بقلم: علي يورطاجول
إذا نظرنا إلى الأخبار التي نشرتها وسائل الإعلام المقربة من حكومة حزب العدالة والتنمية حول آخر زيارة أجراها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى أنقرة والتعاون الاقتصادي التركي – الروسي، نرى أن الزعيم الروسي قد “فتح” القلوب في أنقرة.
كانت تركيا قد حُرمت من الرحمة والحب، اللذين اعتقدت أن الغرب امتنع عن تقديمهما لها، فاتجهت إلى روسيا وأضحت تعيش حالة من النشوة بسبب الأجواء الدافئة القادمة من موسكو. وإذا كانت عبارة “صدقوني فإن الغرب لا يحبنا”، التي أطلقها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، تعكس بشكل واضح علاقته مع الغرب وحالته المزاجية، فإن التعليقات التي أطلقتها وسائل الإعلام المؤيدة لحزبه بشأن زيارة بوتين إلى أنقرة، تثبت لنا بالدليل القاطع أن هذه الفئة قد فقدت قدرتها على التفكير العقلاني بالكلية.
لم يعد المسؤولون في أنقرة يناقشون مع نظرائهم الروس مسألة أن نظام بشار الأسد في سوريا صامد بفضل الدعم الروسي، ذلك النظام المجرم الذي تسبب بمقتل 250 ألف شخص في سوريا، ويواصل قصف مدن حلب وحمص وحماة بفضل دعم روسيا. كما يبدو أن قضية تتار القرم لم تدرَج ضمن قائمة الموضوعات التي ناقشها أردوغان مع بوتين. وحتى إن كانت هذه القضية قد نوقشت بينهما، فمن المؤكد أن بوتين لم يجد صعوبة في إقناع أنقرة بأن بلاده تبذل ما بوسعها من جهود لإعادة السلام إلى أوكرانيا وشبه جزيرة القرم كما هو الحال في سوريا ومنطقة القوقاز.
على أية حال، صحيح أنه يجب أن تكون لدى تركيا سياسة خاصة بها في التعامل مع روسيا وإيران. أما القيمة السياسية لهذه السياسة فلا تستوجب اتخاذ موقف مستقل عن المنظمات الدولية التي تمتلك أنقرة عضوية بها مثل حلف شمال الأطلسي (ناتو). وليس من الأخلاقي بالمرة أن يرى أحد أن خرق الحظر الذي يفرضه الناتو في إطار السياسة المتبعة في التعاطي مع الأزمة الأوكرانية، والتي شاطرت أنقرة الحلف في قبولها، مصدرًا للمهارة والربح. فإذا أصبحت تركيا في مأزق أمام روسيا فيما يتعلق بالقوقاز أو البحر الأسود أو حتى المضايق، فكيف سيكون لأنقرة وجه لتطلب به الدعم والتعاون من الغرب؟ نعم أنتم محقون، من السذاجة بمكان توجيه هذا النوع من الأسئلة إلى كوادر لا تنتظر تضامنًا من “الذين لا يحبوننا”. حسنًا.. سأغلق هذا الموضوع.
هل سيكون من الإفراط انتظار تحليل ملموس بشأن روسيا وتوقع تحليل اقتصادي تكون الأرقام فيه أساسًا لكلامنا؟ لا شك في أن زيارة بوتين إلى أنقرة تعتبر زيارة ناجحة بالنسبة لموسكو من حيث توقيتها وهدفها. فهل يمكن أن نقول إن هذا الحكم سارٍ كذلك بالنسبة لأنقرة؟
يمكننا القول إن زيارة بوتين إلى تركيا كانت ناجحة؛ إذ إنها كانت تهدف إلى تخفيف أضرار الحصار الاقتصادي المفروض على روسيا، وكذلك الوصول إلى أسواق جديدة لبيع الغاز الطبيعي والنفط واليورانيوم. ولا ريب في أن انفتاح روسيا على أسواق جديدة مثل الصين والهند وتركيا يحمل أهمية كبيرة من حيث تخفيف حدة العقوبات المفروضة على موسكو من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن أهميته تفرضها مسألة فتح أسواق جديدة لمواجهة أي عقوبات يفرضها الغرب على روسيا في المستقبل. وليس من العجيب أن نلاحظ أن بوتين يشعر بسعادة غامرة من تعمُّق ارتباط تركيا بمصادر الطاقة الروسية. حيث تستورد تركيا 65% من احتياجاتها من الطاقة من روسيا. ولا ندري هل المسؤولون في أنقرة يدركون أنهم وضعوا جميع البيض في سلة واحدة بتعاملهم مع روسيا في مسألة توفير مصادر الطاقة. أوليس من الخطر أن تتعاقد تركيا مع شركة (Rosatom) لتسلّم رقبتها في المجال النووي إلى بوتين وكأن زيادة الارتباط بشركة (Gazprom) الروسية الأخرى في مجال الطاقة لا تكفي؟
كان بوتين قد دفن في أنقرة مشروع خط أنابيب تيار الجنوب (South Stream) الميت أصلًا، من أجل ألا يأتي إلى أنقرة بيد خاوية. وفي الوقت الذي ألقى فيه بوتين اللوم على بلغاريا أشار رئيس شركة (Gazprom) أليكسي ميلر بأصابع الاتهام إلى “عائق الاتحاد الأوروبي”. وكان الاتحاد الأوروبي قد أقدم على تنفيذ مشروع مد خط أنابيب “نابوكو” بغرض تقليل اعتماده على مصادر الطاقة الروسية، إلا أن الجانب الروسي بادر إلى تنفيذ مشروع خط أنابيب تيار الجنوب من أجل إحباط نجاح مشروع خط أنابيب (نابوكو) إلا أن مشروع تيار الجنوب كان سيتطلب تخصيص مصادر مالية تبلغ 3 أضعاف ما يتطلبه خط (نابوكو) ذلك أنه سيمر من البحر الأسود. وكان بعض دول الاتحاد الأوروبي أعرب عن دعمه للمشروع بعدما رأى أن هذا القرار سياسي وليس اقتصادياً لا سيما وأنه اتُخذ في أيام وصلت فيها أسعار النفط والغاز الطبيعي إلى أعلى مستوياتها. وعلى سبيل المثال. دافعت إيطاليا عن هذا المشروع في بروكسل ليس لأنها ستحصل على الغاز الطبيعي من هذا الخط فقط، بل لحسابها – في الوقت نفسه – أنها ستجني 5 مليارات دولار من وراء تنفيذ هذا المشروع.
وفي هذه الأيام التي انخفضت فيها أسعار النفط والغاز الطبيعي إلى أدنى مستوياتها فإن بوتين لم يعد يمتلك المال الكافي لتنفيذ “المشاريع السياسية”. هذا فضلًا عن أن قيمة الروبل الروسي تتدهور بمرور الوقت. وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن النفط والغاز الطبيعي يمثلان المصدر الرئيس لإيرادات الميزانية في روسيا، فإن ما يشغل بوتين حاليًا ليس تيار الجنوب، بل القدرة على المحافظة على هدوء الميادين والشوارع في بلاده في مواجهة الانزعاج الشعبي من الحدّ من الخدمات والإمكانات الاجتماعية. كما أن مصدر أي احتجاجات محتملة واضح.. ألا وهو القوى الخارجية.
إذا كان دفن مشروع تيار الجنوب، الذي وُلد ميتًا، في أنقرة سيسعد أردوغان فإن بوتين، الذي قال “لمَ لا؟”، وجد إمكانية إرسال رسائل إلى الناتو والاتحاد الأوروبي من أنقرة. وكأنه يقول للغرب “إن تضامنكم إلى هذا الحد”.
حسنًا، ماذا تفعل أنقرة؟ وأين تقف؟ ألم تعد تركيا عضواً بالناتو ومرشحة لدخول الاتحاد الأوروبي؟ ولا شك في أن مناقشة الصحافة الأوروبية لأوجه الشبه بين بوتين وأردوغان، اللذين ينحدران من جذور مختلفة للغاية، ليست من قَبيل الصدفة.