بقلم : محمد كاميش
يتهم رئيس الجمهورية التركي رجب طيب أردوغان المحكمة الدستورية بأنها مؤسسة من بقايا الانقلاب. أما سبب توجيهه هذا الاتهام فهو قبول المحكمة الدستورية النظر في الطلب الفردي المقدم إليها والذي يتعلق بعتبة العشرة بالمائة في الانتخابات، وإثارة جدل حول إلغاء هذه العتبة التي تفرض على أي حزب سياسي الحصول على نسبة 10% كحد أدنى من أصوات الناخبين للتمثيل في البرلمان بمجموعة برلمانية.
لايتكلم أردوغان إلا من خلال الإشارة إلى الإرادة الوطنية؛ إذ إنه يؤمن بحصوله على مشروعيته كلها من خلال الأصوات التي حصدها من صناديق الانتخابات. وفي الوقت الذي ينظر فيه إلى المحكمة الدستورية على أنها من نتاج حقبة الانقلابات العسكرية، يتغاضى عن أن عتبة العشرة بالمائة هي نتاج للحقبة الانقلابية ذاتها. ولا أحد يعرف كيف سيوضح لنا هذا التناقض الذي وقع فيه.
كما يعرف جميع المهتمين بالتاريخ السياسي التركي أن عتبة العشرة بالمائة هي نتاج لانقلاب 12 سبتمبر / أيلول 1980. ولا تعترف هذه العتبة بحق المشاركة في البرلمان لأي حزب سياسي لا يحصل على نسبة معينة من أصوات الناخبين. وكان حزب العدالة والتنمية قد استفاد من إرادة 65% من الشعب في انتخابات عام 2002، بالرغم من حصوله على 35% فقط من الأصوات. كما نجح الحزب في الحصول على أغلبية برلمانية بنسبة 63% بعد حصده 46% من الأصوات في انتخابات عام 2007. ولم يتغير الأمر كثيرًا عندما حصل على أغلبية برلمانية بنسبة 62% بحصده 49% من أصوات الناخبين في انتخابات عام 2011.
لا شك في أن هذه الوضعية هي مثال ملموس وحيّ يبرهن على أن الحكومة التركية تدافع دائمًا عمّا تقتضيه الظروف وما يخدم مصلحته، لا ما تفرضه المبادئ. أي أن المحكمة الدستورية يلصَق بها اتهام بأنها مؤسسة من بقايا عهد الانقلاب ويساء إليها لأنها تناولت بالنقاش موضوعًا لا يروق للسلطة الحاكمة. لكن السلطة الحاكمة نفسها تدافع في الوقت نفسه عن عتبة العشرة بالمائة، مع أنها هي أيضا من نتاج الحقبة الانقلابية نفسها، لأنها تصب في مصلحتها.
يجب أن نعرف جيدًا أن الإرادة الوطنية للشعب التركي يمثلها دستور عام 1982، لأن ذلك الدستور دخل حيز التنفيذ بعدما حصل على تأييد شعبي بنسبة 91.37%. لا يظنن أحد أني أدافع في هذا المقام عن دستور الانقلاب. لكن أقول إن هذا الدستور سيمثل الإرادة الشعبية حتى ينوي الشعب تغييره وإصدار دستور جديد للبلاد.
وبما أن الشرعية تكتسَب في أي بلد من خلال الدستور، فإن كل شخص في البلاد يكتسب شرعيته وفق الدستور. فرؤساء الجمهوريات ورؤساء الوزراء ونواب البرلمان والطبقة البيروقراطية العليا يزاولون مهامهم استنادًا إلى السلطات والصلاحيات التي يخوّلهم إياها الدستور. كما أن استخدام صلاحيات غير موجودة في القوانين، من خلال تشكيل ظروف وأوضاع فعلية، لا يضفي الصبغة الشرعية على أحد. فإن كان الدستور ينص بوضوح على أن منصب رئيس الجمهورية منصب محايد، فإن تغيير طريقة انتخابه لا يعطي لكم الشرعيةَ لتكونوا منحازين لصالح طرف دون طرف.
أريد أن أقول إن جميع المؤسسات والأشخاص في تركيا اليوم، بما في ذلك المحكمة الدستورية، يستمد شرعيته من دستور عام 1982. وإذا كانت الإرادة الوطنية تحدَد من خلال نتائج الانتخابات، فإنكم مضطرين للانصياع والخضوع لهذا الدستور الذي وافق عليه الشعب بنسبة 91.37%. وإذا كانت الإرادة الوطنية ترغب في صياغة دستور جديد، فتفضلوا واكتبوا دستورًا جديدًا لتركيا. وإذا لم يكن لديكم القدرة على ذلك، فهذا يعني أن الإرادة الوطنية لم تمنحكم رخصة التصرف وفق ما يناسب أهواءكم.
هناك قضية يتفق عليها الجميع اليوم في تركيا، ألا وهي أن عتبة العشرة بالمائة تحول دون انعكاس الإرادة الوطنية على صناديق الانتخابات. أي أنه لو أن هناك حزبًا سياسيًا حصل على ما يفوق 5 ملايين من الأصوات في الانتخابات، فلن تتاح له فرصة لدخول البرلمان. فهل يمكن أن نطلق وصف “الانتخابات الديمقراطية” على انتخابات لا تعترف بإرادة ملايين من المواطنين؟ هذا فضلًا عن أن عتبة العشرة بالمائة تسمح للحزب الحاكم في تركيا باستخدام صلاحيات أكثر مما يستحقها. ولذلك، فإننا نواجه ظاهرة الدفاع عن عتبة العشرة بالمائة من جانب أناس يتحدثون ليل نهار عن الإرادة الوطنية، كونها إحدى التناقضات التاريخية العجيبة.
صحيفة” زمان” التركية