في غضون ثلاث وعشرين سنة من العهد النبوي لم نشاهد سوى حادثة واحدة للزنا اعترف بها صاحبها وحادثة واحدة لقتل يهودي وحادثة واحدة قطعت فيها يد امرأة سارقة.
“أيها الملك! كنا قوماً أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء الجوار ويأكل القوي منا الضعيف؛ فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه. فدعانا إلى الله لنوحّده ونعبده ونخلَع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الأرحام وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء؛ ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات؛ وأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئًا وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام. -فعدّد عليه أمور الإسلام-فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به من عند الله، فعبدنا الله فلم نشرك به شيئًا وحرّمنا ما حرّم علينا وأحللنا ما أحلّ لنا، فعدَا علينا قومنا فعذّبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى؛ وأن نستحلّ ما كنا نستحلّ من الخبائث. فلما قهرونا وظلمونا وضيّقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك واخترناك على ما سواك؛ ورغبنا في جوارك ورجونا أن لا نُظلَم عندك أيها الملك([1])
حقق ﷺ في الواقع العملي “المدينة الفاضلة” التي حلم بها أفلاطون في جمهوريته وحلم بها “توماس مور” وغيرهما من المفكرين.
ظلمة حالكة
وهذا يشير كيف أن العالم كان في ظلام حالك قبل بعثة محمد ﷺ، وكيف أن المجتمع الجاهلي كان يسبح في لجة من الفساد والفواحش.. فالزنا فيه حلال، والسرقة فيه شجاعة وبطولة.. يندر فيه من لم يدمن على الخمر… في هذا المجتمع الفاسد الوحشي استطاع الرسول ﷺ أن يقتلع كل هذا الفساد من النفوس وأن يزينها بالأخلاق العالية وبالفضائل السامية، وبأرفع المزايا الإنسانية.. أي أنه حقق في الواقع العملي “المدينة الفاضلة” التي حلم بها أفلاطون في جمهوريته وحلم بها “توماس مور” وغيرهما من المفكرين.
ماذا دهى هؤلاء القوم الذين كانوا من قبل يأكلون أموال اليتامى ويضمون هذه الأموال إلى أموالهم دون أي تردد… ماذا دهاهم حتى تغيروا هذا التغير وتبدلوا كل هذا التبدل؟!
مثال يحتذى في إصلاح النفوس
علماً بأن إخراج جماعة من حياة الفساد والبدائية والتوحش وجعلها مرشدة للإنسانية إلى طريق المدنية والفضيلة ليس إلا إخراج هذه الجماعة من الظلمات إلى النور. وقد استطاع الرسول ﷺ تحقيق هذه المعجزة فبرهن على أنه رجل الإعجاز.
ونحن الذين نعجز عن تبديل خصلة واحدة من الخصال التي تشربت بها نفوس من نعيش معهم عمرًا نقف باحترام وخشوع أمام محمد ﷺ ونشهد أنه رسول الله بحق وبصدق.
استطاع الرسول ﷺ بإجراءاته المدهشة والرائعة أن يستل من الناس كل عاداتهم السيئة وأن يصوغهم صياغة جديدة رائعة.
ولقد حاولت بنفسي ولم أستطع إقناع أقرب الناس إلي بنظام التربية المثلى التي وضعتها والتي استلهمتها طبعاً من رسولنا ﷺ تمام الإقناع.. دعوت إلى الفضيلة حتى تعبت، ولكني لم أستطع حمل الناس عليها. إذن، فما أعظم تلك المقدرة وما أكبر تلك القوة التي كان يملكها الرسول ﷺ بحيث استطاع تحويل الناس من الحياة البدائية والمتوحشة إلى المدنية، ومن الدناءة إلى السمو بل جعل من رجال الجاهلية معلمين ومرشدين للأمم المتمدنة. وأنا أرى أن أناسًا مثلي يعجزون عن إسماع كلامهم إلى ثلاثة أو أربعة أشخاص في أسرته هم الذين يقدرون تمام التقدير ما قام به الرسول ﷺ حيث نقل أمة بكاملها من وهدتها وسما بها وصب في روحها إلهام قلبه… بشرط واحد وهو أن لا يتعثر هؤلاء بموانع العناد والتعصب.
عالمية الرسالة والرسول
اتصل عهده وعهد أصحابه بشعوب إيران وبالشعوب التركية… كانت إيران تحت تأثير ثقافة أخرى، وكانت طوران والشعوب التركية تحت ثقافة أخرى مختلفة وكذلك الرومان، ولكن الرسالة التي أتى بها الرسول ﷺ لاءمت كل هذه الشعوب وكأنها فصلت خصيصًا لكل منها… وهنا تكمن المعجزة… أجل، إنها لمعجزة كبرى أن يأخذ الكرة الأرضية بين يديه ويطبق رسالته في كل أرجائها، وهي من دلائل نبوته ورسالته، أي أنه رسول اللّٰه.. وهذا ما أردنا قوله على الدوام.
عندما ارتحل إلى الرفيق الأعلى كان أغلب الصحابة يعرفون القراءة والكتابة بدءًا ممن بلغ الرشد حديثًا إلى الشيخ الكبير الذي ينتظر دخول القبر.
رسول كل العصور
قد لا يستطيع الشخص أن يكتشف بدهائه ويعرف عصره، فمثلاً يجوز أن “الإسكندر” قد أدرك عصره بمقياس معين، وقد يكون “قيصر” قد اجتاز وتقدم على عصره، ويجوز أن نابليون أدرك عصره وفهمه… وهكذا. ولكن أن يفهم إنسان العصور التي ستأتي بعده والأمم والشعوب العديدة والمختلفة وأن تكون رسالته ملائمة لجميع هذه الشعوب وهذه الأمم ومقبولة من قبلها جميعًا أمر خاص برسولنا ﷺ، ولا نملك إلا أن نقول إن هذه معجزة، فليست هناك كلمة غيرها يمكن أن تصف هذا النجاح..
لم تزل الرسالة التي أتى بها رسول الله ﷺ ونحن على أبواب القرن الحادي والعشرين رسالة يانعة نضرة وغضة تخاطب أرواحنا وقلوبنا وعقولنا، ذلك لأنها آتية ممن يعلم سرنا ونجوانا.
لقد وجد “آلب آرسلان” الذي عاش بعد رسول اللّٰه محمد ﷺ بأربعة أو خمسة عصور أن رسالته مناسبة وملائمة لروحه ولقلبه فآمن بها من كل قلبه، كما تقبل رسالته فاتح وقائد عظيم مثل محمد الفاتح الذي يُعد من أشهر قواد التاريخ والذي فتح عهدا وأغلق عهدًا([2]) تَقَبَّل رسالة النبي ﷺ مثلما تقبلها سلفه، وسار خلفه أيضًا وعلى أثره وفي الخط نفسه مع أنهم كانوا من عظماء التاريخ ودهاته، ولكنهم لم يقصروا في التسليم والتصديق برسالة النبي ﷺ.
رسالة صالحة لكل زمان
ونحن الآن على أبواب القرن الحادي والعشرين، ومرور أربعة عشر قرنًا لم يغير من هذا الأمر شيئا، إذ لم تزل الرسالة التي أتى بها رسول الله ﷺ رسالة يانعة نضرة وغضة تخاطب أرواحنا وقلوبنا وعقولنا، ذلك لأنها آتية ممن يعلم سرنا ونجوانا، وإلا فإن من المستحيل على أي إنسان أن يضع نظامًا يصلح لكل العصور.. فهذا موضوع يفوق طاقة أي إنسان مهما كان ذلك الإنسان من الذكاء والعبقرية.
أن تكون رسالته ملائمة لجميع الشعوب وهذه الأمم ومقبولة من قبلها جميعًا أمر خاص برسولنا ﷺ، ولا نملك إلا أن نقول إن هذه معجزة.
يمكن أن نجد تفاصيل النظام التربوي الذي أتى به الرسول ﷺ في القرآن والسنة. ولو كان عمل الرسول ﷺ مقتصراً على تبليغ القرآن الكريم للناس وإقناعهم به لكان ذلك عملاً رائعاً، ومع أن القرآن ليس موضوعنا الآن إلا أنني اضطررت إلى الاستطراد في هذا الموضوع.
نور العلم يسطع
لقد ظهر سيد المرسلين في مجتمع أمي جاهل لا يعرف المدارس ولا يعرف القراءة والكتابة. وعندما ارتحل إلى الرفيق الأعلى كان أغلب الصحابة يعرفون القراءة والكتابة بدءً ممن بلغ الرشد حديثًا إلى الشيخ الكبير الذي ينتظر دخول القبر، وعندما ننظر إلى عهدنا الحالي بكل الإمكانيات المتوفرة فيه وبالرغم من كل الجهود -حتى الإكراه والضغط أحيانًا- فإن قسمًا كبيرًا من المواطنين لا يعرفون القراءة والكتابة رغم مرور خمس وستين سنة على قبول تركيا للحروف اللاتينية. أما رسول اللّٰه ﷺ فقد استطاع في زمن قصير يبلغ نيفًا وعشرين عاماً أن يؤسس الإيمان في النفوس ثم المعرفة ثم علمهم القراءة والكتابة. وأنا أظن أنه عندما ارتحل من هذه الدنيا إلى دار الخلود لم يكن هناك من بين أصحابه من لا يعرف قراءة القرآن الكريم… ليس قراءة القرآن فحسب، بل إن مزارعي المدينة المنورة كانوا يتلون القرآن بقراءاته السبعة أو العشرة وهم يعملون في الحراثة. وكاتب هذه الأسطر لا يعرف وجوه هذه القراءات التي يطلق عليها اسم “علم الوجوه” والذين يعرفونها اليوم أشخاص قليلون.
ما أكبر تلك القوة التي كان يملكها الرسول ﷺ بحيث استطاع تحويل الناس من الحياة البدائية إلى المدنية، ومن الدناءة إلى السمو بل جعل من رجال الجاهلية معلمين ومرشدين للأمم المتمدنة.
صحيح أن الناس كانوا أذكياء آنذاك بالفطرة ويمتلكون ذاكرة قوية غير متعبة… غير أن هذا الأمر لا يمكن تفسيره بالذكاء وقوة الذاكرة، بل يمكن تفسيره بالنظام التعليمي الذي جاء به الرسول ﷺ والذي ربط قلوبهم بالقرآن بهذا الشكل المتين.
علمًا بأن هؤلاء الناس كانوا قد فتحوا نوافذ قلوبهم لكل أنواع الشرور والآثام، فاستطاع الرسول ﷺ بإجراءاته المدهشة والرائعة أن يستل منهم كل عاداتهم السيئة وأن يصوغهم صياغة جديدة رائعة.
نماذج عملية
فمثلاً يقول القرآن الكريم: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَينِ إحْسَانًا﴾ (الإسراء:23). أثرت هذه الآية عليهم إلى درجة أن الذين كانوا يظلمون آباءهم وأمهاتهم أشد الظلم بل حتى يقتلوهم تغيروا فجأة فأصبح أحدهم يسأل الرسول ﷺ عما إذا كان هناك عقاب عليه إن لم يقابل نظرة والده إليه بالابتسامة.
استطاع الرسول ﷺ أن يقتلع الفساد من النفوس وأن يزينها بالأخلاق العالية وبالفضائل السامية، وبأرفع المزايا الإنسانية.
ويقول القرآن الكريم أيضًا:﴿ وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ ﴾(الأنعام:152؛ الإسراء:34). فأصبح معظم المسلمين تحت تأثير هذه الآية يراجعون الرسول ﷺ ويسلمونه أموال الأيتام التي بحوزتهم. وإذا دققنا النظر نرى أن الآية لا تقول: “لا تأكلوا مال اليتيم” بل تقول: ﴿وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ﴾ لذا، فإن الصحابة رضي الله عنهم بقلوبهم الحساسة كانوا يريدون التخلص من أموال اليتامى الموجودة في ذمتهم بعد أن أبدت الآية الكريمة كل هذه الحساسية في هذا الموضوع… فماذا دهى هؤلاء القوم الذين كانوا من قبل يأكلون أموال اليتامى ويضمون هذه الأموال إلى أموالهم دون أي تردد… ماذا دهاهم حتى تغيروا هذا التغير وتبدلوا كل هذا التبدل؟!
نقل ﷺ أمة بكاملها من وهدتها وسما بها وصب في روحها إلهام قلبه… بشرط واحد وهو أن لا يتعثر هؤلاء بموانع العناد والتعصب.
كان الزنا منتشرًا بينهم ومباحا، ولم يكن هناك تقريبًا من يستنكر هذا الإثم في ذلك المجتمع، فإذا بالقرآن الكريم يصرح بعد فترة من نزوله ﴿وَلاَ تَقرَبُوا الزِّنَى﴾ (الإسراء:32). فإذا به يقطع دابر كل العلاقات الآثمة وغير المشروعة… أجل، فلم يحدث سوى حادثتين أو ثلاث حوادث زنا فقط في تلك الفترة.
كان النهب والسرقة من أمارات الشجاعة والبطولة آنذاك فلما نزلت الآية بأمر ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقّةُ فَاقْطَعُوا أَيدِيَهُمَا﴾ (المائدة:38). تبدل كل شيء تبدلاً جذريًا. وأنا لا أعلم سوى وقوع حادثتين أو ثلاث حوادث فقط للسرقة طوال ذلك العهد([3])
وقال القرآن الكريم لهؤلاء الذين كان القتل أهون شيء عليهم ﴿وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّٰهُ﴾ (الإسراء:33؛ الأنعام:151). فإذا به يقطع دابر جرائم القتل. ولم تحدث طوال ذلك العهد سوى جريمتين إحداهما قيام أحد اليهود بجريمة مقصودة([4])، والأخرى قيام أحد المسلمين بقتل أحد الأشخاص خطأ ودون عمد([5])
أجل، إنها لمعجزة كبرى أن يأخذ ﷺ الكرة الأرضية بين يديه ويطبق رسالته في كل أرجائها، وهي من دلائل نبوته ورسالته.
والآن تأملوا… في غضون ثلاث وعشرين سنة من العهد النبوي لا نشاهد سوى حادثة واحدة للزنا اعترف بها صاحبها وحادثة واحدة لقتل يهودي وحادثة واحدة قطعت فيها يد امرأة سارقة… هذه الحوادث المنفردة والنادرة تحدث في مجتمع كان الناس فيه قبل سنوات قليلة يأكلون الميتة ويشربون الدم وكأنهم أفراد من مصاصي الدماء… من هذا المجتمع أخرج النبي ﷺ مجتمعًا كالماء الزلال… ومن هذا المجتمع الملوث والفاسد، ومن هذا الوسط العفن والآسن ربَّى النبي ﷺ أشخاصًا أمثال أبي بكر وأبي هريرة وماعز والغامدية وغيرهم وغيرهم فأسس مجتمعًا نظيفًا ونورانيًّا… إن لم يكن هذا معجزة فما هي المعجزة إذن؟
ليس في إمكاني استعراض تفاصيل هذا الموضوع العريض والعميق بكل جوانبه، لذا فسأستعرض هنا -إن سمحتم- مبادئ بعض الخصال والأخلاق العالية وإيراد مثال أو مثالين حولها لمعرفة مدى عظمة إجراءات الرسول ﷺ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بقلم/ فتح الله كولن
ملحوظة: عنوان المقال، والعناوين الجانبية من تصرف محرر الموقع.