 و2000 نحو 4 آلاف ضابط برتب مختلفة. لم تكن أعمال التصفية مقتصرة على العاملين في القطاع العام فقط؛ فقد فصل عشرات الآلاف من الأطباء والمُعلمين والموظفين الذين يعتقد أنهم معارضين ومخالفين للحزب المسيطر على ذمام البلاد، استنادًا إلى تقارير استخباراتية وتقارير التصنيف وفقًا للتوجهات والميول السياسية. كان إجمالي الذين تمت تصفيتهم من القطاع العام في الفترة بين عامي 1989 و1999 أكثر من 73 ألف شخص.
ارتفاع جنوني للدين الخارجي وانهيار الاقتصاد
لم يصبّ اهتمامهم على الجوانب السياسية فقط، وإنما أخذ الاقتصاد نصيبه أيضًا. إذ تمت خصخصة شركات القطاع العام، وبيعت للموالين للحزب الحاكم والأقارب بأسعار بخسة. أمَّا شركات القطاع الخاص فلم تكن في مأمن كذلك؛ إذا أُجبرت على قبول شركاء من الموالين للنظام الجديد، وإلا هددوا بمصادرة أموال أصحابها ونفيهم خارج البلاد. وبدأت المناقصات تأخذ طريقها إلى الموالين. وكانت الشركات مجبرة على تقديم تبرعات إلى أوقاف ومؤسسات بعينها إذا أرادت الحصول على المنقصات. على الجانب الآخر حظيت الشركات الموالية بإعفاءات ضريبية.
كان النظام الحاكم يوجه الإيرادات المحدودة للبلاد، وعلى رأسها إيرادات البترول، إلى التنظيمات الجهادية التي استخدمهم في حروب الوصاية وحروب فرض السيطرة. لم يكن الاقتصاد يدار بالمنطق المتعارف عليه، وإنما كانت الأضواء تسلط على مشروعات البنى التحتية ذات الدعاية والبروباجندا الإعلامية من أجل دعم الموالين. كانوا يحصلون على قروض كبيرة من الصين.
لم تؤدِّ تلك السياسات إلى تحسن المسار الاقتصادي، وإنما جلبت الاقتصاد إلى حافة الهاوية وجعلت الخزانة تنتظر الإفلاس. شهد الدين الخارجي ارتفاعًا جنونيا بزيادة 300 بالمائة مقارنة بعام 1989 حيث وصلوا إلى سدة الحكم. كان الدولار الأمريكي يعادل 4.4 جنيهات سودانية عندما سيطروا على البلاد في عام 1989، ولكن العملة استمرت في الانهيار إلى أن وصل الدولار الأمريكي 45 جنيها سودانيا. كان مؤشر التنمية الإنسانية للأمم المتحدة خير دليل على أداء النظام الإسلامي على مدار 30 عاما. كان السودان في المركز الـ171 بين 187 دولة في هذا المؤشر. وكان في المركز السادس بين 180 دولة في الترتيب العالمي لحرية الصحافة. أما مؤشر الفساد العالمي، احتل فيه السودان المركز الـ172 بين 180 دولة. فهل هناك أي علاقة بين هذا المشهد المستور بغطاء الإسلام والقيم الإسلامية؟
فتح النظام الإسلاموي في السودان أحضانه لآلاف الأشخاص المشاركين في الحرب في أفغانستان، مثل أسامة بن لادن وأبو نضال؛ بل وحرر لهم وثائق سفر وبطاقات هوية، مما أدى إلى وضع البلاد في القائمة السوداء أمام المجتمع الدولي.
وبسبب تلك السياسات وضعت السودان في قائمة الدول الداعمة للإرهاب في عام 1993، وفرضت عليها عقوبات اقتصادية في عام 1997.
تقسيم البلاد
لم يتحمس النظام الإسلاموي إلى تطوير لغة جديدة لحل أزمة جنوب السودان الذي كان تحت عباءته. وإنما اتخذه فرصة من أجل مد جذوره في أطراف البلاد. ووصل به الأمر إلى نعت كل من يقدم اقتراحات لحل تلك الأزمة المتفاقمة بالخونة وتصفيتهم، وأرسلت مجموعات الشباب التي غذَّاها بالفكر الجهادي في منتصف تسعينيات القرن الماضي، حيث قمة قوة نظامه، للحرب في جنوب السودان من أجل إتمام تدريبهم الأيدولوجي. أمَّا الجنوب الغني بالثروات البترولية فقد كان النظام الإسلاموي يرى أن تلك الهجمات، بحسب رأيه، هجمات شيطانية تشنّها الإمبريالية والصهيونية، وكانت هي أكبر عائق أمام مشروع الحضارة الإسلامية الذي يحاولون تأسيسه. تسببت تلك الأزمة في موت 20 ألف شاب في حقولهم، وانتهى بكارثة جديدة مع حصول جنوب السودان على حق الانفصال. بهذا انقسم السودان تحت إدارة النظام الإسلامجي الذي حلم بالخلافة الإسلامية العالمية. وخسر السودان 75% من إيرادات البترول الخاصة بها.
لم يكن المجتمع الدولي بعيدًا عمَّا يجري، إذ تحولت الصراعات الداخلية في جنوب السودان وفي دارفور إلى قضية دولية، تحت إدارة تيار الإسلام السياسي للبلاد. وكانت النهاية أنه فقد آخر آماله في إمكانية الاستفادة من فرص حل أزمة الحرب الداخلية المندلعة في جنوب السودان بالطرق السلمية، واختار أن يقمع الاعتراضات والمتصاعدة في دارفور بالمزيد من الدماء.
بدأ ذلك النظام لحظاته الأولى في الحياة بانتهاكات حقوق الإنسان، ولكنه سرعان ما حولها إلى جرائم حرب. وتكشف تقارير الأمم المتحدة أن أحداث دارفور خلفت ورائها 300 قتيل.
مرة أخرى يتدخل المجتمع الدولي، ويصدر في حق عمر البشير مذكرتي اعتقال من قبل محكمة جرائم الحرب الدولية بتهم “جرائم الحرب وارتكاب مذابح في حق الإنسانية”، بسبب المذابح التي تلوثت بدمائها أيادي جيشه والجماعات المسلحة التابعة له.
عمل النظام على قمع المعارضين، وعلى الجانب الآخر نجح في استقطاب بعض الأحزاب والطرق الدينية والقبائل إلى صفوفه.
كانت تلك هي الأنفاس الأخيرة لمشروع الحضارة الإسلامية الدولي الذي حلموا أن تكون بدايته في السودان؛ حتى أن مصممي ومهندسي هذا المشروع في البداية انتقلوا إلى صفوف المعارضة. وكان مصير حسن الترابي المعروف بأنه الأب الروحي والفكري للنظام الجديد، فرض إقامة جبرية عليه بمنزله في سنواته الأخيرة، بسبب معارضته لأفكار وتوجهات عمر البشير. سرعان ما بدأت التظاهرات وحالة الغضب تسيطر على البلاد بسبب سوء الأوضاع الاقتصادية في ظل حكم البشير الذي وصل للسلطة بالانقلاب، وتأججت الأحداث إلى أن تدخل الجيش مرة أخرى للسيطرة على الأوضاع، ليكون مصير البشير، كما فعل بمعارضيه، فرض إقامة جبرية في منزله.
هذا هو ملخص مغامرة التيار الإسلامي في السودان على مدار 30 عاما.
لا شكّ أن الشعوب التي يحكمها أشخاص يتبنون الأيدولوجية نفسها، يمكنهم أن يطلعوا على مصيرهم ومستقبلهم بوضوح من خلال النظر إلى التجربة السودانية. إن المجتمعات الإسلامية التي تنظر إلى الإسلام السياسي على أنه نظام بديل، ويفكرون في منحه فرصة بأي شكل من الأشكال، يجب عليها أولًا الاطلاع على النموذج السوداني، ثم تقرير مصيرها؛ بهذا تكون قد قامت بعمل جميل كبير انفسها ولبلدها. يا ليت من ينظرون إلى ذلك التيار بحسن النية وتسيطر عليهم الحماسة الدينية يدرسون ذلك النموذج كما ينبغي، ويواجهون الحقيقة ويدركون جيدًا حال الدول الإسلامية الراهنة التي تحولت إلى مستنقعات لا يمكن العيش فيها في ظل تلك الأيدولوجية.
–