تقرير: محمد عبيد الله
(زمان التركية)ــ كشف تقرير تركي لـ”خبراء مكلفين رسميًّا” أن طائرة أف-16 التي، زعمت السلطات حينها أنها قصف مقرّ مديرية أمن أنقرة ليلة انقلاب 2016، لم تقلع أبدًا في تلك الليلة، وأن الطائرة التي زعمت أنها قصفت مقر البرلمان كانت على الأرض أثناء حدوث القصف!
لقد كان الرأي العام أصيب بالدهشة حينما أعلنت القنوات التلفزيونة ليلة 15 تموز / يوليو 2016 أن مقر البرلمان ومديرية أمن أنقرة تعرضا للقصف من قِبل الانقلابيين، وهذا الخبر هو الذي أفاض الكأس وجعل جميع أفراد الشعب يتضامنون ويقفون صفًّا واحدًا في وجه هذا الانقلاب المزعوم.
إثارة مشاعر
لكن المشهد الصادم وسخونة الأحداث منعت الناس من التفكير السليم، ذلك أن الانقلابات العسكرية تقودها عامة القوات البرية وليست القوات الجوية. إذن فما خطب هذه المقاتلات التي كانت تحلّق في أجواء تركيا وتقصف مقرات رسمية في تلك الليلة يا ترى؟!
يظهر كل يوم دليل جديد يثبت أن هذه الصورة الفظيعة، التي خلقها تعرض البرلمان وبعض المقرات الرسمية للقصف، كانت مطلوبة من أجل إثارة مشاعر الناس “القومية” و”الإسلامية”، التي يلعب عليها الحزب الحاكم في تركيا منذ هذا الانقلاب الغاشم على وجه الخصوص، والدفع بهم إلى الشوارع والتضامن مع السلطة السياسية ضد المتهمين بالانقلاب. وذلك من أجل غلق باب الاعتراضات المحتملة على حملات التصفية والاعتقال الموسعة التي خططت السلطة لتنفيذها بحجة التصدي للانقلاب قبيل الانتقال إلى النظام الرئاسي بنكهة تركية، على حد تعبير الرئيس رجب طيب أردوغان.
قصف من الداخل!
فبعد أن نشر الكاتب الصحفي “أحمد نسين”، المعروف بتوجهاته العلمانية، في مقالاته وبرامجه التلفزيونية عديدًا من الأدلة والصور ومقاطع الفيو التي تثبت أن عملية قصف البرلمان تمت من داخل البرلمان لا من خارجه، نشر هذه المرة الكاتب الصحفي جوهري جوفين، رئيس تحرير مجلة “نقطة” التركية سابقًا، أدلة جديدة، استنادًا إلى وثائق المحكمة الرسمية، تكشف زيف الرواية الرسمية لأحداث الانقلاب.
بحسب التقرير الأولي الذي أعده الخبير من القوات الجوية الرائد “أوغراش توبجو”، فإن الطائرة رقم 110 ألقت قنبلة من نوع (جي بي يو-10) على شعبة الطيران التابعة لمديرية أمن أنقرة في الساعة 23:18 من ليلة الانقلاب. وقد وضعت النيابة العامة هذا التقرير الأولي في كراسة رقم 532 ضمن لائحة اتهام قاعدة آكينجي، وذلك على الرغم من أنه لم يتضمّن المعلومات الخاصة بالصندوق الأسود للطائرة، بالإضافة إلى المعطيات المادية الأخرى.
ومن المثير أن الضابط الخبير، الذي حمل هذا التقريرُ توقيعه، هو الرائد “أوغراش توبجو” الذي تبين في وقت لاحق أنه كان في مطار “دالامان” بمدينة موغلا التي كان أردوغان يقضي فيها عطلته، أثناء أحداث الانقلاب، وذلك على الرغم من أنه كان في إجازة صيفية رسميًّا!
وبحسب ملف القضية، فإن نيابة أنقرة التي وضعت يدها على قاعدة آكينجي، المزعوم بأنها كانت معقل الانقلابيين ليلة الانقلاب، كلّفت بعد هذا التقرير الأولي لجنتين فنيتين منفصلتين، إحداهما من القوات الجوية، والثانية من الشركة التركية لصناعات الفضاء توساش (TUSAŞ/TAİ)، بإجراء فحص موسع للصندوق الأسود للطائرات التي انطلقت من قاعدة آكينجي في تلك الليلة، والطائرات التي أطلقت القنابل، والمعلومات الخاصة بمواعيد الإقلاع، ومدة البقاء في الجو، والارتفاع، والسرعة، والوقود المتبقي، وتسجيلات الكاميرا المسمى DVR وما إلى ذلك.
وفقًا لملف القضية، فإنه كانت في قاعدة آكينجي ليلة الانقلاب 77 طائرة، وقامت شركة توساش لصناعات الفضاء بفحص الصندوق الأسود لـ66 طائرة، بينما لم تسمح النيابة بفحص بقية الطائرات البالغ عددها 11 طائرة، وذلك على الرغم من أن العقيد أحمد أوزجتين، المتهم بقصف المقرات الرسمية المذكورة، أكد في المحكمة “وجود طائرات أخرى في ليلة الانقلاب”، وأنها قصفت تلك المقرات، وطالب بفحص جميع طائرات أف-16 المقلعة في تلك الليلة.
الطائرة 110 لم تحلق ليلة الانقلاب!
لكن المثير أن التقرير الموسع الذي أعدته شركة توساش لصناعات الفضاء، والذي يحمل رقم الملف 165613، كشف أن الطائرة رقم 110، المزعوم بأنها قصفت مقر مديرية أمن أنقرة في مذكرة الاتهام، لا تقع ضمن قائمة الطائرات المنطلقة ليلة الانقلاب، وأكد أن آخر طيران لها كان في 14 تموز / يوليو 2016، أي قبل يوم واحد من محاولة الانقلاب!
كما لفت التقرير، القائم على فحص الصندوق الأسود للطائرة بشكل أساسي، إلى أن خزان وقود طائرة رقم 110 كان ممتلئًا، ولم يوجد أي تسجيل للكاميرا DVR وDTC، مع أنه يبدأ التسجيل تلقائيًا عند إقلاع الطائرة، كذلك لم يوجد أي أثر لإطلاق القنبلة بعد فحص قاذفة القنابل للطائرة، لينتهي التقرير إلى عدم إلقاء أي قنبلة من هذه الطائرة ليلة الانقلاب.
وأظهر التقرير ذاته أنه من المستحيل أن تكون الطائرة رقم 105 هي التي قصفت مقر البرلمان، حيث كانت الطائرة على الأرض عندما حدثت عملية قصف البرلمان، وفقًا للمعطيات التي حصلوا عليها خبراء شركة توساش بعد فحص الصندوق الأسود للطائرة.
وبعدما اعتمد قائد قاعدة “آكينجي” العقيد أحمد أوزجتين في دفاعه عن نفسه في جلسة المحاكمة على هذا التقرير، الذي أعدته شركة صناعات الفضاء، ووضع النيابة العامة في موقف حرج، حدث تطور مثير للغاية، إذ توجهت النيابة إلى حذف المعلومة التي تقول “أطلقت القنبلة من الطائرة رقم 110” من مذكرة الاتهام وكتبت بدلاً منها “الطائرة التي قصفت مديرية أمن أنقرة”، من دون ذكر الرقم.
هذه الحقائق ورفض النيابة العامة طلب العسكريين المتهمين بقصف مديرية أمن أنقرة والبرلمان بفحص جميع الطائرات المنطلقة في تلك الليلة، بما فيها 11 طائرة لم تخضع لفحص خبراء شركة صناعات الفضاء، يثير سؤال: “هل هذه الطائرات الـ11 هي التي قامت بالقصف؟ ومن هم الطيارون الذين قادوا تلك الطائرات؟”
زيف الرواية الرسمية
يمكن أن نجد جواب هذا السؤال في تصريحات “شهود القضية”، فإن الضابط برتبة الملازم الأول جانير فيدانجي، والضابط برتبة الرقيب يونس أوزن أكدا بصفتهما “شاهديْن” أنهما عاينا “طيارين متقاعدين” في قاعدة “إنجرليك” ليلة الانقلاب. وكذلك أكد العقيد نهاد آلتنتوب، وهو الذي زوّد جهاز المخابرات بالمعلومات عن سير الأحداث حتى صباح ليلة الانقلاب، أنه كانت هناك طائرات انطلقت من الأرض من دون تشغيل أجهزة الإضاءة وإجراء اتصال لاسلكي مع البرج.
خلاصة القول: التقرير الموسع لشركة صناعات الفضاء ورفض النيابة العامة فحص 11 طائرة من أصل 77 طائرة انطلقت ليلة الانقلاب، يكشف زيف الرواية الرسمية لهذا الانقلاب. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن أردوغان استخدم بعض الضباط المتقاعدين التابعين لحليفه الجديد تنظيم أرجنكون في قصف مقر البرلمان ومديرية الأمن من جانب، (كما فعل من قبله هتلر الذي أحرق البرلمان الألماني لإطلاق حركة تصفية شاملة ضد معارضيه) ومن جانب آخر، دعا أنصاره من المليشيات شبه المسلحة للنزول إلى الشوارع بدلا من القوات الأمنية واستخدمها ضد الطلبة العسكريين العُزل، وذلك لتتشكل الصورة التي يريدها من أجل إضفاء صبغة حقيقية على روايته الرسمية للأحداث. وليس من العبث أن يقول أبو منصور المغربي، سفير داعش لدى تركيا، إنه اجتمع بعناصر من المخابرات التركية في العاصمة أنقرة قبيل المحاولة الانقلابية، وأن يجتمع معاذ الخطيب، رئيس الائتلاف الوطني السوري لقوى المعارضة والثورة سابقًا، برئيس الشؤون الدينية التركية في مقر المخابرات التركية عشية المحاولة الانقلابية.
هذه الحقائق لا تدع مجالاً للشكّ أن أردوغان من دبّر مع حليفيه أرجنكون والجماعات الجهادية هذه المحاولة الانقلابية ليتمكنوا بعدها من إطلاق انقلاب مضاد حقيقي يعيد من خلاله هيكلة المؤسسة العسكرية والسلك البيروقراطي والحياة المدنية.