وقد خطا العلم خَطوات كبيرة في عالم الخلايا والجينات حتى اكتشفت الخريطة الجينية للإنسان، وبذلك فقد فتحت آفاقا جديدة وانتصارات عظيمة على كثير مما تعانيه البشرية، حيث يمكن عن طريقها التعرف على كثير من أمراض الشخص صاحب الخريطة وصفاته، واكتشاف أمراض الجينات، وعاهات الأجنة في وقت مبكر، إضافة إلى تحسين الإنتاج وتكثيره في عالم النبات والحيوان، والاستفادة منها لزراعة الأعضاء ونحوها.
وقد خَطت البحوث والمختبرات العلمية خُطوات متقدمة نحو العلاج الجيني عن طريق إصلاح هذه الجينات، أو استئصال الجين المسبب للمرض وتغييره بجين سليم، ومع هذا التقدم الكبير يقول العلماء: إنه لم يكتشف من أسرار DNA سوى 10% وصدق قوله تعالى: ﴿ وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ الإسراء 85.
التلاعب بالجينات
إن التلاعب بالجينات هو أخطر من التلاعب بالذرّة لأنّ الكائنات الحيّة وكما تدلّ على ذلك تسميتها: هي حيّة، تتحرّك، تتنقل، تتكاثر، تنتشر وتتداخل كما تتلاقح وتختلط بكائنات حيّة أخرى وأنواع أخرى، والتلوّث الجيني هو تلوّث نهائيّ لا رجعة فيه ولا يمكن محاصرته.
فهذا هو فرنسوا جاكوب الحاصل على جائزة “نوبل” للعلوم صرح منذ سنين في كتابه الشهير: “منطق العالم الحي” بأن “الإنسان أصبح قادرًا على أن يسيطر على التطور نفسه… فقد نتوصل يومًا ما إلى التدخل في تنفيذ البرنامج الوراثي وحتى في بنيته من أجل تصحيح بعض عيوبه، وإدخال بعض الملحقات عليه. وقد نتوصل أيضًا إلى إنتاج نماذج ونسخ مطابقة للأصل عن فرد من الأفراد: رجل سياسي، فنان،، مصارع وذلك حسب الطلب وعلى قدر ما نرغب… ولا شيء يمنع أن نطبق من الآن على الكائنات البشرية طرق الاصطفاء المستخدمة في المخابر على الفئران والأبقار”.
وقد صرح جاك كوهين JacquesCohen العالم الشهير بكل ثقة أنه وفى خلال العشر سنين المقبلة سنتمكن من فرز الأجنة والاستغناء عن تلك التي تحمل عاهات جينية بأنواعها “وما أكثرها” وبالتالي وضع نموذج لخارطة جينومية مثالية فنكون بذلك قد قفزنا من مرحلة العنصرية التي تعتمد اللون والبشرة إلى العنصرية البيولوجية والوراثية.
والخلاصة أن القائمة طويلة والتلاعب بالجينات لا يعرف الحدود.
فهذه أسماك السلمون Salmon زرع فيها جين هرمون النمو لتنمو بسرعة ويفوق وزنها 10 مرات الوزن الطبيعي فتتسبب في كارثة بيئية “انقراض أنواع السمك”.
وهذه حيوانات تبرمج لتصاب بأمراض مختلفة كالصرع والتهاب المفاصل والسرطان ومرض الزهايمر وفقدان الذاكرة، مع العلم أن تعميم نتائج البحوث من الحيوان على الإنسان قد يؤدى في بعض الأحيان إلى نتائج وخيمة وغير متوقعة.
وهذه محاصيل زراعية لم تسلم من التعديل الجيني وذلك بغية التوصل إلى إنتاج أكثر وجودة أفضل. أستطيع القول أن العلماء البيولوجيين يمرون بفترة مراهقة خطرة بتبنيهم مشاريع ضبابية لا يعرفون مدى تأثيراتها.
بين الايجابيات والسلبيات
إذا كان للتلاعب الجيني ايجابيات وفوائد تكون في صالح الإنسان، فإن هناك أخطار وسلبيات لا تمس الحيوان أو النبات فحسب وإنما تمس الإنسان أيضًا.
لا شك أنه لا يمكن التلاعب بالجينات لتحسين أو الحصول على خلق آخر هذا محال عقلا مصداقا لقوله تعالى ” لا تبديل لخلق الله “. وذلك يعني أن هناك قانون علوي الهي يحكم الطبيعة والكون ككل وبذا فإنه لن يستطيع أحد – مهما بلغ من مراتب العلم ومراحل التطور – على تبديل هذا القانون بقانون آخر إطلاقا، فهو سبحانه الذي ضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها فهل بإمكان علماء الجينات والتخليق أن يتحدوا هذا المثل ويثبتوا عكسه… إطلاقا.
والتبديل يعني أن يستحضر الإنسان أو أي مخلوق آخر شيء معين ويضعه مكان الشيء الأصلي ليقوم بوظائفه، لذا لما كان هناك إمكانية لتبديل جين محل غيره ليكون الإنتاج في النهاية مهجنا فهو تضادد صارخ مع القانون الإلهي في الخلق وهذا الخروج عن القانون الأزلي لابد له من أن يفشل شئنا أم أبينا.
إن هناك أشياء بعينها لا تقبل التبديل إطلاقا وقد تحدى بها الله مخلوقاته ” وهذا عمق الإعجاز ” فلم يستطع أحد رغم المحاولات على تخليق بعوضة أو صناعة دم آدمي لاستحالة التبديل والتحويل واستحالة الفكرة من أساسها.
هناك تلاعب في الجينات أي تبديل في الصفات المنسجمة أساسًا في الكائن الواحد أو في غيره من الكائنات… وإن عدم انسجام هذه الصفات سيؤدي إلى كارثة لا يعلم الإنسان اتساعها وأبعادها.
من جانب آخر هناك من يستغل هذا التلاعب لإبراز الإيجابيات وإخفاء السلبيات المرضية، وهذه قطعا لها إيجابيات محدودة هي في الواقع بحاجة لدراسات مستفيضة وبعيدة الأمد ولا يمكن الجزم بإيجابيها من عدمها.
وبرغم ما ذكرناه سابقا فإن الصورة ليست قاتمة تماماً، فهناك جانب إيجابي في الموضوع حيث يعد العلاج الجيني أملاً للعديد من المرضى للعديد من الأمراض التي تستعصي على العلاجات التقليدية مثل الأمراض الوراثية التي يولد بها الإنسان وتنتشر في كل خلية من خلايا جسده كالسرطان وأمراض الحساسية والمناعة الذاتية والإيدز وأمراض القلب والسكر وغيرها من الأمراض المزمنة والخطيرة.
العلاج الجيني
العلاج الجيني: Gene Therapy هي عملية إدخال مورثات سليمة إلى الخلايا لتصحيح عمل المورثات الغير فعالة بغية علاج المرض. يرى العلماء أن العلاج الجيني قد يكون وسيلة فعالة لعلاج العديد من الأمراض الوراثية الناتجة من عطب مورثة واحدة مثل الثلاسيميا والناعور وفقر الدم المنجلي والتليف الكيسي وغيرها من الأمراض.
يشتمل العلاج بالمورثات على ثلاث خطوات رئيسية هي: 1- إزالة خلايا من جسم المريض. 2- إدخال مورثات تصحيحية من أشخاص آخرين أو من أحياء أخرى إلى داخل تلك الخلايا. 3- إعادة الخلايا المستبدلة إلى جسم المريض بوساطة نقل الدم. وحالما تدخل هذه الخلايا إلى الجسم، تعالج المورثات الجديدة المرض بصورة تلقائية. ويقوم الأطباء بتكرار هذه العملية إلى أن يستطيع جسم المريض تزويد نفسه بالمورثات الجديدة من خلال النمو العادي للخلايا.
وترجع أول تجربة لاستخدام العلاج الجيني إلى عام 1990 عندما قام الطبيبان فرنش أندرسون ومايكل بلاز بمحاولة علاج الطفلة” أشانتي دي سليفيا ” من خلال العلاج الجيني عبر إدخال الجين المسئول عن تصنيع إنزيم ADA الهام لعمل الجهاز المناعي، لينقذها من موت محقق، أو من علاج دائم يجب أن تأخذه قد يكلفها 50 ألف دولار سنويا لكي تعيش، ولا يمكن أن توقفه مدى الحياة لإصابتها بمرض نقص المناعة الموروث. وقد لاقت التجربة نجاح جزئي حيث استطاع العلاج تقوية الجهاز المناعي للطفلة بنسبة 40%.
العلاج الجيني للأمراض الوراثية
الأمراض الوراثية هي أمراض يولد بها الإنسان و تكمن في وجود عيوب في المادة الوراثية أو الجينات الموجودة في كل خلية من خلايا جسده و هو ما يجعل مهمة تغييرها مهمة صعبة، و من المعلوم طبياً أن الفيروسات تنقل مادتها الوراثية للخلية لذا تم تجربة الكثير من وسائل النقل معه باستخدام بعض أنواع من الفيروسات، لكي تقوم بتوصيل الجين إلى الخلية المراد الوصول إليها مثل نوع يسمى أدينوفيروس Adenovirus و مع انقسام تلك الخلايا ستقوم بإنتاج المزيد من الخلايا السليمة عبر انقسامها الطبيعي، وذلك في محاولة لعلاج أمراض وراثية مزمنة مثل مرض تليف الرئة الحويصلي Cystic Fibrosis و المنتشر بشكل كبير في مناطق عديدة من العالم.
العلاج الجيني للسرطان
نالت أبحاث السرطان في مجال العلاج الجيني نصيب الأسد، وتوجد اتجاهات كثيرة لاستخدام العلاج الجيني في حالات السرطان كإدخال جين معين إلى الخلايا السرطانية يجعلها تفرز مواد مناعية معينه مثل: الليمفوكاينز، وإنترليوكين –2، وهذه المواد يؤدي وجودها إلى تحفيز المناعة الطبيعية، والجهاز المناعي للإنسان للهجوم على الخلايا السرطانية، ومقاومتها ومحاولة التغلب عليها.
أما المحاولات الأخرى فتأتي من خلال إدخال جين معين لبروتين أحد الفيروسات مثل الهربس، ويسمى “ثايمدين كاينيز” إلى الخلايا السرطانية، وهذا النوع من البروتين الفيروسي، عندما تحمله الخلايا السرطانية، يمكن التعرف عليها و تدميرها من خلال الأدوية المضادة للفيروسات مثل “جان سيكلوفير”، وبذلك يمكن تحديدها والقضاء عليها.
أما المحاولات الأخرى التي تبذل في هذا المجال فتشمل إيقاظ جينات فرامل السرطان التي حدثت بها طفرة منعتها عن العمل، وهي الجينات المثبطة للأورام Tumor Suppressor Genes، بحيث تعود إلى عملها الأصلي، الذي يقضي بأن تأمر الخلية بالانتحار في حالة ما إذا حاولت الخروج عن طبيعتها، والانقسام بصورة عشوائية أو سرطانية.
العلاج الجيني للأمراض الفيروسية مثل الإيدز
توجد بعض المحاولات لاستخدام العلاج الجيني لمقاومة فيروس الإيدز HIV من خلال أكثر من اتجاه، وأحد هذه الاتجاهات يعتمد على محاولات وضع الجينات المحفزة من تركيب فيروس الإيدز، وإدخالها في بعض خلايا الإنسان، مما يحفز الجهاز المناعي على إفراز أجسام مضادة، تستطيع التصدي للعدوى في حالة حدوثها، أو إذا كانت موجودة بالفعل.
الضوابط الشرعية للعلاج بالجينات
يرى الدكتور أحمد كنعان أن القضايا الوراثية تعتبر قضايا مستحدثة تطرق أبوابًا جديدة تمامًا لم يسبق لأهل الفقه أن واجهوها من قبل، وبما أن تلك القضايا يترتب عليها أحكام شرعية عديدة، فإنَّ التجارب والدراسات والبحوث التي تجرى في حقل الهندسة الوراثية يجب أن تخضع لبعض الضوابط الشرعية التي أوجزها فيما يلي:
- بما أن الهندسة الوراثية يمكن أن تُغيِّر التركيبةَ الفطريَّةَ التي رَكَّبَ الخالقُ عزَّ وجلَّ عليها خَلْقَه، فيجب أن يكون حاضراً في أذهاننا – ونحن نخوض في حقل الهندسة الوراثية – ذلك الوعيد الخبيث من إبليس بإغواء آدم لتغيير خلق اللّه، حيث قال: (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ)( النساء:119)؛ وهذا يعني أن نحذر من الوقوع في المحظور، فلا نرتكب مثل هذا التغيير الشيطاني، كأن نستهدف بالهندسة الوراثية مثلاً إنتاج سلالات بشرية متفوِّقة ذات صفات خارقة للعادة كما يتخيَّل بعض العلماء، فهذا الفعل قد يُخِلُّ بالتركيبة العضوية والاجتماعية والنفسية لبني البشر. ولذا فإن التغيير المستهدف بالهندسة الوراثية يجب أن يكون مشروعاً، كأن يكون مثلا لعلاج تشوه أو مرض، أو لإنتاج أعضاء بديلة تنفع في زراعة الأعضاء، وما شابه ذلك من الأغراض المشروعة.
وقد أكد مجلس المجمع الفقهي الإسلامي أنه “لا يجوز استخدامُ أيٍّ من أدوات علم الهندسة الوراثية ووسائله في الأغراض الشَّريرة والعدوانيَّة، وفي كلِّ ما يَحْرُمُ شرعاً، ومن ذلك العبث بشخصيَّة الإنسان ومسئوليته الفردية أو التَّدَخُّل في بنية المورثات بدعوى تحسين السُّلالة البشرية”.
- يجب على المشتغلين بالهندسة الوراثية أن يتجنبوا الممارسات المحرَّمة، مثل التجارب التي تؤدي إلى اختلاط الأنساب ونحوها.
- يجب أن تخضع شتى التجارب والتطبيقات العملية التي تجري في حقل الهندسة الوراثية للإشراف العلمي والشرعي الدقيق من قبل هيئة شرعية علمية متخصِّصة تضم علماء متخصصين بالهندسة الوراثية إلى جانب فقهاء متمرسين بالفقه الطبي، وذلك منعًا لاستغلال هذا العلم في أغراض غير مشروعة، ودرءًا للأخطار المحتملة التي قد تنجم عن العبث في هذا الحقل الحيوي الدقيق.
- من الحكمة عدم التسرع بإبداء الرأي الشرعي في المسائل المتعلقة بالهندسة الوراثية، وإرجاء الحكم فيها حتى تستبين أبعادها بصورة جلية لا تحتمل اللَّبس، وعندئذ يمكن إصدار الحكم الشَّرعي لكل مسألة منها، وهذا الحكم يجب أن يكون مدعمًا بالأدلة الشرعية الوافية، وأن يصاحبه ذكر التحفظات الشرعية إذا لزم الأمر.
- بما أن الإسلام يحض على العلم في شتى أبوابه، فإن مواصلة الدراسات والبحوث في حقل الهندسة الوراثية أمر مرغوب فيه، لما فيه من آمال عريضة تعد بعلاج الكثير من الآفات المستعصية التي لم يهتد الطب إلى علاج ناجع لها حتى الآن.
- بقلم/ محمد السقا عيد
- المصدر: مجلة حراء