تقرير: ياوز أجار
برلين (زمان التركية) – رفضت اللجنة العليا للانتخابات في تركيا مساء أمس الثلاثاء طعن حزب العدالة والتنمية الحاكم في شرعية أصوات الموظفين المفصولين بقرارات الطوارئ بعد الانقلاب المزعوم في عام 2016، إلا أنها قررت إعادة النظر في 41 ألفًا و132 صوتًا.
وكانت لجنة الانتخابات المحلية في مدينة إسطنبول سلّمت مرشح حزب الشعب الجمهوري أكرم إمام أوغلو محضر تنصيبه رئيسًا لبلدية إسطنبول الكبرى عقب الانتهاء من النظر في الطعون التي قدمها الحزب الحاكم.
ويتفق المراقبون على أن خطوة فرع لجنة الانتخابات في إسطنبول وضعت أردوغان في موقف حرج، وعرقلت -ولو مؤقتًا- محاولات اللجنة العليا الرامية إلى إعادة الانتخابات في إسطنبول، رضوخًا للضغوطات التي يمارس عليها الحزب الحاكم برئاسة أردوغان، أما خطوة اللجنة العليا الأخيرة الرافضة لإلغاء أصوات المفصولين، فهي تصبّ في مصلحة المعارضة أيضًا، إلا أنها لم تقضِ على آمال أردوغان تمامًا من خلال اتخاذها قرارًا بإعادة النظر في 41 ألفًا و132 صوتًا.
ولا يزال الشارع المحلي والدولي يبحث عن إجابة للتساؤلات التي تدور حول ما إذا كانت لجنة الانتخابات المحلية في إسطنبول أسندت مهمة رئاسة البلدية إلى إمام أوغلو بعد التشاور والتنسيق مع لجنة الانتخابات العليا والحصول على “الضوء الأخضر” منها أم لا.
وقد رجّح أستاذ العلوم السياسية محمد أفا تِشيمان، في مقال نشره موقع (TR724) الإخباري التركي، أن اللجنة المحلية اتخذت قرارها دون الرجوع إلى اللجنة العليا، بل إن القرار جاء على عكس رغبتها، مبينا أن ذلك يدل على وجود أكثر من “لاعب” في المشهد السياسي الجديد.
وهذا ما أيده يكتان تورك يلماز، الباحث التركي المنحدر من أصل كردي، من معهد “فريدريش مينيكي” الألماني، في مقال بعنوان “المرحلة الجديدة بعد خسارة أردوغان أنقرة وإسطنبول” نشره موقع “أحوال تركية”، حيث لفت إلى ظهور “دولة” تحارب ضد “الدولة” لأول مرة منذ الانقلاب المزعوم في 2016، على حد تعبيره.
وقال تِشيمان: “يبدو أن لجنة الانتخابات المحلية في إسطنبول فرضت أمرًا واقعًا وحققت تفوّقًا نفسيًّا للمعارضة من خلال تسليم إمام أوغلو محضر التنصيب، الأمر الذي قطع الطريق أمام الرئيس أردوغان الذي كان يستعد مع فريقه لإطلاق حملة من أجل استصدار قرار من لجنة الانتخابات العليا بتجديد الانتخابات في عموم إسطنبول”.
لقد أسفرت الانتخابات المحلية عن معادلة جديدة في تركيا من شأنها أن تحطّم التحالفات الحالية لتتشكّل تحالفات جديدة، فمع أن أردوغان تحالف مع تنظيم أرجنكون، الموصوف إعلاميًّا بـ”الدولة العميقة”، من أجل التغلّب على مشكلة ملفات الفساد والرشوة في 2013، إلا أن هذا التنظيم ليس كيانًا موحدًا، وهناك أمارات تدل على أن بعض المجموعات ضمن هذا الكيان لا تزال ترى إمكانية استغلال أردوغان لمدة إضافية وتدعم بقائه في السلطة؛ بينما ترى مجموعة أخرى أنه فقد شعبيته بسبب الأزمة الاقتصادية وأسباب أخرى، وتدعو للبحث عن “واجهة” جديدة، بحسب الأستاذ تِشيمان.
ويشير الأستاذ تِشيمان إلى أن النظام الحالي، الذي أسسه تحالف أردوغان وأرجنكون الموالي للمعسكر الأوراسي، بعد الانقلاب المزيف في 2016 من أجل تصفية الضباط والعسكريين الموالين لحلف شمال الأطلسي الناتو، بحجة مكافحة المتعاطفين مع حركة الخدمة، سيضطر إلى اتخاذ قرارات معينة تفرضها عليه الظروف الاقتصادية القاهرة.
ولفت الأستاذ تِشيمان إلى أن الأزمة الاقتصادية في تركيا وصلت إلى مستويات بحيث لا يمكن الخروج منها بدون طرق باب المؤسسات الاقتصادية الدولية، مثل صندوق النقد الدولي.
وتابع قائلا: “إذا ما اضطرت حكومة حزب العدالة والتنمية للّجوء إلى صندوق النقد الدولي فإنه سيفرض عليها شروطًا سياسية، من قبيل العودة إلى الديمقراطية وتفعيل الدستور والقانون في البلاد”.
وشدّد الأستاذ تِشيمان على أن أنصار المعسكر الأوراسي في تركيا على دراية بالنتائج التي ستتمخض عن سياسات النقد الدولي المحتملة، مشيرًا إلى أن إعادة مئات الآلاف من المفصولين بقرارات الطوارئ إلى وظائفهم السابقة، والإفراج عن عشرات الآلاف من المعتقلين بقرارات تعسفية، بمن فيهم حوالي 40 ألف ضابط عسكري، ستأتي في مقدمة تلك الخطوات الديمقراطية، الأمر الذي يشكّل مسألة حياة أو موت لكل من طرفي هذا التحالف، أي أردوغان وأرجنكون.
وأردف الأستاذ تِشيمان بقوله: “إذا وافقت لجنة الانتخابات العليا على قرار فرعها في إسطنبول، وأعلنت فوز مرشح المعارضة إمام أوغلو ببلدية إسطنبول، فإن هذه الخطوة من المرتقب أن تفتح أمام تركيا فرصة الحصول على دعم من النقد الدولي والغرب، على المديين الوسط والطويل، وضمن الشروط السياسية المذكورة، التي من شأنها أن تقود تركيا إلى النظام الدستوري مجددًا على المدى الطويل.”
وأشار تِشيمان إلى أنه في هذه المرحلة قد ينضمّ إلى السلطة السياسية محور أو لاعب ثالث، ويلعب دورًا ملموسًا، وتوقّع أن يكون ذلك اللاعب كل من حزبي الشعب الجمهوري و”الخير”، الذين وصفهما بأحد الأطراف التي تشرعن النظام الحالي، نظرًا لأنهما يتبنيان الخطاب ذاته مع النظام خصوصًا فيما يتعلق بالسياسة الداخلية، ويسكتان على الاعتقالات التعسفية بحجة مكافحة منظمة فتح الله كولن.
وذكر الكاتب الخبير في الشؤون السياسية احتمالاً آخر قائلاً: “قد يفضّل الكيان العميق، تنظيم أرجنكون، خيار الحصول على موارد اقتصادية من روسيا والصين، بدلاً من النقد الدولي والغرب عمومًا، وهذا قد يطلق مرحلة تنتهي بخروج تركيا من حلف الناتو”.
وأضاف: “في هذه الحالة قد يعتقد الكيان العميق أن أردوغان من الممكن أن يؤدي دورًا أفضل من حزبي الشعب الجمهوري والخير، خصوصًا إذا حصل على دعم حزب الحركة القومية الحليف مع حزب العدالة والتنمية. لذا قد يرجّح ذلك الكيان الاستمرار في العمل مع أردوغان ودولت بهجالي بدلاً من الشعب الجمهوري والخير.”
ولا شكّ أن تركيا أمام خيارات صعبة، حيث إن حكومة الظلّ، التي تدعى أرجنكون، إذا نجحت في تقديم برنامج اقتصادي ناجح قادر على إخراج نظام أردوغان من أزمته الحالية، بالتنسيق مع كل من موسكو وبكين، فإن ذلك قد يؤدي إلى انفصال تركيا عن الغرب تمامًا، الأمر الذي يعتبر تحولاً جيوسياسيًّا بالنسبة للمعسكر الأطلسي بلا شك.
وكان حزب العدالة والتنمية بقيادة أردوغان قدم خدمتين فريدتين في السنوات الأولى من حكمه، بحيث فتحتا عصرًا جديدًا أمام تركيا، وهما: فتح الاقتصاد إلى السوق العالمي بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وإطلاق مفاوضات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. إلا أنه عاد بعد 17 عامًا إلى المربع الأول، وبات مضطرًا أن يحسم قراره فيما يتعلق بتجديد الانتخابات البلدية في إسطنبول وتحديد موقفه من صواريخ S-400 الروسية وموقعه من حلف الناتو.
ونختتم بما كتبه الخبير الاقتصادي في موقع “أحوال تركية” عطا الله يشيل أدا في هذا الشأن: “تركيا لا يمكن أن تتحمل الفاتورة السياسية والاقتصادية والمعنوية لانفصالها عن الغرب، بل ستتعرض لزلزل شديد يكون مركزه البيت الداخلي لحزب أردوغان. وقد اعترف هو نفسه بذلك عندما قال: “إن الجميع بدأ في التشتت والانتكاس بعد الانتخابات. حيث أرى أن كثيرًا من زملائنا يبحثون عن توجهات ومسارات جديدة في وقت يجب أن نتضامن ونقف جنبًا إلى جنب. الانتماء إلى ’مدارس الأئمة والخطباء‘ يعني في الوقت ذاته أن تكونَ صاحب رسالة تناضل من أجلها، وتدركَ موقعك وتَثبُتَ في المركز من دون هروب إلى أماكن أخرى عند أول زعزعة. فهذا ليس من شيم المناضلين أصحاب الدعوة والرسالة.”