بقلم: عبد الله منصور
لا يزال رئيس الجمهورية التركية ورئيس حزب العدالة والتنمية رجب طيب أردوغان هو الاسم الأكثر تأثيرًا في المشهدين السياسي والاقتصادي في البلاد؛ المشهد السياسي بحكم أنه رئيس الجمهورية ويجمع في يده كافة السلطات، أما المشهد الاقتصادي فلأن تصريحًا صغيرًا منه يمكنه أن يجعل الليرة التركية تهبط درجة أخرى على سلم انهيارها أمام العملات الأجنبية الأخرى.
أردوغان قرر هذه المرة أن يثير الجدل، ولكن بنكهة خاصة؛ حيث اختفى فجأة، لا يعرف أحد عنه شيء، وبدأت الادعاءات تتوالى عن أنه تعرض لوعكة صحية، ووصل الأمر في مواقع التواصل الاجتماعي إلى نشر أخبار عن وفاته أثر تعرضه لأزمة قلبية، وأن الأمر مستور عليه مؤقتًا لحين ترتيب المشهد من بعده.
الحقيقة أن أردوغان اختفى في وقت حرج للغاية، سواء بالنسبة لحزبه أو للدولة التركية؛ حزبه لم يتعافَ بعد من الجرح العميق الذي تعرض له إثر لكمة قاضية من مرشح حزب الشعب الجمهوري المعارض أكرم إمام الفائز بمنصب رئيس بلدية إسطنبول على رئيس الوزراء السابق بن علي يلدريم، بفارق اقترب إلى مليون صوت.
وما زاد الطين بلة إعلان 89 عضوًا في فرع حزب العدالة والتنمية في مدينة غازي عنتاب استقالتهم من الحزب، إلا أن استقالتهم كانت متوقعة، فهي حلقة في سلسلة من الاستقالات سيشهدها الحزب في الفترة المقبلة متأثرًا باستقالة وزير الاقتصاد السابق علي باباجان من الحزب، واستعداده لتأسيس حزب منشق عن أردوغان، بالتعاون مع رفيق درب أردوغان ورئيس الجمهورية السابق عبد الله جول، بالتزامن مع بدء تحرك رئيس الوزراء السابق أحمد داود أوغلو لتأسيس حزب خاص به، وظهوره قبل أيام في برنامج على الهواء مباشرة يوجه فيه انتقادات حادة لأردوغان وحزبه.
أما الدولة التركية، فالأنظار الآن تتجه نحو البنك المركزي ومحافظه الجديد المعين من قبل أردوغان، في انتظار قرار لجنة السياسات المالية للبنك المقررة في 25 يوليو/ تموز الجاري، لتحديد معدل الفائدة، التي كانت سببًا في إقالة المحافظ السابق للبنك نتيجة عدم تنفيذه تعليمات أردوغان بخفض الفائدة.
على صعيد آخر، شهدت تركيا في الفترة الأخيرة سخونة للمشهد، متأثرًا بأزمة حصول تركيا على منظومة الدفاع الجوي الروسية S-400، وما تبعها من قرار وزارة الدفاع الأمريكية بوقف مشاركة تركيا في إنتاج الطائرة F-35، والذي قد يكلف خزانة الدولة التركية المنهكة نحو 9 مليارات دولار أمريكي.
آخر ظهور لأردوغان كان في احتفالات ذكرى محاولة انقلاب 15 يوليو/ تموز، شارك خلالها في مؤتمرين جماهيريين في كل من أنقرة وإسطنبول، وزاد المشهد التهابًا وسخونة من خلال تصريحاته الاستفزازية سواء عن العقوبات الأمريكية أو أزمة قبرص وغاز شرق المتوسط.
أردوغان المحب للظهور على شاشات التليفزيون كعادته، اكتفى بتغريدة على حسابه على تويتر، تعليقًا على حادث الهجوم على القنصلية التركية في أربيل والذي أسفر عن مقتل نائب القنصل التركي، في 17 يوليو/ تموز الجاري.
غياب أردوغان عن المشهد جعله يكتفي بتهنئة رئيس الوزراء البريطاني الجديد بوريس جونسون بفوزه في الانتخابات، من خلال تغريدة أيضًا على حسابه على تويتر.
الكاتب الصحفي في جريدة “حريت” التركية، عبد القادر سلوي، حاول تهدئة الشارع التركي الذي يتساءل عن أردوغان، قائلًا في مقال له، يوم الاثنين الماضي، إن أردوغان دخل في معسكر مغلق لبحث التعديلات الوزارية المرتقبة.
أما الكاتب الصحفي بالامير جوكتوغ فقد خصص مقالًا كاملًا للبحث عن أردوغان، نشره يوم الثلاثاء، بعنوان “أين أردوغان؟”، موضحًا أن هناك بعض المواطنين راسلوا مركز الاتصال والمعلومات التابع لرئاسة الجمهورية لمعرفة سبب اختفاء أردوغان، إلا أنهم لم يحصلوا على رد. ولفت إلى أن مصادر مقربة من دائرة اتخاذ القرار في تركيا تتحدث عن أن أردوغان ألغى اجتماعًا مهمًا خاصًا بالقطاع المصرفي كان مقررا عقده يوم الثلاثاء، بالرغم من أنه لم تبق إلا ساعات على اجتماع لجنة السياسات المالية للبنك المركزي.
اختفاء أردوغان لم يكن وحده، وإنما اختفاء جماعي لمجلس الوزراء بالكامل، عدا وزير الدفاع خلوصي أكار الذي عقد لقاء مع مبعوث الولايات المتحدة الأمريكية الخاص بسوريا جيمس هودجز، يوم الاثنين، وبحث خطوات إقامة المنطقة العازلة في شمال سوريا، مع وصول تعزيزات ضخمة للجيش التركي للمنطقة الحدودية.
كذلك لم يختفِ وزير الداخلية سليمان صويلو الذي يدلي بتصريحات مستمرة عن تفريغ إسطنبول من السوريين غير الحاصلين على تصريح إقامة بالمدينة، وترحيلهم إلى المدن الأخرى.
أما صهر أردوغان ووزير الخزانة والمالية برات ألبيراق، فقد اختفى مع أردوغان؛ إلا أن اختفائه جاء بعد انتقادات حادة داخل الحزب واتهامات له بأنه المتسبب فيما تعرض له الاقتصاد التركي من تدهور في الفترة الأخيرة. بعد هذه الانتقادات الحادة ظهرت ادعاءات بأن ألبيراق سيكون بين قائمة الوزراء الذين سيشملهم التعديل الوزاري المرتقب، وعودته مرة أخرى إلى وزارة البترول. بالتزامن مع هذه الادعاءات ظهرت ادعاءات أخرى عن وجود منافسة بينه وبين سليمان صويلو داخل الحزب بشكل مثير للجدل.
جريدة “يني شفق” التركية المقربة من الحكومة لم تتطرق إلى أزمة اختفاء أردوغان، وإنما سبحت في ملكوت آخر، من خلال خبر خاص بها، بعنوان: “دخول سيناريوهات تركيا بدون أردوغان حيز التنفيذ”، أوضحت فيه أن حلف الناتو والاتحاد الأوروبي يستعدان لمرحلة ما بعد أردوغان(!)، مستشهدة بتصريحات القائد السابق للقوات البرية في حلف الناتو بن هودجز والتي طالب فيها بالتفكير في مستقبل تركيا ما بعد أردوغان.
أما رئيس الوزراء السابق وأحد الأسباب الرئيسة في أزمة حزب العدالة والتنمية بن علي يلدريم، فقد قال في تصريحات له، يوم الثلاثاء، أن أردوغان خارج العاصمة أنقرة في الوقت الحالي من أجل الحصول على عطلة.
حساب “نبض تركيا” على تويتر، علق على الأمر بطريقة مختلفة، قائلًا: “أعتقد أن شائعات وفاة أردوغان يقف وراؤها أردوغان نفسه، فهو ينشر مثل هذه الأخبار ليخرج فيما بعد على الشاشات كالأبطال ويقول: ها أنا هنا لم أمت بعد، لكنكم رأيتم من فرحوا بوفاتي…إن القوى الكبرى وامتداداتها في تركيا (المعارضة) ترغب في موتي أو قتلي لإعادة تركيا إلى الأيام السوداء”.
وأضاف في تغريدته التالية: “وليس من المستبعد أنه غاب عن الأنظار لإعداد مؤامرة شيطانية جديدة بعدما غاب أسبوعا كاملا في 2016 ثم خرج علينا بـ”الانقلاب المدبر” لتدمير الجيش والمجتمع التركيين بهدف ترسيخ نظامه الجديد، كما أشار إلى ذلك رفيق دربه داود أوغلو في تصريحاته الأخيرة”، على حد تعبيره.
اختفاء أردوغان هذا العام لم يكن الأول، وإنما اختفى لعدة أيام بعد انتخابات المحليات التي أجريت في 31 مارس/ أذار الماضي، ليظهر بعدها مع صدور قرار إعادة الانتخابات على منصب رئاسة بلدية إسطنبول… هنا السؤال يطرح نفسه: هل سيظهر أردوغان بمفاجأة جديدة؟
(*) تحديث: بالفعل ظهر أردوغان، أمس الأربعاء، في مطار أسان بوغا في العاصمة أنقرة، خلال استقبال رئيس وزراء دولة ماليزيا مهاتير محمد، الذي سيجري عددا من اللقاءات مع مسؤولين أتراك؛ إلا أن أردوغان لم يعقّب على اللقاء ولم يصرح بأي شيء عنه.