بقلم: محمد كاميش
لديّ قناعة تامة بأنه يجب علينا ألا ننظر إلى طريقة تعامل شركة الخطوط الجوية التركية مع شكوى أحد المواطنين، على أنها واقعة عادية شخصية، بل على العكس، علينا أن ننظر إليها على أنها موقف يعكس ما يدور داخل “تركيا الجديدة”.
[one_third][box type=”shadow” align=”alignleft” ]يستقبل البرلمان التركي، كل يوم، تعديلات قانونية تغيّر بنية القضاء والإدارات العامة والقطاع الشرطي والوحدات الأمنية كافة، لتتحول تركيا إلى دولة حزبية بشكل أكبر بمرور الأيام. هذا فضلًا عن أنه لا مكان في “تركيا الجديدة” لمن لا يصوّت لحزب العدالة والتنمية في الانتخابات.[/box][/one_third]أريد أن أسرد هذه الواقعة، راجيًا من قرّائي أن يسامحوني للعبارات البذيئة، حيث تبدأ الواقعة بإبلاغ مسافر يدعى كوتسال بايراقدار الشركة بشكواه حول المشكلة التي واجهته خلال عملية الفحص في أثناء رحلته من إسطنبول إلى إزمير. وعندما مرّ يوم على تقديم شكواه دون أن يتلقى ردًا، انتقد الشركة عبر تغريدة نشرها على موقع تويتر للتواصل الاجتماعي على الإنترنت. فرجع إليه مسؤولو الشركة عبر تويتر، وطلبوا منه المعلومات الخاصة برحلته الجوية. فأرسل إليهم المعلومات في رسالة إلكترونية. وسرعان ما أرسلت له الشركة عبر البريد نفسه ردًا أصابه بالدهشة، ذلك أن الرسالة التي كان من المفترض أن تكون قد أُرسلت لإعلامه بوصول رسالته، جاء بها “السيد اللحوح بن اللحوح” بدلًا من اسمه كوتسال بايراقدار.
إن ما حدث يجسّد الحالة المزاجية التي أصبح عليها النظام في تركيا، حيث لا يطيق – أي النظام – أحدًا ينتقده، ولا يتورّع عن تحقير ذلك الشخص لمجرد أنه وجّه إليه أصابع النقد. ولا شك أنه من الجيد أن تعلن الشركة أنها فتحت تحقيقًا مع الموظف الذي أرسل تلك الرسالة. لكني أعتقد أنه يجب فهم الحالة النفسية لهذا الموظف بشكل جيد؛ إذ إنه يرى أن بإمكانه استخدام كل أنواع السباب والتحقير بحق أي شخص تسوِّل له نفسه (!) انتقاد واحدة من أهم المؤسسات التابعة لحكومة حزبه، وأنه لن يحاسَب بأي شكل على هذه المعاملة السيئة. فالحالة المزاجية لهذا الموظف تعبّر عن ثقته في أنه لن يحاسَب على ما اقترف، حيث أصبحت هذه التصرفات معمولًا بها كذلك في سائر المؤسسات الأخرى في “تركيا الجديدة” التي تحوَّلت إلى دولة يسيطر عليها حزب واحد.
[one_third][box type=”shadow” align=”alignleft” ]الحكومة تعتقد أنها تستطيع، من خلال هذه الإجراءات، أن تسيطر على كل شيء، وأن تصل إلى السلطة والقوة المطلقتين. لكنها لا تدري أنها لا يمكن أن تزيد من الضغط لقمع المجتمع أكثر. فمهما كانت لديها القوة، فلن يكون بمقدورها السيطرة على هذا الغليان دون أن تغيّر نظرتها للأمور. كما لن تأمن على مكانها في السلطة مهما امتلكت من صلاحيات وسلطات، ومهما علّقت العمل بالقواعد القانونية، ومهما سحقت معارضيها.[/box][/one_third]للأسف تحوّلت تركيا إلى دولة فقدت جميع مَلَكَاتها العقلية. لا أتحدث هنا عن تصرفات مَن يحكمون تركيا وأفعالهم، فنحن نسمع عبارات متناقضة تمامًا حتى خلال كلمة قصيرة يلقيها أحدهم. ففي أحد الاجتماعات تحدث الرئيس رجب طيب أردوغان بقوله “إذا شرّعت الدولة قوانين وأجبرت مواطنيها على قبولها، فهذا سيتمخض عنه ظلم وليس قانون”. وفي الاجتماع نفسه أرادت امرأة أن توجه سؤالاً إلى وزيرة سؤون الأسرة، فما كان من رجال الأمن إلا أن أخرجوها من القاعة بشكل عنيف، ومن ثم اعتقلوها. أي إن تركيا تعيش في الوقت الراهن حالة مزرية يعتقَل فيها الناس ويساقون إلى أقسام الشرطة فقط لرغبتهم في توجيه أسئلة إلى المسؤولين.
وكأن الحكومة لا تكفيها هذه الإجراءات، فتقرّ كل يوم تعديلات قانونية تذكّرنا بأننا نعود بشكل تدريجي إلى أيام الانقلابات العسكرية والأحكام العرفية؛ إذ منح تعديلٌ أخير أدخلته الحكومة صلاحيات استثنائية إلى المحافظين وقوات الشرطة بشكل لم نرَه حتى أيام انقلاب عام 1980. فالحكومة، من ناحية، تدمر معايير التوظيف في الدولة، ومن ناحية أخرى تزوّد الدولة بصلاحيات استثنائية. ثم يخرج علينا أشخاص مثل موظف شركة الخطوط الجوية التركية لتسيطر عليه مشاعر عدم المساءلة التي تجرئه على ارتكاب خطأ كهذا.
يستقبل البرلمان التركي، كل يوم، تعديلات قانونية تغيّر بنية القضاء والإدارات العامة والقطاع الشرطي والوحدات الأمنية كافة، لتتحول تركيا إلى دولة حزبية بشكل أكبر بمرور الأيام. هذا فضلًا عن أنه لا مكان في “تركيا الجديدة” لمن لا يصوّت لحزب العدالة والتنمية في الانتخابات. فالحكومة تعتقد أنها تستطيع، من خلال هذه الإجراءات، أن تسيطر على كل شيء، وأن تصل إلى السلطة والقوة المطلقتين. لكنها لا تدري أنها لا يمكن أن تزيد من الضغط لقمع المجتمع أكثر. فمهما كانت لديها القوة، فلن يكون بمقدورها السيطرة على هذا الغليان دون أن تغيّر نظرتها للأمور. كما لن تأمن على مكانها في السلطة مهما امتلكت من صلاحيات وسلطات، ومهما علّقت العمل بالقواعد القانونية، ومهما سحقت معارضيها.
للأسف، تحولت تركيا خلال بضع سنوات إلى دولة تُدار من خلال القرارات التفاعلية، لا يُعرف إلى أين تسير، ولا ماذا ستفعل. هذا في الوقت الذي كان الشعب التركي يحلم فيه قبل 4 أعوام بتحقيق الديمقراطية الكاملة. وا أسفاه على حال بلادنا..!