تقرير: محمد عبيد الله
واشنطن (زمان التركية) – نشرت مجلة “فورين بوليسي” الأمريكية، الصادرة كل شهرين، في عددها الأخير، مقالاً مثيرًا حمل عنوان “ذراع أردوغان الطولى في أوروبا”، للباحث والكاتب الأكاديمي لورينزو فيدينو المعروف بكتاباته حول “الإسلام السياسي” على شتى أشكاله.
فقد حاول الكاتب في مقاله المطول تسليط أضواء كاشفة لمراحل تحوّل حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا بقيادة رجب طيب أردوغان من حزب جماهيري محافظ ديمقراطي إلى حزب إسلامي راديكالي، وتوظيفه جماعات الإسلام السياسي، في مقدمتها منظمة “الرؤية الوطنية” (ملي غوروش) التركية والإخوان المسلمين العربية، في تسويق سياساته الإقليمية والدولية.
وأفاد الكاتب أن تركيا تسعى للحصول على النفوذ والقوة في جميع أنحاء الاتحاد الأوروبي، ونشر الأفكار الراديكالية التي تعرِّض الجهود المبذولة لدمج الشتات التركي للخطر، مشيرًا إلى أن العلاقات مع تركيا تسببت في السنوات الأخيرة بصداع لمعظم الحكومات الأوروبية، بعدما ولّت منذ زمن طويل تلك الأيام التي كان معظم المراقبين الأوروبيين ينظرون إلى الرئيس أردوغان وحزبه العدالة والتنمية كديمقراطيين حقيقيين منفتحين للحوار والتعايش المشترك.
ولفت لورينزو فيدينو إلى أن الحكومات الأوروبية ترفض بشكل روتيني السياسات الخارجية والداخلية التركية فيما يتعلق بعديد من القضايا، ذكر منها تعامل أنقرة مع تنظيم داعش الإرهابي، وأزمة الهجرة، والمعاملة التعسفية للصحفيين والمعارضين السياسيين والأقليات، ثم أضاف: “لكنها فوجئت بنفس القدر بالخطاب العدواني لنظام حزب العدالة والتنمية تجاه زعماء الاتحاد الأوروبي ومحاولاته الجريئة لممارسة النفوذ والتأثير على الشتات التركي، بل على كل المجتمعات الإسلامية الأوروبية عامة.”
ووصف فيدينو موجة التصريحات الاستفزازية التي تدلي بها قيادات تركية عليا من حين لآخر، وعلى رأسها أردوغان، وتضخّمها بانتظام وسائل الإعلام الرسمية والموالية للسلطة بـ”المثيرة للقلق”، متهمًا كبار السياسيين الأتراك بانتهاز أي جدل مع أوروبا بانتظام ليتهموها بمعاداة وكراهية الإسلام، وحثّ الأتراك وغيرهم من المسلمين الذين يعيشون في أوروبا على رفض القيم الغربية.
وأردف فيدينو: “يتوجه المسؤولون الأتراك أحيانًا أخرى إلى خطاب مثير للاشمئزاز، مثلما أعلن ألبارسلان كافاكليوغلو، رئيس لجنة الأمن والاستخبارات بالبرلمان التركي، في مارس 2018 أن ’أوروبا ستكون مسلمة. سنكون فعالين هناك إن شاء الله. وأنا واثق من ذلك”.
ثم أعطى مثالاً آخر على هذا الخطاب المثير للاشمئزاز قائلاً: “في خطاب ألقاه في يناير عام 2019 بمدينة إزمير، صرح الرئيس التركي أردوغان نفسه بأن حدود تركيا تمتد من فيينا إلى شواطئ البحر الأدرياتيكي، من تركستان الشرقية [منطقة شينجيانغ الصينية ذاتية الحكم] إلى البحر الأسود”.
واستدرك الكاتب قائلاً: “لكن الموقف الجديد لتركيا يتجاوز بكثير هذا الخطاب العدواني. فخلال العقد الماضي، استثمرت أنقرة مبالغ كبيرة في تطوير كل من المنظمات الحكومية وغير الحكومية لتعزيز أجندتها السياسية في جميع أنحاء أوروبا. وبينما تسعى معظم هذه الأنشطة إلى بناء النفوذ من خلال تشكيل جماعات الضغط، والأنشطة التعليمية والثقافية، فإن هناك أنشطة أخرى أهدافها أكثر خطورة”.
كما تطرق الكاتب إلى أن الأجهزة الأمنية في مختلف الدول الأوروبية كشفت عن زيادة هائلة في أنشطة وكالات الاستخبارات التركية على أراضيها، حيث قال: “منذ الانقلاب الفاشل في يوليو 2016، والذي ألقى أردوغان باللوم فيه على حليفه السابق الداعية الإسلامي فتح الله كولن، تم توسيع نطاق تلك العمليات لتشمل خطف المتعاطفين معه والمنتسبين إلى حركة الخدمة، وكذلك الأكراد والعلمانيين وغيرهم من نشطاء معارضين لحزب العدالة والتنمية الذين يعيشون في أوروبا.”
وذكر الكاتب في مقاله بمجلة فورين بوليسي المقربة من الدوائر السياسية فى واشنطن، أن تركيا تتهم أيضًا بإساءة استخدام نظام “الإشعار الأحمر” الصادر من إنتربول عن طريق إضافة أسماء مجموعة واسعة من معارضي نظام أردوغان، بمن فيهم لاعب كرة السلة أنس كانتر المعروف بتعاطفه مع حركة الخدمة في قاعدة بيانات المنظمة.
ثم نوّه لورينزو فيدينو بأن السياسي النمساوي البارز بيتر بيلز من حزب الخضر حصل على وثائق مسربة من مصادر تركية لم يكشف عنها، ونقل عنه قوله: “لقد فوجئنا بأنفسنا عندما رأينا أن تركيا أردوغان قد أسست شبكة تجسس مشددة، من اليابان إلى هولندا، من كينيا إلى المملكة المتحدة.” “في كل ولاية، يتم استخدام شبكة تجسس ضخمة تتكون من جمعيات ونوادي ومساجد عبر السفارة والملحق الديني وضابط المخابرات المحلي من أجل التجسس على منتقدي أردوغان على مدار الساعة”.
وأشار فيدينو إلى أن السلطات في العديد من الدول الأوروبية تتحدث علنا أو سرا عن ديناميات مماثلة وكشف الستار أكثر من مرة عن مؤامرات لاختطاف معارضي النظام على أراضيها، ثم يوضح قائلاً: “أنشطة الحكومة التركية على الأراضي الأوروبية، سواء كانت تهدف إلى التجسس أو التأثير، تقودها سفاراتها التي تعمل تحت الحصانة الدبلوماسية. لكن السفارات، كما لاحظ بيلز ، تشرف على شبكة واسعة من الكيانات غير الحكومية، بدءًا من المنظمات الدينية وانتهاء إلى الشركات الخاصة. من أهم العناصر في هذه الشبكة هو أعضاء “الرؤية الوطنية”، التي تأسست في أواخر الستينيات على يد نجم الدين أربكان الراحل، المرشد السياسي لأردوغان”.
وعرّف فيدينو منظمة الرؤية الوطنية بأنها منظمة إسلامية لها خلفية قومية قوية، وهي حركة تتبنى العديد من مواقف جماعة الإخوان المسلمين وأهدافها وتكتيكاتها، لكنها تتميز بنكهة “العثمانية الجديدة”، لافتًا إلى أنها تعمل منذ فترة طويلة في أوروبا، وتضم ما يقدر بنحو 300 ألف من الأعضاء والمتعاطفين، وتتحكم في مئات المساجد، معظمها في ألمانيا.
وكتب فيدينو أن السلطات في جميع أنحاء أوروبا تعرب باستمرار عن مخاوفها بشأن منظنة الرؤية الوطنية، وأن أجهزة الأمن الفيدرالية وأمن الدولة في ألمانيا تراقب أنشطة وتحركات تلك المجموعة عن كثب. وَأضاف: “لكن الوكالات الألمانية تميز بين أعضاء الرؤية الوطنية والجماعات الإرهابية، وتعترف بأن أفعالها السابقة كانت في إطار الديمقراطية، ولا تدعو إلى العنف داخل ألمانيا. ومع ذلك فإن تقييمها لأهداف الرؤية الوطنية مثير للقلق، وتسلط الضوء على آرائها القوية المعادية للغرب والديمقراطية والسامية. كما أنها تقدم المجموعة كتهديد مباشر لجهود الحكومة لدمج المهاجرين الوافدين حديثًا والألمان من أصل تركي.
ونقل فيدينو عن التقرير السنوي (2005) الصادر عن وكالة الأمن الداخلي في ألمانيا قوله: “تمثل هذه الجماعات الإسلامية الشرعية تهديداً خاصاً للتماسك الداخلي لمجتمعنا. حيث تستخدم مجموعة واسعة من أنشطة التعليم والدعم الموجهة نحو الإسلاميين، وخاصة للأطفال والمراهقين من أسر المهاجرين، لتشجيع إنشاء وانتشار بيئة إسلامية في ألمانيا. تتعارض هذه المساعي مع الجهود التي تبذلها الإدارة الفيدرالية والولايات لدمج المهاجرين. هناك خطر من أن هذه الأوساط قد تشكل أيضًا أرضًا خصبة لمزيد من التطرف”.
ثم ينبّه الكاتب فيدينو إلى الفرق بين التوجهين العلماني السابق والإسلامي الحالي في السياسة الخارجية التركية قائلاً: “دعم نظام أردوغان لمنظمة الرؤية الوطنية ليس مفاجئًا، لكنه يعكس سياسة تنتهجها أنقرة لفترة طويلة. تاريخياً، كانت الدولة التركية داعمًا رئيسيًا للمنظمات غير الإسلامية التي تعمل في مختلف الدول الغربية حيث يوجد الشتات التركي. الواقع أن الهدف لم يكن دعمًا بل إقامة توازن بين تلك المجموعات العرقية والدينية كالعلويين والأكراد. وكان الإسلام التركي في أوروبا يتسم تقليديًا بالمنافسة بين مؤسسة الشؤون الدينية التركية الرسمية التي كانت تتبنى تفسيرًا معتدلاً للإسلام يقوم على مبدأ الفصل بين الدين والدولة، ومنظمة الرؤية الوطنية التي كانت تدافع عن الإسلام السياسي”.
وتابع الكاتب: “لكن مع صعود أردوغان وحزب العدالة والتنمية إلى السلطة، تغيرت هذه الديناميات بشكل جذري. وبحلول عام 2005 حيث عزز حزب العدالة والتنمية تدريجياً قبضته على السلطة في تركيا، قامت الحكومة بتغييرات مهمة على موظفي الشؤون الدينية الرسمية والمؤسسات الدينية. وتطابق هذا التحرك المحلي مع سياسة جديدة في أوروبا: زالت الحدود الفاصلة بين مؤسسة الشؤون الدينية التركية الرسمية ومنظمة الرؤية الوطنية بعد تنافس طويل بين الطرفين.
ثم جذب الكاتب الانتباه إلى نقطة مهمة قائلاً: فى الآونة الأخيرة، فإن محاولات حزب العدالة والتنمية لممارسة نفوذ على المجتمعات المسلمة فى أوروبا قد تجاوزت السيطرة على منظمات الشتات التركية لتمتد إلى تشكيل شراكة وثيقة مع المنظمات الإسلامية الأوروبية عمومًا والأفراد الذين تربطهم صلات بجماعة الإخوان، نتيجة لهذه التغييرات، بدأت الحكومة التركية أو المنظمات غير الحكومية والمؤسسات المالية القريبة من الحكومة وحزب العدالة والتنمية فى توفير الدعم المتزايد للشبكات المرتبطة بالإخوان، والتى بدورها تعمل على الترويج لحكومة حزب العدالة والتنمية”.
وقال إن ممثل تركيا فى هذه العمليات هو القيادى البارز إبراهيم الزيات الذي تقلد العديد من المناصب العليا فى المنظمات الداعمة لجماعة الإخوان فى كل من ألمانيا وعلى المستوى الأوروبى، حتى أن رئيس إحدى وكالات الاستخبارات الأكثر قوة فى ألمانيا وصفه بـ”عنكبوت فى شبكة المنظمات الإسلامية”، وهو أيضًا مدير تنفيذى لشركة أموج (EMUG)، ويقع مقرها ألمانيا، وتدير أكثر من 300 مسجد تابع لشبكة الرؤية الوطنية، معيدًا للأذهان أن الزيات متزوج من ابنة نجم الدين أربكان التي شغل شقيقها منصب رئيس مجلس إدارة منظمة الرؤية الوطنية في ألمانيا وكذلك رئيس مجلس إدارة شركة أموج المذكورة.
ونعت لورينزو فيدينو الذي ألف كتابًا بعنوان: “الإخوان المسلمون الجدد في الغرب” العلاقات الجديدة بين جماعتي الإخوان والرؤية الوطنية بـ”التطور غير المفاجئ”، وقال إن ما حدث هو ببساطة تكثيف العلاقة التي كانت قائمة منذ عقود. ثم فصل قائلاً: “كانت الأحزاب الإسلامية التركية وجماعة الإخوان في الشرق الأوسط – وعلى نفس المنوال، منظمة الرؤية الوطنية والشبكات الأوروبية لجماعة الإخوان- متقاربة دائمًا على الرغم من استقلالها. فالشبكات الإسلامية التركية وجماعة الإخوان المسلمين مرتبطة ببعضها البعض من خلال الانتماءات الإيديولوجية الأساسية رغم اختلاف النكهات المحلية. ثم تعززت هذه العلاقة بين الطرفين اعتبارًا من أحداث الربيع العربي. وقد أقامت فروع الإخوان من جميع أنحاء العالم العربي متجراً في إسطنبول وتتلقى الدعم السياسي والمالي من أنقرة، بالإضافة إلى إدارة محطات تلفزيونية من تركيا بكامل الحرية.”
واستمر الخبير الأمريكي قائلاً: “مع ازدهار تركيا اقتصاديًّا، فإن أردوغان توجه لاستثمار كل الجماعات الإسلامية في الدبلوماسية الدولية والمساعدات الإنسانية لزيادة نفوذه، سواء في البلدان ذات الأغلبية المسلمة أو في الدول الغربية ذات الأقليات المسلمة المهمة، في مسعىً ليصبح زعيمًا بلا منازع للعالم الإسلامي. يستفيد أردوغان من المنظمات الدينية للدولة التركية الخاضعة لسيطرة حزبه، والجماعات الإسلامية التركية مثل منظمة الرؤية الوطينة، والمنظمات ذات المصالح المشتركة والآفاق السياسية، مثل جماعة الإخوان المسلمين ومشتقاتها في الغرب. . وقد أوضح ياسين أكتاي، نائب رئيس حزب العدالة والتنمية السابق والمستشار الحالي لأردوغان، هذه الديناميكية بإيجاز عندما قال: “يمثل الإخوان المسلمون قوة تركيا الناعمة”.
يشعر الأوروبيون بقلق متزايد عن تداعيات العمليات التركية للتأثير والنفوذ على أراضيهم. تمثل مواجهة هذه الحملة تحديًا، نظرًا لأنها منظمة من قبل دولة قوية تتمتع بصلات تجارية وسياسية وأمنية عميقة مع معظم الدول الأوروبية. ومع أن هذه الجهود قانونية في معظمها، إلا أنه من الواضح أن السفارات التركية والمنظمات الدينية والشركات الاقتصادية التي تعمل بالتنسيق مع شبكة واسعة من الكيانات المرتبطة بالإخوان المسلمين تتابع مصالح معينة وتروّج لآراء وأفكار معينة داخل المجتمعات الإسلامية الأوروبية تتصادم مع آراء الحكومات الأوروبية.