بقلم: عثمان أوزصوى
الكاتب التركي طلعت هالمان الذي كتب عام 1997 قائلًا “سيكون انقسام حزب الرفاه حدثًا سعيدًا بالنسبة لمستقبل تركيا السياسي” نجح أيضاً في تخمين (!) العدد الكامل لنواب البرلمان الذين سينشقّون عن حزب الفضيلة بزعامة الراحل نجم الدين أربكان الراحل وينضمون إلى الحزب الجديد الذي سيؤسسه رجب طيب أردوغان، وذلك قبل عامين من حدوث ذلك على أرض الواقع.
سبب عداء أردوغان لحركة الخدمة
انتشر خبر وفاة أحدهم، فأعاد إلى الذاكرة أشياء كثيرة لنفكّر فيها مجدداً. لقد كنت كتبت ثلاث مقالات بشأن “سبب أو سرّ عداء أردوغان لحركة الخدمة”، لكنني أردت أن أفتح قوسًا في هذا الموضوع من خلال التداعيات التي حفرها في أذهاننا أول وزير ثقافة في تركيا طلعت هالمان الذي ووُري جثمانه الثرى أمس، وأن أواصل الحديث حول هذا الموضوع الشائك من زاوية مختلفة.
وسأنهي مقالي الذي عكفت 8 ساعات عليه بين أوراق الصحف في أرشيفي حتى يخرج بشكل سليم، بطرح “سؤال صغير”.
كان طلعت هالمان، الذي توفي قبل 5 أيام وَوُوري جثمانه الثرى أمس، أحد الأشخاص الذين تابعوا حركة الرؤية الوطنية (ميللّي جوروش) عن كثب، وراقبوا التوازنات داخل الحزب بشكل جيد.
عندما سمعت نبأ وفاة هالمان، تذكرتُ المقالات المعجزة (!) التي كتبها بشأن مستقبل حركة الرؤية الوطنية التي كان يتزعمها رئيس الوزراء الأسبق الراحل نجم الدين أربكان.
كان هالمان قد كتب مقالًا حمل عنوان “تقسيم حزب الرفاه” يوم 30 أبريل/ نيسان 1997، أي بعد شهرين من الانقلاب ما بعد الحداثي الذي قام به الجيش ضد أربكان يوم 28 فبراير/ شباط من العام نفسه.
وكانت إحدى المراحل التي جعلتنا نفهم خلفية بعض الأحداث التي شهدتها تركيا قد بدأت مع هذا المقال الذي كان يبدأ بعبارة “انقسام حزب الرفاه، أو تقسيمه، بصفته الحزبية، سيكون أمرًا جيدًا بالنسبة لمستقبل تركيا السياسي”.
كان قطع الطريق أمام حركة الرؤية الوطنية من بين أكبر مشاريع تلك الحقبة. هذا فضلًا عن أن الكاتب جونيري جيفا أوغلو كتب في مقاله المنشور بصحيفة ميللّيت بتاريخ 24/9/1998، ما يلي: “خطّطت الأوساط السياسية العميقة لتقسيم حزب الفضيلة. وكان المخطط يتضمن تلميع اسم رجب طيب أردوغان الذي كان سيسحب وراءه 40 إلى 50 نائبًا بالبرلمان، لينفصل عن حزب الفضيلة، ويؤسس حزبًا جديدًا…”
وكان اسم أردوغان قد تلألأ في سماء السياسة التركية بالتزامن مع سجنه لمدة قصيرة. حتى إن الكثير ناقشوا ما إذا كان سجن أردوغان يستهدف القضاء على حياته السياسية أم من أجل تلميع صورته وإبراز اسمه أكثر.
عندما خرج أردوغان من السجن في ليلة من ليالي شهر يوليو/ تموز عام 1999، كان نجله بلال ينزل ضيفًا عندي في مدينة بوسطن الأمريكية. وقد أجرى اتصالًا هاتفيًا بوالده من منزلي ليهنئه بخروجه من السجن.
وبعدما غادر أردوغان السجن بدأ يهتم أكثر بالأمور الداخلية في حزب الفضيلة. لكن لم تكن لديه فرصة للدخول في منافسة على زعامة الحزب مع رئيسه رجائي قوطان نظرًا للحظر المفروض على ممارسته للعمل السياسي.
وجرى ترشيح عبد الله جول، بدعم مادي ومعنوي وتنظيمي من أردوغان، لينافس قوطان على منصب رئاسة حزب الفضيلة غير أنه خسر الانتخابات بفارق ضئيل خلال المؤتمر العام للحزب الذي عقد بتاريخ 14/5/2000.
كان حزب الفضيلة يمتلك 158 نائبًا بالبرلمان.
كان هالمان قال عام 1997 “سيكون انقسام حزب الرفاه حدثًا سعيدًا بالنسبة لمستقبل تركيا السياسي” ونجح أيضاً في تخمين (!) العدد الكامل لنواب البرلمان الذين سينشقّون عن حزب الفضيلة بزعامة الراحل أربكان وينضمون إلى الحزب الجديد الذي سيؤسسه رجب طيب أردوغان وذلك قبل عامين من حدوث ذلك على أرض الواقع.
وعندما أُغلق حزب الفضيلة بقرار من المحكمة الدستورية في شهر يونيو/ حزيران عام 2001 أتيحت أمام كوادره فرصة تأسيس حزب جديد دون مغادرة الحزب.
تأسس حزب العدالة والتنمية بتاريخ 14/8/2001، وبعد يوم واحد من تأسيسه، انضم للحزب عددُ النواب البرلمانيين الذي خمّنه طلعت هالمان قبل عامين بقوله “سيغادر هذا العدد من البرلمانيين من أنصار أردوغان حزبَ الفضيلة”، وإذا أضفنا بعض النواب المنتسبين إلى حزب الطريق القويم مثل حسين تشيليك، سنجد أن حزب العدالة والتنمية أسس كتلة برلمانية قوامها 51 نائبًا يوم 15/8/2001. ولم يزد عدد نواب حزب السعادة آنذاك على 48 نائبًا.
لم يكن أردوغان، المفروض عليه حظر يمنعه من مزاولة العمل السياسي نائبًا بالبرلمان. ولهذا كان عبد الله جول هو من قدّم طلب تشكيل كتلة الحزب البرلمانية إلى رئيس البرلمان.
وبعد إجراء أول انتخابات برلمانية بعد تأسيس الحزب، اختير جول ليكون رئيسًا للوزراء بدلًا عن أردوغان المحظور سياسياً. ثم أصبح جول رئيسًا للجمهورية عام 2007.
هل تدرون ما هو المثير في هذا الموضوع؟
هل تعلمون مَن هو أول شخص دعاه الرئيس السابق جول يوم 28/11/2007 إلى الطعام في قصر تشانكايا الرئاسي؟
كان مَن دعاه جول هو طلعت هالمان الذي لفت الانتباه بادعاءاته وتنبؤاته بشأن ضرورة انقسام حركة الرؤية الوطنية وتأسيس أردوغان وفريقه حزبًا جديدًا.
ولم تطوِ صحيفة” ميللّي جازيته” القريبة من حركة الفكر الوطني هذا الأمر الذي قد يراه البعض تفصيلاً لايستدعي الانتباه، ونشرت في اليوم التالي خبرًا عنونته بما يلي “جول يردّ ديَنه إلى هالمان!”
فماذا كان هذا الدَين؟ هل مُهّد الطريق لانتقال أسماء بعينها إلى أماكن محددة في سبيل التقليل من شأن أربكان وقطع الطريق أمام حركة الرؤية الوطنية؟ لا أدري بالضبط حقيقة هذا الأمر…
وربما كانت هذه الدعوة، التي قدمها جول إلى هالمان لحضور حفل عشاء بالقصر الرئاسي من قبيل الصدفة البحتة ولا تنطوي على أي معنى خاص، دخلت التاريخ بصفتها مشهداً ساخراً من وجهة نظر حركة الرؤية الوطنية.
وبينما كان جونيري جيفا أوغلو يتحدث يوم 24/9/1998، أي قبل 16 عامًا و3 أشهر، عن دعوى التريليون المفقود كتب يقول: “التحقيق في حساب التريليون ليرة سيكون صعبًا على زعيم حزب الفضيلة وشخصيات بارزة فيه، وربما يكون صعبًا كذلك على أشخاص آخرين”.
والمثير هنا أن هذه الدعوى لم تصدّع رأس أحد سوى زعيم حركة الرؤية الوطنية أربكان بوصفها فاتورة سياسية. فحُكم عليه بالسجن في إطار تلك الدعوى وإن لم يكن قد دخل السجن نظرًا لمشاكله الصحية. وقد تأثرت زوجته السيدة نيرمين من هذه العملية بعدما كانت لم تهتزّ أمام ما حدث إبان انقلاب عام 1980، فتوفيت قبل زوجها، كما واجه أبناؤهما مصاعب متعلقة بتلك الدعوى في هذه المرحلة.
وعلى الرغم من أن هذه العملية لم تقطع الطريق أمام الآخرين، إلا أنها عطّلت أربكان. وقد أُنقذ الرئيس السابق جول من دعوى التريليون المفقود قبل أيام. ما يعني أن أربكان هو الذي صار الضحية الوحيدة في هذه القضية…
لننتقل الآن إلى سؤالنا…
كان أرطغرول أوزكوك قد حذّر مسؤولي حزب العدالة والتنمية بعدما انتقد حسين جولرجه حركة الخدمة والأستاذ فتح الله كولن في لقاء أجراه معه أحمد خاقان، وكتب قائلًا: “من يضحي اليوم بصديقه القديم سيضحي بك غدًا من أجل شخص آخر”. فهو شدّد من وجه على أن هذا طبع وسمة شخصية ينبغي الانتباه إليهما.
كان هؤلاء قد شرذموا حركة أستاذهم أربكان المتواصلة منذ نصف قرن، وقدموا مأدبة طعام في القصر الرئاسي في أول فرصة لأولئك الذين كانوا مصدر دعم وإلهام لهذه المرحلة، وامتُدحوا اليوم لأنهم خلعوا عباءة حركة الرؤية الوطنية التي كانوا ينعتونها حتى الأمس القريب بـ”دعوانا ورسالتنا المثلى”. فلماذا نتعجب إذا ما استهدفوا حركة الخدمة والأستاذ كولن في سبيل التصارع على مستقبل سياسي آخر؟
نحن أمام فكر يستبيح أصحابُه كل شيئ من أجل الوصول إلى طريق تسدّدوا إليه ولا ندري بالضبط إلى أي مصير واتجاه سيقودوننا.
لم نعد نتعجب بعد اليوم من تصرفاتهم… فهم من الممكن أن يفعلوا كل شيء بعد ما علمنا أنهم لم يمنعوا أنفسهم من التضحية بأربكان الذي وصفوه بـ”أستاذنا”، وعبد الله جول الذي نعتوه بـ”أخونا”، ثم وضعوا مخططات سرية لإنهاء حياته السياسية.
فهل يتخلّى صاحب الطبع عن ممارسة طبعه؟
لقد جعلتنا وفاة طلعت هالمان نطرح هذه الأسئلة في مقالنا اليوم. وسأكمل – بحول الله – كلامي عن أسباب عدائهم لحركة الخدمة في وقت لاحق…
*موقع روتا خبر