منى سليمان*
القاهرة (الزمان التركية)- تمر الدولة اللبنانية بواحدة من أصعب الأزمات الإقتصادية والسياسية خلال العقدين الماضيين، فمنذ مساء يوم 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2019 وبعد تسريب إشاعة عن فرض وزارة الاتصالات ضريبة جديدة على مكالمات “الواتس آب”، إجتاحت شوارع وسط العاصمة بيروت تظاهرات عشوائية حاشدة سرعان ما امتدت لمدن الشمال بطرابلس إعتراضا على فرض أي ضرائب جديدة تزيد من أعباء المواطنين في ظل أزمة إقتصادية طاحنة تعصف بإقتصاد الدولة، ومع صباح اليوم التالي كست شوارع بيروت وكافة مدن الشمال والجنوب تظاهرات عشوائية من المواطنين بكافة إنتمائاتهم السياسية والطائفية للمطالبة بإسقاط الحكومة وإستقالة كافة المسؤولين السياسيين برئاسة الدولة والوزراء والبرلمان، وقد تفاقمت الأحداث مع سقوط قتيلين في إشتباكات مع قوات الأمن بطرابلس. وفي مساع لإحتواء الأزمة ألقي رئيس الوزراء “سعد الحريري” كلمة مساء يوم 18 أكتوبر/ تشرين الأول 2019 منح فيها وزرائه ثلاث أيام لوضع برنامج عملي لحل الأزمة الإقتصادية ولوح بتقديم إستقالته، مما ينذر بفراغ سياسي ودستوري بلبنان. ويطرح العديد من التساؤلات هل كانت التظاهرات بالفعل عشوائية أم أن هناك إياد خفية في الداخل والخارج حركت المواطنيين وشجعتهم على التظاهر السلمي الذي تحول بعد ساعات قليلة لأعمال تخريب؟ هل الهدف هو إيجاد حلول للأزمة الإقتصادية المركبة المتراكمة المستمرة منذ 30 عام أم الهدف إسقاط شخص “الحريري” لأنه الشخصية السياسية السنية التي تحظى بتوافق اقليمي ودولي ولذا يعد العقبة أمام بسط النفوذ الإيراني بالكامل على لبنان عبر “حزب الله” وحلفاءه من المسيحيين والسنة والدروز؟ وهل تنتهي الأزمة بإعلان استقالة الحكومة؟ أم ستبدأ أزمات جديدة ومتلاحقة تعجز أى قوى سياسية بلبنان عن مواجهتها؟
أولا: المشهد السياسي اللبناني:
يجب التأكيد على أن إحتجاجات 17 أكتوبر/ تشرين الأول الشعبية بلبنان تختلف عن سابقتها في عدة نقاط، فمنذ عام تقريبا يتجمع في بيروت وبعض المدن والاحياء اللبنانية المتفرقة مواطنين بقومون بالتظاهر لساعات كل يوم أحد (يوم العطلة الرسمي) إحتجاجا على الأوضاع الإقتصادية بالبلاد ثم يتفرقون وقد بدأت الإحتجاجات بنفس الأسلوب بيد أنها تختلف في..
–الطابع الوطني: تميزت الاحتجاجات بالطابع الوطني وغياب القيادة، وهي مستمرة منذ 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2019، وشملت كل المدن اللبنانية وكل الطوائف (السنية، الشيعية، الدرزية، المسيحية) بمختلف الانتماءات السياسية، ولم تقتصر علي طائفة أو مدينة واحدة، وتميزت بالحشد والاستمرراية فقد بلغ عدد المحتجين بمئات الالاف وهو عدد ضخم لم يشارك في اي تظاهرة من قبل، وتعهدوا بمواصلة الاحتجاج والتظاهر حتى تحقيق مطالبهم. مما يؤكد أن الاحتاجات لها طابع وطني وان مطالب المواطنيين وطنية ومشروعة ومحقة وهو ما أكد عليه كافة السياسيين في تعليقاتهم علي الاحتجاجات.
-كسر المحظورات: تميزت التظاهرات باسقاط كافة المحظورات في المشهد اللبناني، حيث انتشرت تظاهرات في مدن الجنوب معقل “حزب الله” ووجهت انتقادات لاذعة وحادة للامين العام للحزب “حسن نصرالله” وكذلك في مدينة النبطية ومعقل حركة “أمل” الشيعية في سابقة نادرة بالسياسة اللبنانية، وكذلك رفع المتظاهرين لافتات ورددوا شعارات للمطالبة بإسقاط رئيس الجمهورية “ميشال عون” للمرة الأولي منذ توليه منصبه في 2016، وكذلك وجهت مطالبات باسقاط رئيس البرلمان “نبيه بري” في معقله بمدينة صور جنوبا.
– إسقاط العهد: كلمة “العهد” في الشارع اللبناني المقصود بها مضمون التسوية السياسية التي توصل لها القادة اللبنانيين بوساطة اقليمية ودولية في 2016، وتقضي بتولى العماد “ميشيل عون” حليف “حزب الله” اللبناني وايران بالطبع رئاسة الجمهورية مقابل تولى زعيم تيار المستقبل “سعد الحريري” رئاسة الوزراء. وهي اتفاق ضمني يربط منصب الاول بالثاني والعكس، واليوم بطالب المتظاهرين باسقاط هذا الاتفاق السياسي لانه اسفر عن تركيبة حكومية طائفية بامتياز وغير كفء لمواجهة التحديات الاقتصادية والسياسية بالبلاد في ظل بيئة إقليمية مضطربة، فهل إذا استقال “الحريري” ستقبل القوى السياسية المتحالفة معه بقاء “عون” رئيسا للحكومة، وهل يتحمل الوضع بلبنان فراغ سياسي ودستوري بمنصبي رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء؟
– تحريض سياسي للتظاهرات: منذ بدء التظاهرات وقبل تكاثر عدد المتظاهرين، أعلنت ثلاث قوى سياسية لبنانية هامة ومؤثرة بالشارع دعمها ودعت أنصارها للتظاهر والتعبير السلمي عن مطالبهم ودعت كذلك تلك القوى لإسقاط الحكومة رغم مشاركتهم فيها. وهذه القوى هي “وليد جنبلاط” زعيم الحزب التقدمي الاشتراكي وزعيم الدروز في لبنان، “سامي الجميل” نائب حزب الكتائب اللبنانية، “سمير جعجع” رئيس حزب القوات اللبنانية. ويرجع سبب دعم تلك القوى للتظاهرات لرغبتهم في معاقبة “الحريري” رغم التحالف الذي جمعهم معه من قبل نظرا لانهم يتهمون رئيس الوزراء بتقديم التنازلات لصالح محور “حزب الله – باسيل”، ولذا يرغبون في إسقاط الحكومة الحالية وتشكيل حكومة جديدة ربما برئاسة “الحريري” أيضا تكون لهم حصص وزارية أكثر أهمية فيها، حيث تم تهميش دورهم وحصصهم مقابل منح “حزب الله” وحليفه “التيار الوطني الحر” الوزارات السيادية الهامة بالحكومة الحالية.
بالطبع كان هناك العديد من ردود الفعل من قبل الساسة اللبنانيين علي تفاقم التظاهرات بيد أنها حملت الكثير من الدلالات والاخطاء السياسية التي لا تغتفر ومنها ..
– “عون”: غاب رئيس الجمهورية اللبنانية العماد “ميشيل عون” عن المشهد السياسي تماما ولم يصدر عنه أي تصريح أو رد فعل، باستثناء لقاء عقده مع وفد من المتظاهرين يوم 18 أكتوبر/ تشرين الأول 2019 مساء دون نتيجة تذكر، وترك إدارة الازمة لصهره وزير الخارجية “جبران باسيل” رغم كون الاخير أحد عوامل تفاقم الأزمة.
-” باسيل”: وزير الخارجية “جبران باسيل” ألقي كلمة تعليقًا علي الأحداث من داخل القصر الجمهوري ببعبدا في مخالفة بروتوكولية واضحة ودلالة سياسية هامة. فالقصر الجمهوري ليس من حق أي طرف القاء خطاب من داخله غير رئيس الجمهورية. بيد أنه تعمد إلقاء كلمته من داخل القصر وقبل كلمة “الحريري” بساعة كاملة للتأكيد على أنه هو من يدير الدولة وانه رئيس الجمهورية القادم، وانه يحظى بتأييد وشعبية كافة أعضاء “التيار الوطني الحر” وحليفه “حزب الله”. “فباسيل” سياسي يتعمد إستغلال الشعبوية وتأجيج الطائفية لحشد المزيد من الأصوات بغية تحقيق حلمه بتولى منصب رئيس الجمهورية، متناسيًا أنه جزء من التشكيل الحكومي الحالي ويتحمل مع وزراء تياره مسؤولية فشل الحكومة في حل الأزمات المتتالية لاسيما وانه الطرف المعرقل لكافة الحلول التي يطرحها “الحريري”.
– “الحريري”: رئيس الوزراء “سعد الحريري” ألقى كلمة الساعة 6 مساء يوم 18 أكتوبر/ تشرين الأول الحالي، ورغم أنها كانت كلمة كاشفة وصريحة وحادة إلا أنها جاءت متأخرة وكان الأحرى به ألقاها باكرًا. ونأتي لمضمون الكلمة التي كشف فيها صراحة عن عرقلة عمله من كافة شركائه بالحكومة، وأقر بتقديمه تنازلات دون مقابل لشريكه بالعهد “التيار الوطني الحر – وحزب الله اللبناني”، مما أربك التوازنات الطائفية بلبنان وهذا جوهر الأزمة، فلماذا لم يعلن “الحريري” من قبل عن محاولات عرقلة عمله ولماذا لم يكشف للرأي العام حقيقة الوضع السياسي بلبنان؟ لماذا يتحمل أن يكون “كبش فداء للجميع”؟ ورغم أن “الحريري” منح الجميع مهلة 3 أيام لإيجاد حل نهائي، ووجه حديثه “لباسيل” بشكل ضمني مؤكدًا أن من يمتلك حلا غير برنامج الإصلاح الإقتصادي الذي إعتمدته الحكومة فليقدمه. والمهلة التي منحها “الحريري” رغم أهميتها لن تنجح في إحتواء التظاهرات مما سيحمله مسؤولية إيجاد حل سريع، أو الإستقالة وتداعياتها السلبية علي وضع الدولة ككل.
-“نصرالله”: الأمين العام لحزب الله اللبناني “حسن نصرالله” كان آخر السياسيين الذين علقوا على الوضع ببلاده، فألقى كلمة مختصرة صباح يوم 19 أكتوبر/ تشرين الأول 2019، وحملت من التحذير والتهديد الكثير وكانت موجهه بشكل رئيسي “للحريري”، الذي حذره “نصرالله” من الإستقالة وترك البلد بالأزمة السياسية الحالية بل وهدد بمقاضاة “الحريري” حال استقالته، وقد تناسى “نصرالله” أنه من صنع هذه الأزمة عبر تعنته المستمر ورغبته في التحكم بكافة مفاصل الدولة والقرارات الحكومية في ظل موافقة تامة من قبل حليفه التيار “الوطني الحر” بقيادة “عون” و”باسيل” والأخير بالطبع يرغب في دعم الحزب له عند ترشحه للرئاسة الجمهورية في الاستحقاق الانتخابي المقبل، كما حذر “نصرالله” من المطالبة بإسقاط “العهد” وأقسم أن ذلك لن يحدث، فما يريده الأمين العام الحفاظ على الوضع الحالي مع إضعاف “الحريري” تماما وتحميله مسؤولية فشل الحكومة، ليتحكم “نصرالله” هو وحليفه “باسيل” في الدولة اللبنانية مما يبسط النفوذ الإيراني علي البلاد، أو إسقاط شخص “الحريري” وتوليه شخصية سياسية سنية موالية “لنصرالله” رئاسة الوزراء لتحقيق نفس الهدف.
ثانيا: دوافع تفاقم الأزمة:
منذ استقلال الدولة اللبنانية في 22 نوفمبر 1946 وهي تخضع لتوازنات وضغوط البيئة الإقليمية بذريعة حماية الطوائف، فأصبح من حق إيران التدخل في الشأن اللبناني الداخلي لحماية الطائفة الشيعية وكذلك من حق السعودية التدخل لحماية الطائفة السنية، وبالطبع من حق الفاتيكان وفرنسا التدخل لحماية حقوق المسيحيين بلبنان، وقبلهم من حق سوريا التدخل والتحكم في السياسة اللبنانية لحماية أمنها القومي نظرا لوجود إسرائيل علي الحدود اللبنانية السورية. وبهذا فقدت الدولة اللبنانية استقلال قرارها ودخلت في العديد من الازمات التي انتهت بحرب أهلية طاحنة استمرت 15 عام وأنتهت “بإتفاق الطائف” الذي وقع برعاية سعودية وجهود مضنية من رئيس الوزراء الراحل الشهيد “رفيق الحريري”، وقد نص على توزيع المناصب وفق الكتل السكانية للطوائف بحيث يتولى رئاسة الجمهورية مسيحي ماروني، ورئاسة الوزراء مسلم سني والبرلمان مسلم شيعي، وحصص مناسبة للدروز والمسيحيين الكاثوليك في الوزارات المتعاقبة. وقد بقي هذا الإتفاق يحكم السياسة اللبنانية حتى إغتيال “رفيق الحريري” في 14 فبراير 2005، وقد تم إتهام “حزب الله” اللبناني والحكومة السورية بالتورط في إغتياله، نظرًا لمعارضته لسياساتهم في لبنان وسعيه لصوغ قرار لبناني سياسي مستقل. ومنذ ذلك الحين والسياسات اللبنانية في تخبط وأزمات متتالية، حتى تفاقم الوضع الإقتصادي والسياسي، وهناك العديد من الدوافع التي فاقمت الأزمة الحالية ومنها ..
-الوضع الاقتصادي: لاشك أن الوضع الاقتصادي بلبنان بلغ حد الأزمة الحادة مما دفع “الحريري” لإعلان حالة “الطوارى الإقتصادية” وخاض مفاوضات شاقة مع كافة القوى السياسية لإقناعهم بالموازنة الجديدة للبلاد لاسيما وأنها أول موازنة منذ 2005. ومن ملامح الأزمة ارتفاع الدين العام الداخلي وزيادة معدلات التضخم والعجز والبطالة وتراجع معدلات الاستثمار والسياحة إثر التوترات الأمنية الإقليمية، فضلا عن ارتفاع معدلات الهدر والفساد الذي يبلغ 10 مليار دولار سنويا، الامر الذي نتج عنه أزمة مستمرة في توفير المتطلبات الاساسية لحياة المواطنين مثل الكهرباء التي تتوفر لمدة 6 ساعات يوميا فقط، وارتفاع سعر الصرف من 1500 ليرة للدولار الي 1650 ليرة للدولار وهذا الارتفاع قضي علي سياسة تثبيت سعر الصرف التي اعتمدها محافظ البنك المركزي اللبناني “رياض سلامة” لسنوات. هذا كله بالاضافة لتحمل أعباء مليوني لاجىء سوري متواجدين داخل الدولة اللبنانية.
-فشل الحكومة: تعرضت الدولة اللبنانية للعديد من الأزمات الطارئة التي فشلت الحكومة بشكل مباشر في مواجهتها، ومنها أزمة النفايات التي كست شوارع لبنان وأدت لأزمة صحية وبيئة إثر فشل الحكومة في بناء “منافذ تجميع للنفايات” في بعض المناطق نظرا للوضع الطائفي، وكذلك أزمة الكهرباء المستمرة حيث تفشل الحكومة في وضعه إكتفاء ذاتي من الكهرباء . وأزمة نقص الدولار التي أدت لنقص في المحروقات والخبز. وإنتهاء بفشل الحكومة في اطفاء حرائق “الشوف” التي إندلعت قبل أسبوع واحد من التظاهرات وأسفرت عن تدمير عدد كبير من الأراضي وممتلكات المواطنيين وقد تم إطفائها بالجهود الذاتية وعبر مساعدات دولية من قبرص لأن الحكومة لم توفر موارد مالية لصيانة طائرات الإطفاء.
-إستهداف “الحريري”: هناك حملة منظمة لاستهداف رئيس الوزراء اللبناني “سعد الحريري” شخصيا واغتياله معنويا كما تم إغتيال والده جسديا. فوضع “الحريري” يمثل معضلة “لحزب الله” وحلفائه لان رئيس الوزراء له علاقات قوية بالقوى الخارجية التي ستدعم الاقتصاد اللبناني كما انه سيضمن استمرار تواصل المجتمع الدولي مع بيروت رغم فرض عقوبات قاسية على “حزب الله” ومن المنتظر فرض المزيد منها. ولذا فالدولة اللبنانية بحاجة لشخصية “الحريري” فهو سياسي سني يحظى بشعبية داخلية وتوافق اقليمي دولي علي وجوده بمنصبه. بيد أنه يعترض علي سيطرة “حزب الله” علي الدولة اللبنانية ورفض مؤخرا زيارة “باسيل” لدمشق لتطبيع العلاقات بين سوريا ولبنان، كما يرفض بشدة عودة اللاجئين السوريين من لبنان لسوريا رغم الاعباء المادية التي يتحملها اقتصاد بلاده، ولذا أصبح من الضروري ممارسة المزيد من الضغط على “الحريري” ليقدم المزيد من التنازلات “لحزب الله”.
والتظاهرات الأخيرة جزء من هذه الحملة حيث اعترف كافة السياسيين بوجود أزمة اقتصادية وفشل حكومي في معالجتها وهم يحملون “الحريري” شخصيًا مسؤولية ذلك متجاهلين أنهم جزء من الحكومة وسبب في فشلها، ودعوا أنصارهم للتظاهر بغية إضعاف موقف “الحريري” خاصة وسنة لبنان عامة ودفعه للإستقالة حتى إذا كان خطابهم للرأى العام عكس ذلك، فأي مراقب سياسي للوضع اللبناني يتأكد أنه من الصعب تنظيم تظاهرات في معقل “حزب الله” دون موافقته وكذلك ما هي مصلحة “جعجع، عون، جنبلاط، الجميل” في دعوة أنصارهم للتظاهر؟ سوى إضعاف الحكومة أكثر لأنها الطرف الذي يمكن له أن يستقيل فرئيس الجمهورية ورئيس البرلمان بلبنان من الصعب جدا تقديمهم الإستقالة. ولذا يسعى كل طرف للضغط علي “الحريري” للقبول بتسوية سياسية جديدة تحقق لكل طرف ما يريده وتضعف الأخير، خاصة وأنه تعرض لحملة استهداف منظمة سعى دائما لاحتوائها. وبدأت بعرقلة تشكيل حكومته لأكثر من 8 شهور إثر تكليفه بتشكيلها بعد الإنتخابات البرلمانية الأخيرة التي أجريت في مايو 2018. وبعد نجاحه في تشكيلها بدء “باسيل” في تجاوز صلاحياته والإعتراض بشتى الطرق علي قرارات رئيس الوزراء بحجة أنه رئيس تكتل “لبنان القوي” وحليف “حزب الله” والطرفين لهم الأكثرية في البرلمان اللبناني وحال إتفقا سيتم إسقاط الحكومة عبر إستقالة الوزراء التابعين لهم كما حدث لحكومة “الحريري” عام 2011. ثم جاءت حادثة “قبرشمون” (مقتل 2 في محاولة لإغتيال وزير درزي) والتي كان مخطط أنها تؤدي لإسقاط الحكومة وإشاعة الفوضى بلبنان. بيد أن ذلك المخطط فشل عقب بيان هام من السفارة الأمريكية ببيروت حث الفرقاء اللبنانيين على إنهاء الأزمة وهو ما تم برعاية “عون” الذي تراجع عن موقفه المتشدد في هذه الأزمة. ثم قام “الحريري” بزيارة هامة لواشنطن عقد خلالها لقاء ناجح مع وزير الخارجية الامريكي “مايك بومبيو” وحصل علي دعم أمريكي مباشر لبيروت ولبرنامج الاصلاح الاقتصادي الذي طرحه، وذلك رغم فرض عقوبات اقتصادية أمريكية على “حزب الله” اللبناني. ثم قام “الحريري” بزيارة مماثلة لباريس وحصل علي دعم فرنسي لتنفيذ “مبادرة سيدر” وهي مبادرة دولية لدعم الاقتصاد اللبناني ب11 مليار دولار على مدي 10 سنوات، مقابل تنفيذ برنامج الاصلاح الاقتصادي. وبهذا فقد احتوى “الحريري” الضغوط المباشرة عليه وحصل علي دعم سعودي مصري أمريكي فرنسي عزز شعبيته بالداخل. وبعد ذلك تم استهداف سمعته عبر نشر شائعات حول حياته الشخصية تعود لعام 2013 ولم يكن حينها يشغل أي منصب سياسي مما يمنع محاسبته عليها. بيد أن نشرها يهدف لإغتياله معنويًا ولممارسة مزيد من الضغط عليه. وبعد احتوائه لها، اشتعلت الحرائق بلبنان التي اكدت مصادر حكومية انها بفعل فاعل، ثم اشتعل الشارع اللبناني بالتظاهرات المطالبة بإسقاط حكومته.
– إرباك التوازنات الطائفية: يعتمد المشهد السياسي اللبناني علي توازنات طائفية محددة تراع فيها الثقل الداخلي والاقليمي لكل طائفة، وعادة يسيطر “العرف السياسي” علي الوضع بلبنان، فالعائلات السياسية الطائفية الكبيرة هي التي تتحكم في الوضع الاقتصادي والسياسي. وقد استمر هذا الوضع لسنوات. بيد أنه اختلف بعد نتائج الانتخابات البرلمانية 2018، والتي حصل فيها “حزب الله ” بزعامة (حسن نصرالله) وتيار “لبنان القوي” (بزعامة جبران باسيل) وحلفائهم علي اكثرية البرلمان اللبناني. مما دفعهم للحديث عن ضرورة سيطرتهم علي مفاصل الدولة اللبنانية وهو ما تم حيث سيطروا على تشكيل الحكومة الجديدة رغم رئاسة “الحريري” لها، ثم بدأ يتصرف “باسيل” كما يصفونه حلفاءه وخصومه بنوع من “التكبر السياسي والغطرسة” المرفوضة من كافة التيارات. وذلك بعد تردد عن رغبة “باسيل” في دعم “حسن الله” له للترشح لرئاسة الجمهورية المقبلة. ثم بدأت ظواهر انشقاق للطائفة الواحدة عبر اختراق “حزب الله” لكافة الطوائف. فالطائفة السنية نجح في استقطاب عدد من نوابها داخل البرلمان فيما عرف بأزمة (اللقاء التشاوري)، ثم استقطب الطائفة الدرزية عبر تحالفه مع النائب (رسلان)، وكذلك اختراقه الطائفة المسيحية عبر تحالفه مع “باسيل” و”عون” الذي تميز أدائه كرئيس بالضعف والانحياز لتياره رغم كونه الحكم بين الفرقاء فقد تنازل ضمنيا عن مهام منصبه لصهره “باسيل”، ولذا أصبح “حزب الله” المتحكم الفعلي في القرارات اللبنانية ويقوم بإشعال الأزمات وإطفائها وقتما يريد. مما أدي لإرتفاع حدة الاحتقان الطائفي على المستوى الشعبي عبر خطابات رسمية وشعبية ومواقف للشخصيات العامة التي تحرض طائفة ضد أخرى، وتتعصب لمدينة ضد أخرى.
-البيئة الإقليمية: لا يخفي علي أحد الإرتباط بين “حزب الله” اللبناني وإيران والذي كان سببًا في فرض عقوبات اقتصادية أمريكية قاسية على لبنان فاقمت من الأزمة الإقتصادية بها، ورغم ذلك أكدت واشنطن أنها لا تستهدف أي طائفة بالدولة إلا أنها ستتعقب أي طرف يقدم دعما “لحزب الله” اللبناني. كما أن الإرتباط بين إشتعال الأحداث بلبنان وقرب التسوية النهائية بسوريا برز في خطاب “الحريري” الذي أعلن صراحة بأن “هناك من يرغب في تهدئة الوضع بسوريا وإشعال لبنان”. بغية أن تثبت طهران وحلفائها ببيروت أنها مازالت تتحكم في إشعال الملفات الإقليمية في (سوريا، لبنان، اليمن ، العراق)، ومازالت تمسك بخيوط الملفات في المنطقة وقادرة على التفاوض وكسب المزيد من أوراق الضغط على المستوى الاقليمي والدولي.
ثالثا: السيناريوهات المقبلة:
مع نهاية اليوم الثالث للتظاهرات الذي شهد تجمعات حاشدة تعيد للأذهان التظاهرات المليونية عام 2005 التي أعقبت استشهاد “رفيق الحريري” وأسفرت عن إنسحاب القوات السورية من لبنان، واختتم اليوم بإعلان رئيس حزب القوات اللبنانية “سمير جعجع” إستقالة وزرائه الأربعة من الحكومة، أصبحت الأزمة اللبنانية مرشحة لكافة السيناريوهات ومنها..
-الأول.. إحتواء التظاهرات وبقاء “الحريري”: وهو سيناريو محتمل نظرا لرفض القوى السياسية المشاركة بالحكومة حتى الان الاستقالة، وكشف مصادر بتيار المستقبل بزعامة “الحريري” عن عقد الاخير خلية أزمة لطرح برنامج اقتصادي ناجع وفاعل وتنفيذه سريعا، يعتمد على منع الضرائب وفرضها بشكل تصاعدي، وكذلك طرح برنامج سياسي يعالج الخلل الذي شهدته الساحة اللبنانية عبر تعديل قانون الانتخابات. وربما يتم تنفيذ هذا السيناريو للحفاظ على الوضع القائم وحال حدث ضغط خارجي للحفاظ على “الحريري” في منصبه لموازنة قوة “حزب الله” بالشارع اللبناني.
-الثاني.. إستقالة الحكومة: وهذا سيناريو محتمل حال استمرت التظاهرات بنفس كثافة المشاركة واصرت على مطالبها باستقالة الحكومة، وهنا سيكون هناك احتمالين الأول تكليف “الحريري” بتشكيل حكومة جديدة تضم كفاءات من التكنوقراط تعمل على حل الأزمة الاقتصادية، والثاني تكليف شخصية سياسية سنية بتكليف الحكومة الجديدة وربما تكن من رؤساء الوزراء السابقين مثل (تمام سلام، نجيب ميقاتي) أو تكليف شخصية سنية حليفة “لحزب الله” باعتباره يملك الاكثرية البرلمانية.
-الثالث.. الإطاحة بالعهد: وهذا السيناريو مستبعد الى حد ما ويقضي بإسقاط كافة القوى السياسية وهي رئيس الحكومة والجمهورية والبرلمان، بيد أنه مستبعد لم سينتج عنه فراغ سياسي ودستوري، ووضع فوضوي تام بالمشهد اللبناني. وربما يملء هذا الفراغ الجيش اللبناني وقوى المجتمع المدني التي ستعمل على تشكيل صيغة جديدة للحكم بلبنان. بيد أن هذا السيناريو لن يسمح به “حزب الله” وأنصاره لاسيما بعد تهديد الأخير بتحريض أنصاره على النزول للشارع وهو تهديد بنشر العنف في الشارع اللبناني نظرًا لأن الحزب هو الفصيل الوحيد المسلح والذي يمتلك “ميليشيا” تفوق قوتها وتسليحها قوة الجيش اللبناني، ولذا يمكنه فرض رأيه بالقوة.
-الرابع .. إسقاط الطائف: ثمة رغبة لدى كافة الفرقاء بلبنان في تحقيق المزيد من المكاسب السياسية، فهناك أطراف ترى أنه تم تهميشها كأحزاب (القوات اللبنانية بزعامة سمير جعجع، التقدمي الاشتراكي بزعامة وليد جنبلاط) وثمة اطراف ترى انها منتصرة خارجيا “كحزب الله” الذي يرى أنه انتصر في الحرب السورية، ويسعى لترجمة هذا الانتصار داخل الساحة اللبنانية، ولذا تدفع هذه الأطراف لإستقالة الحكومة بل إسقاط “اتفاق الطائف” عبر فرض سيطرتها التامة على المشهد السياسي “كحزب الله”، بيد أن هذا السيناريو مستبعد لانه من الصعب صوغ اي اتفاق سياسي وطني جديد بلبنان بعيدا عن الصبغة الطائفية التي مازالت تحكم المشهد السياسي.
مما سبق، نرى أن المشهد السياسي بلبنان مرشح للمزيد من التفاقم حتى حال تم إحتواء الأزمة الحالية إلا أنها ستعود للظهور مرة أخرى مع أول أزمة جديدة. وسيكون العامل المرجح لتطبيق أيًا من السيناريوهات السابقة هو رد الفعل الإقليمي والدولي، لاسيما الموقف الإيراني والسعودي والفرنسي والأمريكي، هل سيختار المجتمع الدولي إشعال الوضع بلبنان أم تهدئته؟! وهذا ما ستكشف عنه الساعات القليلة المقبلة.