تقرير: محمد عبيد الله
إسطنبول (زمان التركية) – أسقطت محكمة تركية الدعوى المقامة بحق صحيفة “آيدينليك” اليسارية بتهمة “الكشف عن وثائق سرية للدولة” بعد أن نشرت صورًا لشاحنات المخابرات التركية المحملة بالأسلحة، بينما كانت في طريقها إلى المجموعات الإرهابية في سوريا، لكن كان الأمر مختلفا بالنسبة لصحيفة (جمهوريت) التي نشرت عن القضية ذاتها وبعد 5 أشهر من الصحيفة الأولى.
فقد قضت الدائرة الرابعة عشر لمحكمة الصلح والجزاء في إسطنبول بتبرئة ساحة كل من رئيس تحرير صحيفة آيدينليك مصطفى إيلكار والمسؤول عن قسم الاستخبارات في الصحيفة أورهان جيحون من جريمة الكشف عن أسرار الدولة، وذلك بسبب أن الدعوى أقيمت ضدهما بعد مضيّ أربعة أشهر على الفترة القانونية لفتح التحقيق معهما، أي بعد أربعة أشهر من وقوع الحادثة.
إلا أن المحكمة قررت في الوقت ذاته أن تفتح النيابة العامة تحقيقا مع الصحفيين بسبب حيازتهما أوراقًا سرية تخص الدولة.
وقرار إسقاط الدعوى عن صحيفة آيدينليك كشف عن ازدواجة القضاء في تركيا، حيث كانت المحكمة عاقبت في وقت سابق رئيس تحرير جريدة جمهوريت جان دوندار المقيم حاليا في ألمانيا بالحبس، مع أن نشره للصور ومقاطع فيديو شاحنات المخابرات جاء بعد خمسة أشهر من صحيفة آيدينليك.
وعزا مراقبون سبب هذه الازدواجية إلى أن صحيفة آيدينليك مملوكة لمجموعة دوغو برينتشاك، زعيم حزب الوطن، الذي كان محكومًا عليه في قضية أرجنكون “تنظيم الدولة العميقة”، ثم تحالف مع أردوغان وخرج من السجن، ويعتبر حاليًّا من أقوى داعمي الرئيس أردوغان، بل تثبت التصريحات التي يدلي بها برينتشاك من حين لآخر أنه من يحدد السياسة الداخلية والخارجية التركية منذ تحالف أردوغان مع تنظيم أرجنكون.
وهذا القرار لصالح مجموعة آيدينليك وأرجنكون أعاد للأذهان قول دوغو برينتشاك: “جهاز القضاء ليس إلا كلب السلطة السياسية توجهه حيثما شاءت”، و”جهاز القضاء يعيش عصره الذهبي”، وذلك بعد قرار الإفراج عن جميع عناصر تنظيم أرجنكون المعتقلين وبدء حملة مضادة لاعتقال القضاة والنواب العامين والعسكريين وأعضاء المجتمع المدني بحجة أنهم كانوا يقفون وراء قضية وتحقيقات تنظيم أرجنكون.
ورغم تبرئة ساحة صحيفة آيدينليك، أصدرت المحكمة اليوم أيضًا قرارًا بحبس “سليمان بهليفان”، النائب العام المشرف على تحقيقات قضية “المطرقة” (باليوز) الانقلابية ضمن قضية أرجنكون الرئيسية، 13 عاما و6 أشهر، وذلك رغم أن خطة المطرقة الانقلابية العسكرية كانت استهدفت حكومة الرئيس أردوغان وصدر حكم بحبس 236 ضابطًا عسكريًّا، لكن كل هؤلاء الضباط خرجوا من السجن بعد تحالف أردوغان وأرجنكون عقب بدء تحقيقات الفساد والرشوة التاريخية عام 2013.
يذكر أن مدينة هاتاي الحدودية شهدت في 19 يناير/ كانون الثاني 2014 حادثة مدوية صادمة للشارع التركي والدولي، فقد نفذت قوات الشرطة بالتعاون مع قوات الدرك عملية بأمر النيابة العامة ضد ثلاث شاحنات كبيرة تابعة للمخابرات محملة بالأسلحة والصواريخ في طريقها إلى الأراضي السورية.
وقد حاول أردوغان في البداية التكتم على الموضوع، ونفى إيقاف الجيش لهذه الشاحنات، وكذب كونها تابعة للمخابرات، مدعيًا أنها شاحنات مساعدة تابعة لهيئة الإغاثة الإنسانية (IHH)، ثم اضطر إلى القبول عقب نشر الوثائق الخاصة بها، وزعم هذه المرة أن حمولة هذه الشاحنات كانت مساعدات إنسانية وليست أسلحة.
لكن بعد ثلاثة أيام (21 يناير/ كانون الثاني) نشرت صحيفة “آيدينليك” الموالية لأرجنكون صورا فوتوغرافية لحمولة الشاحنات لتكشف أن “المساعدات” المزعومة ما هي إلا عبارة عن صواريخ. ثم نشرت صحيفة جمهوريت في 29 مايو/ أيار 2014 مقطع فيديو يكشف ملابسات إيقاف شاحنات المخابرات والأسلحة بداخلها.
ساق أردوغان ومسئولون حكوميون مزاعم مختلفة بل متناقضة لما كانت تحويه تلك الشاحنات، حيث ادعى أردوغان في 24 يوليو/ تموز 2014 أن الشاحنات كانت تحمل مساعدات إلى التركمان، وهذا كان رأي رئيس الوزراء السابق أحمد داود أوغلو ووزير الداخلية الأسبق “أفكان علاء” أيضا. لكن “ياسين أقطاي”؛ نائب رئيس حزب العدالة والتنمية وأحد مستشاري أردوغان، صرّح بأن الشاحنات كانت محملة بالأسلحة ومتجهة إلى الجيش السوري الحر. بينما أنكر “إبراهيم كالين”؛ كبير مستشاري أردوغان والمتحدث باسم الرئاسة تلك التصريحات، زاعمًا أن المخابرات لم ترسل قط شاحنات أسلحة إلى أي مجموعة من المجموعات المعارضة المقاتلة ضد النظام السوري. ثم خرج عضو حزب الحركة القومية السابق الذي تسلم فيما بعد منصب نائب رئيس الوزراء طغرول توركاش نافيًا كل هذه المزاعم ومقسمًا: “والله إن تلك الشاحنات لم تكن مرسَلة إلى التركمان أبداً.” كما خرج نائب رئيس المجلس التركماني السوري حسين العبد الله لينفي صحة كل مزاعم أردوغان في تصريحات أدلى بها في 4 يناير/ كانون الثاني 2014 قائلاً: “لم نحصل من حكومة أنقرة على أي مساعدات مسلحة أو أي شكل من أشكال المساعدات”.
ورغم هذه التصريحات المتناقضة، ونشر صحيفتي آيدينليك وجمهوريت المعارضتين بشكل صارخ لحركة الخدمة هذه الأخبار، فإن أردوغان المسيطر على معظم وسائل الإعلام سوّق هذه الحادثة باعتبارها دليلاً على تغلغل ما أسماه “الكيان الموازي” داخل المؤسسة العسكرية وانتهز هذه الفرصة لإعداد الرأي العام وتوجيهه إلى ضرورة إجراء التصفيات التي كان يخطط لها منذ زمن وإعادة هيكلة كافة الأجهزة لتتوافق مع المشاريع التي يريد تنفيذها على الأراضي السورية. ومن الغريب جدا اتهام أردوغان لجريدة “جمهوريت” المعروف عنها عداؤها الشديد لحركة الخدمة طوال تاريخها بالتبعية للكيان الموازي -الذي تقول أنقرة أن حركة الخدمة تديره-، والكشف عن أسرار الدولة. وعدم تعرضه لصحيفة آيدينليك مع أنها كانت أول من نشر خبر الشاحنات قبل جمهوريت بنحو 5 أشهر.